المقالة

أوهام التنويرِ والظلامُ الساطعُ

من أعمال التشكيلي الليبي_عبدالمنعم بن ناجي (الصورة: عن عدنان معيتيق)
من أعمال التشكيلي الليبي_عبدالمنعم بن ناجي (الصورة: عن عدنان معيتيق)

مبدئياً لدي توقع أن تستفز هذه المقالة الكثيرين، وكلي أمل في أن يفند ما ذهبت إليه لأن تفنيده عزاء لي شخصيًا أنا المغمور في هذا الوقت بالشك في كل شيء.

كتبت كثيرًا عن ضرورة الفن ورسالته ودور المثقف أو المفكر أو الفنان، وهمِّ الكتابة بشكل عام، وأنا في غمرة الوجد بهذا الوهم الجميل الذي تكرس مثل الأساطير، غير أن الوقوف أحيانًا أمام التاريخ يحسسني أني كنت مولعًا بأوهام يبدو أن لا بد منها، ويغدو الإيمان بهذه الأوهام شبيهًا بتواتر الخرافات في أي ثقافة وتوارثها بشكل يجعل منها عقائد لا يأتيها الباطل من أي اتجاه.

غالبًا ما تعتريني نوبات مساءلة لهذا التاريخ وللذات المنسابة في تياره المهدهِد، فأشعر أن شأن المثقفين الحالمين غير بعيد عن مهمة المشعوذين والسحرة الذين يدعون القدرة على تغيير الحياة والعالم، بل يعتقدون في قرارات أنفسهم أنهم مكلفون برسالة شبه غيبية تجعلهم يحلمون نيابة عن الآخرين، أو يتجشمون عناء صعوبات هداياتهم إلى الرشد باعتبارهم الصفوة المختارة التي قدرها أن تجترح المعجزات وتفك الأسرار وتطرح الأسئلة الذكية. وتأتي كتابة التاريخ من قِبل الصفوة لتتواطأ مع هذه الأوهام وتجعل منها تاريخًا. وأجمل ما في الأوهام أنها تثابر وتبتكر وتفعل وتترك أثرًا كما فعلت وتفعل الخرافة. لذلك في لحظات التوقف هذه أتساءل أحيانًا: هل كان للأدب أو الفن دور في صناعة مصائر البشر؟

وعلى المستوى الشخصي أتساءل: ما هو الكتاب الذي أثر في حياتي أو تصوراتي عن هذا العالم، وأقصد في هذا السياق كتاب رواية أو شعر أو نقد أو ما يحفها من نثر أدبي، وأكتشف دون تحامل أنْ لا ثمة كتاب ترك أثره فيَّ أنا القاريء الذي يحاول أن يكتب مثل هذه الكتب أو يتطفل عليها بالنقد، ما بالك بحشود القراء الذين يبحثون عن الترفيه وتزجية الوقت. لا ثمة كتاب ترك أثره في، وتقريبًا جل الكتب التي أقرؤها أنساها بعد حين أو مباشرة ما عدا الروايات التي شاء لها الحظ أن تتحول إلى أفلام سينمائية، أو ما تحول من حكايات إلى أفلام كارتونية، أو القصائد التي تحولت إلى أغانٍ، ما يجعل كل صنوف الكتابة هذه تدخل حيز الترفيه في مجتمعات تحركها عوامل أخرى فاعلة لا تمت للحبر بصلة. وحين نراجع التاريخ دون ضغوط من هذه الأوهام سنكتشف أن المؤثرات فيه ثلاثة فروع لا يمكن القفز عليها: الدين والعلم، والميديا فيما بعد، وبالتالي فليس من الوجيه أن نطلب من الإبداع أو من المبدع عمومًا ما ليس في مكنته بل ما ليس في اختصاص ممارسته.

لدينا شطط بالأسئلة، وتبجح بالكتابة التي تطرح الأسئلة، لكن البشر متخمون بالأسئلة ويحتاجون إلى إجابات، وما يلبي حاجتهم للإجابات هي الثلاثة صنوف التي ذكرتها، وبين هذه الأقانيم الثلاثة تآزر طبيعي من أجل الهيمنة على تشكيل الوعي والرأي واختراع الحقيقة على قدر ما تتطلبه المصالح، وبعيدًا عن كل هذا سيقبع فنان أو مبدع أو شاعر يكتب عن الحب والسلام والتعايش وكل الأوهام المؤمن بها، ولا أحد يسمعه في قلب هذا الصخب الذي تثيره وسائط الإعلام والمنابر وتروس المطابع التي تنتج آلاف الأطنان من كتب البيست سيلر التي لا تقول شيئًا.

قرأنا كثيرًا عن عصر الاستنارة، وعن الثورة الفرنسية التي تدين لعصر التنوير ورموزه، وصدقنا هذه الخرافة الجميلة، وحين نرجع إلى ما سجله التاريخ الخالي من الخيال سنكتشف أنها ثورة جياع بسطاء لم يقرأوا كتابًا ولا يعرفون هذه الأسماء، وأنها سرعان ما تحولت إلى بحيرة من الدماء ومن ضجيج المقاصل التي تغص بالرؤوس المقطوعة، وحتى بعض المثقفين الذين حاولوا السيطرة على هذه الثورة وشحنها بالأفكار قطعتْ مقاصلها رؤوسهم تباعًا، ويسجَّل أنها في سنواتها الأولى، أو ما سمي «عهد الإرهاب» قطعت رؤوس أكثر من 40 ألف مدني عبر محاكم ثورية، وتلتها عقود من الديكتاتورية العسكرية وعودة الملكية وهوس بالحروب والتوسع، فأين عصر التنوير من كل ذلك؟ أكثر المؤرخين تفاؤلًا سيقولون إن نتائج هذه الثورة بدأت تظهر بعد أكثر من سبعين سنة دون أن يتخلى عن ربطها بالتنوير.

ونحن ندرك أن فترة سبعين سنة أو ثلاثة أجيال كافية لأن تُحدث تغيرات جذرية في أي مجتمع حتى وإن لم تحدث فيه ثورة. وما حدث بعد هذه الفترة الطويلة كان نتاج صدمات عقلية هائلة تسببت فيها ثورات علمية كبرى وتغيرت فيها النظرة إلى العالم والإنسان فيه، مثلما ظاهرة الربيع العربي وثوراته كانت ناتجة عن ثورة المعلومات وتقنيات التواصل، أججتها مقاطع مصورة نشرت على منصات التواصل، ولا تدين بشيء لما نسميه عصر النهضة أو التنوير العربي أو مفكري القرن العشرين الذين لم نجد لهم أثرًا في ميادين الحراك ولا فيما يحدث الآن. فكان الثالوث السابق ذكره مهندسها حيث بدأت الحشد في العالم السيبراني ثم هبطت به إلى المساجد وخطب الجُمعات، بينما الميديا عبر القنوات الفضائية كانت تؤازر هذا التحالف بما تفبركه من أخبار وبما تؤججه من كراهية، في سعي لتلويث وتشويه هذه الظاهرة التي أعلنت عن جمالها في أيامها الأولى.

فأين التنوير مما عقبه من حقب استعمارية من قبل الدول المحسوبة عليه والتي نكلت بشعوب كاملة في كل أصقاع الأرض وفتكت بالملايين؟ وأين التنوير فيما حدث من حروب طاحنة في أوروبا نفسها طيلة القرون اللاحقة؟ وأين التنوير من أمم خرج منها ما يسمى عصر التنوير تدعم الآن بقوة ــ في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين ــ الكيان الصهيوني الفاشي وهو يخوض حرب إبادة دينية على شعب أعزل فوق أرضه منقولة حية على كل وسائل الإعلام؟ لا أرى إلا عتمة ساطعة في هذا العالم تبرر قتل آلاف الأطفال بكونه دفاع دولة فاشية غازية عن نفسها.

سيكتب أحد ملحمة شعرية أو روائية يعتقد أنها مفصلية ومهمة، وسيتحدث النقاد عما فيها من أسئلة وجودية عميقة، أو استجلاء للمصير البشري ولأزمة الكائن… إلخ، وقلة من القراء النقاد سيحاولون مجاراة هذه المحتوى العميق داخلها، وماذا بعد؟ ثم تمضي غالبًا إلى النسيان وتقبع في أرفف المكتبات مثل ألعاب الأطفال أو القطع الأثرية، أو تتحول إلى عمل درامي أو سينمائي تأخذ فيه التقنية دورًا آخر للترفيه أكثر انتشارًا وإبهارًا، مثلما تشتهر قصيدة عندما تلحن وتغنى وتنتقل إلى درب آخر من فنون الاستعراض. يقول مغني الروك البريطاني، ديفيد بوي، في حوار ختامي معه ــ وهو أيضًا شاعر وممثل ورسام ونحات، ومثقف كبير له فلسفته الخاصة تجاه الحياة والفن والوجود: «إني لا أسعى لأي طرح جديد أو رسائل ثقيلة أبعثها من خلال فني، كلما أسعى إليه أن أكون بارعًا في الترفيه».

رغم ما تحفل به أغانيه من رسائل عن أنسنة هذا العالم وتحويله إلى موسيقى. وفي الحوار نفسه يقر أن «معضلة ما بعد القرن العشرين هي كيف نبتكر إلهنا الجديد». وربما يقول هذا لأنه رأى أن معظم الحروب المرعبة في التاريخ (صليبية أو هلالية أو هيكلية أو بوذية أو كونفوشيوسية) قامت في اعتقاد من خاضوها بأمر الرب أو دفاعًا عن الإله. لكن حديثه المطول عن أن رسالة الفن هي الترفيه ما يعنيني في هذا السياق.

وحتى لا أعمم فيما يخص (الكتب) عمومًا، فمن المفارق أن ثمة كتبًا غيرت حياة البشر أو جزءًا منهم، وقلبتها رأسًا على عقب، أو عقبًا على رأس. كُتب كتبها مفكرون واستلهمها الطغاة، أو ألفها الطغاة أنفسهم وحاولوا فرضها بالقوة كدساتير لشعوب برمتها، على سبيل المثال (الأمير لمكيافيللي، سيكولوجية الجماهير لجوستاف لوبون، الكتاب الأحمر لماو، كفاحي لهتلر، الوصايا للخميني هكذا تكلم زرادشت لنيتشه، رأس المال لماركس، والكتاب الأخضر للقذافي الذي قلب حياتي شخصيًّا وحياة الليبيين كلهم رأسًا على عقب، والقائمة لا تطول كثيرًا) وهي كُتبٌ طُبعت نسخها بالمليارات وقُرر بعضها في مراحل التعليم المختلفة، وبعضها تحول إلى ثورات ثقافية فتكت بالمثقفين والمبدعين وما في رؤوسهم من أحلام أجلوا كتابتها.

دون أن ننسى كُتبًا أخرى في إطار العلم أو البحث غيرت تصوراتنا عن الكون والعالم وأساليب العيش، مثل: أصل الأنواع لداروين، المباديء لنيوتن، تفسير الأحلام لفرويد، ثروة الأمم لآدم سميث، النسبية لأينشتاين، والقائمة تطول بعض الشيء.

إضافة إلى كُتب تحولت إلى أناجيل للحقب الكولينالية الشرسة، أو كاتالوج لكيفية بناء الديكتاتوريات المحصنة وتدجين البشر وأحدثها (48 قانونًا للسطوة: كيف تمسك بزمام القوة) الكتاب الأكثر مبيعًا للكاتب الأميركي روبرت جرين وصدر عام 1998. بينما تحولت تحف الإبداع النثري والشعري الهامسة إلى ما يشبه اللوحات المعلقة على جدران الأسواق المالية، أو تلك الموسيقى التي تُعزف في الفنادق والمطاعم الفخمة كخلفية لرجال أعمال أو عصابات يأكلون ويعقدون الصفقات الضخمة.

رغم ذلك سأظل أكتب الأدب لأني أتسلى وأرفّه عن نفسي، ومن الممكن أن تعثر هذه التسلية على قاريء بَرِم يتسلى بدوره. ثم… لا شيء سوى النسيان، وانتظار الأخبار العاجلة، أسفل الشاشات، عن الحروب وعدد القتلى والمصابين، والأوبئة المتربصة، وحرائق الغابات، وكل ما يهدد وجودنا. وفي هكذا واقع معقد لن يكون الترفيه مهمة سهلة.


بوابة الوسط | 16 يوليو 2024م

مقالات ذات علاقة

ليبيا.. متى نعود إلى بيتنا؟

نجوى بن شتوان

تلبيس إبليس

منصور أبوشناف

الإرهـاب الإلكتروني

خالد السحاتي

اترك تعليق