لم أصدق بعد مضي السنين أن أعود لمدرستي الابتدائية لأسكن بها مع أطفالي، أقيم في فصل سادسة رابع، بالطابق الثاني، نوافذه تبدو أفضل نسبياً من باقي الفصول، وبابه لا يرسل أزيزا مع الريح رغم انه لا يوصد، أسقطت الرطوبة المتمكنة شعارات العهد القديم في كامل المدرسة وكفت المواطنين عناء نسيانه.
يجنبنا قرب الفصل من دورات المياه، عبور الممر الطويل ليلاً، عندما يكون أحد الأولاد بحاجة للحمام ونضطر أن نصحو كلنا لنرافقه، ملفوفين في البطاطين علي ضوء اجهزة الموبايل، البرد قاسي هنا مثل القذائف العشوائية، جعلني افكر في فقراء العالم كيف يعيشون وأنا انتظر ابني أو ابنتي ان يفرغ من قضاء حاجته.
ميزة اخرى للفصل لم اكتشفها سنوات تعليمي، وهي قربه من السلالم، يسهل لنا الهرب السريع إلى اعلى إذا كان الضرب من أسفل وإلى اسفل إذا اشتدت أمطار القصف العشوائي ،. كما يعفينا وجوده مجانبا من الارتطام بشبكة شديدة التعقيد والتداخل من حبال الغسيل تحتل الممر الطويل، لكن عيبه الكبير أنه إذا فاضت احد عشر دورة مياه، كنا أول من يغرق في الخراء… غرقنا هذا العام مرتين أنا والأولاد وتلفت معظم أشياءنا مع اشتداد المعارك وكثافة المطر وتأخر العون.
ورغم ذلك وضعنا في هذه المدرسة يعد الأفضل من سابقتها، البقاء هناك يسبب الجنون أو الجريمة، أحدهم شنق نفسه في ملعب كرة السلة، أحدهم فتح دكانا في الفصل وصار يبيع كل شيء للنازحين بأسعار باهضة، أحدهم سرق ملابس جيرانه من حبال الغسيل، أحدهم دائم الخصومة مع أخرين بسبب السياسة، إحداهن تعمل في فرقة شعبية، كان وجودها كافيا لإحداث انقسام بين من يرونها انسانة جديرة بالبقاء وبين من يرونها ساقطة لا تستحق الحياة قربهم!
الكثير من الصداع النفسي يا صديقتي لولا يد الكشافة امتدت إلي وانتشلتني للمدرسة الحالية!
رغم الأوضاع المعيشية السيئة فابنتي (مي ) تنضج بسرعة ويتورد خداها وكأننا لا نعاني مسغبة، ينقص الغذاء ويفتقر الفيتامينات، وتنتشر الرطوبة ورائحة الأتربة إذا تحركت الرياح ويأسن الماء وتنمو طفيليات خضراء وسوداء في الزوايا ، استغنينا عن الكثير لارتفاع سعره، إننا نعيش عند المستوى الأولى لهرم ماسلو، نفكر في النار والماء والدفء والأمان، ونواجه الذئاب البشرية التي تستغل المحنة وتنمو مخالبها فيها، استغنينا عن الفحم بشراء الحطب وشيئاً فشيئا اعتدنا رائحته فينا، كما تنازلنا عن اللحم والحليب.
أرجو ألا يطول الشتاء كما طالت الحرب والبغضاء.
تغيرت عاداتنا في الأكل والنوم والتصرف، ساعات طويلة في الظلام دون ماء ونار، في عزلة حقيقية عن العالم، نتكافل مع نزلاء الفصول الأخرى ونتبادل معهم ما يمكننا تبادله من أشياء او نتشارك ما يمكننا تشاركه، ليس شيئاً عينياً بالضرورة بل كثيرا ما يكون غناءً أو بكاءً أو كما يفعل اثنان من جيراننا، يتبادلان غناء ” العلم ” رداً على بعضيهما، فمنا من ينخرط معهما غناءً ومنا استماعاً ورحيلاً مع المعاني.
هناك جار مريض بالفشل الكلوي، يغامر الرجال لإيصاله لمستشفى الكلي، الواقع في دائرة القتال، يخططون لعمل شيء لإنقاذه، يتصل أحدهم بصديق أو قريب لتسهيل المهمة وغالبا ما يكون هناك ضوء ضعيف ويد تمتد في اللحظات الاخيرة من خارج المجموعة ، مسكين إنه شاب في الثلاثينات وأب لطفلين. تبلدت زوجته من المعاناة ولم تعد لديها ردات فعل واضحة.
هناك مرضى بالسكري، يسقطون أرضاً مثل أوراق الشجر الهشة، إذ لا يستطيعون الوصول إلى الانسولين بسبب القتال الدائر في الطرق أو وجود قناصة، جارنا التركاوي اقترح ان نجمع ثمن مولد كهربائي لنستعمله جميعنا، رمضان على الأبواب ويبدو أن الوعود بتحرير بنغازي وعودتنا لبيوتنا مجرد هراء اعلامي.
سنحتاج الماء البارد وحفظ بعض الأشياء. أنا أوافقه الرأي وسأعطيهم آخر خاتم في يدي. علمتني المحنة الاستغناء التدريجي، ذات مرة ولد في المدرسة ثلاثة أطفال، لم يكن ثمة ما نوقف به دماء الأمهات، آنذاك قررت قص قميص قطني لمحمد وعمل حافظات لهن، كنت اقص ذراعيه وأبكي فقد بدأ الله فعلاً في تنفيذ قدره معه في أحد مشفيات الأردن.
انظر اللحظة الى السماء من جانب النافذة، لا يوجد نجوم، ادير جهاز الهاتف حتى لا يظهر ضوؤه واعود إلى فراشي قرب الأولاد، أحدهم يمشي في الممر الطويل إلى الحمام، وصوت طفل رضيع بدأ في البكاء، أتلمس على السبورة شيئا ثقيلا أضيفه لثيابي وقاية من البرد، تحولت السبورة إلى مشجب كبير لأشيائنا، كيلا نكون عرضه لبلل إذا دخلت المطر أو فاضت المجاري كالمرات السابقة، أطفالي يستعملونها للرسم والكتابة، نفذ الطباشير فاستعملوا أصابعهم ومخيلتهم لرؤية مالا يُرى.
( مي) وردة تتفتح كل يوم في محيط من الموت الكامل، تلبس فستانها الابيض الذي ارسلته له مثل عروس وتهبط الى فناء المدرسة للعب مع الصغيرات، عندما يهدأ القصف يوم او يومين، اراقبها بين الفينة والاخرى تلعب علي العشب والطين المبتل مع اخيها وتلتقط شيئا من الارض رغم إني لا ارى شيئ، يحزنني أن تمضي طفولتهم في نزوح بلا مدارس وبلا لعب وبلا أمان. لم أكُ اتخيل يوما ان يحدث ذلك وأن أعود بهم إلى مدرستي، تكتب ابنتي على نفس السبورة التي كتبت عليها، شعراً و نثراً وحساب، ترسم قلبا ً به اسم أبيها البعيد و شمسا وراية وسلاح ، جل ماحصلت عليه ذاكرتها من ليبيا.
أما ( علي ) فهو هادئ ويميل إلى تركيب الأشياء غير المتجانسة، ويفكر كثيرا بذراعي أبيه اللتين بترهما الطبيب في الأردن، يقول لي متى نستطيع اللحاق به فعلاجه طال وهو يشتاق إليه كثيراً، تجفف كلماته دموعي وأقول له والدك بطل أعطى ذراعيه لوطنه واكتم في صدري إنني بالإضافة لحرماني متعدد الأوجه، سأحرم مدى حياتي من العناق.
وجدت في جيوبه رسماً لأيدي صناعية، يبدو أنه يكتم تأثره بفقدان أبيه لأعضائه. كنت متأثرة لألمه وفخورة بكبريائه لأنه رفض ان تصوره جمعية محلية مع قفاف مساعدات جلبتها لنا.
عليوه كما يناديه سكان المدرسة، يساعدني دائما في كل شؤون لجوؤنا اشعر بأنه أكبر من عمره وليس مجرد فتى كشافة، إنه رجل حياتي الذي أريد له طفولة هانئة، عندما ينام أغطيه جيدا وأدندن له :
نا ياعليوه تمنيت كبدي مداسك في النهار تعفس عليها وفي الليل تحت راسك.
أما ( ام شديقات) فأقول لها ( ڤابية) من الكلمات أقصد أن تحتوى الفاكهةالتي تحبها وتفتقدها، يا تفاحة قلبي، ياريحانته، يا بطاطة ماما، يا ورده في جناني، لكنها منذ فترة طلبت مني عدم إدراج البطاطا، كما إنني استغنيت عن الجنان حتي لا تسألني متى نعود لبيتنا !
بالأمس غادرتنا إحدى العائلات التي سكنت معنا هنا تسعة اشهر. بكينا كلنا لوداعهم، حصلوا أخيراً على بيت عربي في ضواحي طبرق وسيذهبون للصيام هناك، لكنهم سيأتون لزيارتنا كما وعدوا وهم يعانقوننا بالدموع، أعتقد أنه وعد عاطفي فقط فالواقع أصعب بكثير من أن يفكر المرء في العودة إليه، اننا مجتهدون في ترقيع حياتنا وتجنب النزاعات ما وسعنا ذلك،
في الأيام الخالية من القصف يلعب الرجال كرة القدم ويبعثون جواً من المرح في المدرسة. انهم يعاضدون علي في لفتة انسانية منهم قائلين له: تعال يا عليوهالعب بدلاً عن أبيك ويغدقون عليه عطفاً ومرحاً فيشعر بالفرح، ذات مرة رأيت ولدي سعيداً ويضحك يمسك بمكبر الصوت اليدوي الموجود في الادارة وينقل مجريات المباراة لمن يقفون بالنوافذ ولا يستطيعون مغادرة الفصول.
يجتمع حوله الشباب ويقولون له قل كذا وقل كذا.. ونضحك معاً.
اقترحت بعض المعلمات الاستمرار في تدريس الأولاد كيلا ينسوا، رتبنا لهم وقتا لحصة انجليزي وحصة عربي وحساب. النذر اليسير الذي يجعلهم لا ينقطعون عن الدراسة، فبنغازي منذ سنة لم يذهب بها أحد لجامعة أو مدرسة إلا إذا كان نازحاً لا يجد مأوى.
من لديهم مال استطاعوا الخروج من ليبيا واقامة حياة في البلاد التي ذهبوا اليها، من لديهم أقارب وأصدقاء رائعون في مناطق أخرى استطاعوا النزوح الى هناك وتلقوا المساعدة واستمر اطفالهم في الدراسة، من كان مثلنا على الحصيرة، يعيش نازحا في مدرسة او تجمعا للنازحين ويدبر حياته كيفما تقتضي الظروف.
أريد لولديّ حياة أفضل، أحضنهم في الليل الطويل حتى يمر الوقت والقصف وتنزل دموعي بصمت، أحاول أن اكلمهم عن أي شيء ينسيهم أصوات القصف، فقدت معيني ولا اريد ان يكبران في بلاد يصارعان كل مافيها ليستمرا حيين، لم تكن حياتي مع اليتم سهلة على الاطلاق، أنتِ تعرفين تفاصيل التفاصيل و كم أحاول تجنيبهما ما تعرضت له، بحفظ بقائي لأجلهما.
قتل جارنا في الحرب على الإرهاب، أهله من سكان سرت و زوجته مسكينة شابة سورية صغيرة، المحزن أقيم مأتمه في المدرسة لم يكن ثمة أحد من أهله أو أهلها، إنها تقضي عدتها في أسوء الأوضاع فلا ماء ولا كهرباء ولاخبز، بل حزن وفقد، وطفل صغير يشق طريقه للحياة في بكاء مستمر ومعاناة مع التبول اللاإرادي وسط هذا الخراب، يبكي فاقداً صوابه كلما سمع أصوات القنابل والانفجارات والطيران.
شيخ مسن يتقدم دائماً لتهدئته ويقرأ له القرآن فيشد بلحيته ويشد ويشد.
زرعنا بالأمس بصل وبقدنوس في أحواض النباتات، لندخل في أجواء رمضان ونجد ما نفعل، صار لدينا أصدقاء من القطط التي سكنت المدرسة قبلنا، تشاركنا الطعام ويخفف وجودها ثقل الوقت الطويل على الأطفال، يوجد كلب هرم يقيم هنا منذ زمن بعيد، مع البواب المصري الذي هرب بعد موجة ذبح الأجانب، الكلب هادئ جداً ويساعد وجوده مع القطط على فرز الفضلات، يشاكسه الأولاد يصيحون باسم صاحبه ” بيومي” فينهض من مكانه مقلباً عينيه هنا وهناك وعندما لا يجده يعود للظل والنوم.
بدأ القصف الآن مع صوت طيران ليلي، سأضطر لإطفاء الجهاز وحفظ الرسالة حتى أحصل على نت ورسلها لك، لن أقول الوداع بل إلى لقاء قريب بإذن الله.
ثريا – بنغازي
فصل سادسة رابع
مدرسة الصمود والتصدي
__________________________
نشر بموقع هنا صوتك