كتاب «تلبيس إبليس» لأبي الفرج الجوزي من الكتب التي تعلق بالذهن ولا تفارق العقل، وبالنسبة لي فلقد قرأت هذا الكتاب منذ أربعين سنة تقريبًا وظللت أخرجه من حين لآخر وأقرأ بعض الصفحات منه، ولست هنا لأكتب عن هذا الكتاب ولا عن أهميته وكل ما جعلني أذكره الآن هو فكرة «التلبيس» أو إلباس الحق بالباطل أو الباطل بالحق، التزين والشرعنة والتزيف والشيطنة التي نعيش والتي عاشها «الجوزي» بالتأكيد في عصره.
الشيطان حسب كتاب التلبيس يلبس على المؤمنين كل الشرور بلباس التقوى ومظاهر الورع لتكون ليس شرعية فقط بل تفانيًا في الإخلاص والتقوى، يلبس على الشعراء وعلماء الكلام والفلاسفة والمتصوفة، على المصلين والصائمين والمزكين وحتى على المجاهدين في سبيل الله.
الشيطان في كتاب التلبيس يوسوس ويهمس مزينًا، يسكن داخل العابد المخلص والعالم المتفاني ليوقعهما في حبائله.
فكرة التلبيس، فكرة رائدة وهامة تجعل من كل الأفعال والإنتاجات الفكرية أو الأدبية أو الدينية ثم السياسية والاجتماعية كلها قابلة للمراجعة والتشكيك البحثي ولا حقيقة مطلقة في نتاجات وأفعال البشر، فكل الأفعال والأقوال قد تكون نتاج تلبيس وتحتاج دائمًا للمراجعة والتمحيص.
فكرة «التلبيس»، وهي فكرة إسلامية رائدة وسابقة لكوجيتو «ديكارت»، سار على منهجها أبوحامد الغزالي في كتابه الرائد أيضًا «المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال» وهو سيرة فكرية روحية انطلقت من الشك من أجل اليقين، وأعتبره من أجمل ما كتب الغزالي «أذكر أنني أهديت نسختي منه عام 1978م لمكتبة سجن الكويفية» وكلي أمل أن يقرأه السجناء في ذلك الوقت.
تعلقي بفكرة التلبيس في ذلك الوقت كان طبيعيًا فلقد كنت أحد ضحايا التلبيس، ففي الإعلام والخطابات السياسية في ذلك الوقت كنت ورفاقي من الطلبة «يمينًا رجعيًا وعملاء للإمبريالية» وكنا في الملفات والتحقيقات وتحت الفلقة «يسارًا شيوعيًا» بل وكانت أشعار محمود درويش ومظفر النواب وأغاني شيخ إمام وناس الغيوان وأدبيات المقاومة الفلسطينية أدلة ضدنا، كان التلبيس على أشده في حقنا.
كان تلبيس المصطلحات أحد أهم الأسلحة التي استخدمتها الأنظمة العربية في ذلك الوقت، فكان اليساري يسمى يمينيًا والتقدمي رجعيًا والإسلامي زنديقًا، والفدائي إرهابيًا، وهكذا سلاسل من التلبيس لتصفيد العقل والخيال أيضًا.
التلبيس يبلغ مداه في أيامنا هذه ونتائجه جلية للعيان، فالمواطن في بلداننا تلتبس عليه الأمور تمامًا، ولا يعرف المسلم من الزنديق ولا الديمقراطي من الفاشي، ولا العميل من الوطني، بل وينهمك المختصون في التلبيس ويستخدمون نفس آليات التلبيس القديمة، ويزورون المصطلحات كما ظلوا يفعلون من مصطلح الثورة نفسها إلى المثقف العضوي إلى الدولة المدنية إلى الثورة المضادة.. إلخ إلخ..
الإسلام السياسي يبدو الأكثر فعالية في هذا التلبيس الحديث. فمفهوم الدولة المدنية الذي يعني في حقيقته «الدولة غير الدينية» يلبسونه فيصبح «الدولة غير العسكرية فقط» و«الثورة المضادة» يلبسونه ليصبح «كل الحركات غير الإسلامية» ولتصبح الحركات الإسلامية هي الثورة وما عداها قوى عميلة وخائنة، إن الإسلام السياسي ولافتقاره للمصطلح الثوري في إرثه يلجأ لليسار ويستولي على إرثه المصطلحي، ليلبس على الناس الأمور.
المصطلح في السياسة والثقافة أهم أسلحة التلبيس هذه الأيام، وتعتبر «ديسكات التحرير» الصحفية للجرائد والمواقع الإلكترونية والراديو والتلفزيون أخطر ميادين هذا التلبيس، فهي وإثر التهرب من شروط المهنية غرف جراحات تزييف الوعي، ومزارع للأوهام والحقد.
إن مصطلحات كالثوار والثورة والعدالة والديمقراطية والشهادة والجهاد والمدينة والبادية، والثورة المضادة والأجندة والنضال والشعب، وكلها مصطلحات ظلت تستخدم كسياط لجلد الليبيين لعقود طويلة، تزدهر الآن وينشط استخدامها من أجل تخلف أكثر عبر سرديات العبث والتلبيس التاريخي الذي نكابد هذه الأيام.
___________________
نشر بموقع بوابة الوسط