من أشعار الجن في ليبيا، أبيات منسوبة إلى جن مجهول من سكان قصر “المستاشي”:
“هابا يا قصر المستاشي
ما من مَيْعاد إلّا جاكْ
خيلك يلعبَن لَشْلَاشي
طول نهار عليك عَرَاكْ
مكيالك بالصّاع (الوافي)
وتشيله وَرْمة لوراكْ”
قصر المستاشي قصر روماني في الجبل الأخضر شرق ليبيا، مهجور ويبدو من الأبيات أنه كان متنازع عليه “طول نهار عليك عَرَاك”، بس الأبيات اللي واصلتنا مشتّتة شويّة، قافية (ــافي) مثلا مش ملائمة، والأصح تكون (ـاشي). وفي العموم فيه نُسَخ أخرى من الأبيات تدور حول نفس الموضوع، نزاعات مسلحة ربما لها علاقة بالحروب الأهلية القديمة، أو بنزاعات تداول الحلفاء والمحور للمواقع الاستراتيجية في الحرب العالمية الثانية، أو ربما يرجع لحقبة بين الاثنين مرتبطة بالحرب مع إيطاليا.
يحكو في سياق الحرب مع إيطاليا أن فيه “محافظيّة” (*فرسان مقاومة) ماتو في معركة، كانو متمترسين في حَقْفَة (*كهف) مازالت أرواحهم ساكنه فيها، وإلى وقت قريب الناس يسمعو في أشعارهم الحزينة اللي أشهرها غنّاوة:
“بعد ركوبنا ع الخيل.. تَـمّينا عفاريت نفجعو!”
نتذكر في طفولتي كيف كنا نحكو ع الجن لما يطفى الضي، وكيف مرة كنا نلعبو لعبة أحكام أنا ونعمان خويا، ولما فاز حكم عليا نمشي ف الليل للحمام انّطّ فوق الخرارة نقول “مرحب بالجن”، يومها بكيت ورفضت وتعاركت معاه لأنه كان مُصِرّ – وهو يضحك – على أن هذا حكم ولازم يُنَفّذ.
ما كنتش مؤمن بالعفاريت، لأن عمي محمد الله يرحمه – لما وريته رسمتي لعفريته تطارد شخص – قاللي “مافيش عفاريت!”، بس تدارك وقال “لكن فيه جنون”. ربما لأن الجن مذكور ف القرآن وكان لازم يوازنلي التصريح، لكن العفريت أيضا مذكور في القرآن ومعروف أنه دار حوار بينه وبين سيدنا سليمان. العفريت مذكور، والجن مذكور، ويحكو في كتب التراث الإسلامي، إن فيه صحابي – هو في الواقع زعيم الخزرج (سعد بن عُباده) اللي امتنع من بيعة أبي بكر الصديق – قتلوه الجن، وكتبو فيه أبيات على غرار أبيات المستاشي:
“نَحْنُ قَتَلْنَا سَيِّدَ الخَزْرَجِ سَــعْـدَ بْــنَ عُـبَــادَه
وَرَمَـيْـنَـاهُ بِـسَـهْـمَـيْـنِ فَـلَــمْ نُـخْــطِ فَــؤَادَه”
أنا في طفولتي ما كنتش مؤمن بالعفاريت بس كنت مؤمن بالجن، ومؤمن بإمكان تلبسه للبشر وإن الطريقة الوحيدة لعلاج الشخص الممسوس، هي بالقرآن.
مع هذا فيه قصة غريبة ربكتني في طفولتي، يحكو عن غفير من الغرب الليبي كان يخدم في بنغازي، نهاية الأربعينيات، وكانت المدينة مليانة بالعفاريت الفاضلة من دمار الحرب العالمية الثانية. وكان في ليلة اميعد مع بناغزه يسكر معاهم، خطمت مراة كبيرة معروف أنها ممسوسة، طلب منهم يمسكوها ويربطوها على عمود الكهرباء، على بال ما يحَمّي سيخ ف النار اللي كانو كابرينها، حَمّى السيخ لين تحمّر وتوقّاه بخرقة وجاها يحاور ف الجن:
“تُطلع ولّا نكُشّك؟”
والجن يعيّط، وهو يعاود بحزم شديد:
“تُطلع ولّا نكُشّك؟”.
والجن يا حرام يعيّط،
“تُطلع ولّا نكُشّك؟”.. طلع الجن، استسلم على رغم أن المعالج سكران وما استعملش القرآن!
في المقابل حتى المعالجين بالقرآن عليهم قصص، يحكو على “سي دومة”، اللي كان مُحّفِّظ ويعالج بالقرآن والرقية الشرعية، كان عنده ممارسات مشبوهة مع الجن، كان يمسك فيهم ويحبس لأغراض مش مفهومة، مرة كان مترصّد لجن معروف يرجى فيه من سنين، وبدا أن هذي المرة الجن غافل ومتاح للاصطياد أخيرا، وقبل لحظات من القبض على الجن الساهي، مرّ عَيّل من طلبته ف الخلوة يسَمّع ف الثمن بصوت عالي، الجن سمع القرآن هرب، و”سي دومة” – تحت وطأة حسرة الخسارة – يجري ورا العَيّل ويكَفّخ فيه: “هذا وقت قرآن يا فرخ الحرام؟ هذا وقت قرآن!”.
حكايات الجن والعفاريت متجذّرة ف المجتمع اللي نشأت فيه، ومكثّفة أكثر في الجبل الأخضر (موطن أمي) ومرتبطة بالكهوف ومنابع الماء والمنازل القديمة، فيه أبيات منسوبة لعفريته في بير، تطحن ع الرحى وتقول:
“يا ذبحتي بالموس يا مَـحْرَشها
يا عزقتي ف البير يا مَوْحَشها”
فيه حوش أبيض قديم ومهجور في “البيّاضة” يجي على يمين الطريق وأنت ماشي مشَرّق شور البيضاء، الحوش فوق تلّ واضح ومحودد بشبَردَق (*أسلاك شائكة)، معروف بـ”حوش العفريته”. فيه حكايات متداولة عن شهود عيان، لكن مش معروف طبيعة العفاريت اللي فيه.
في خُرَافاتنا العائلية يقولو إن الجد الأكبر لأمي – (محمد بن إبراهيم الغماري) واللي كان فقيه مغربي استوطن في البيضاء لما جاها مع سي ابن السنوسي – كان فيه عهد بينه وبين الجن، وكان العهد أنه ما يمسش حد من ذريته، لكن يقولو أيضا أن الجن خان هذا العهد. لكن فيه من يحط ف اللوم على أحد أبناء العائلة أنه هو اللي اخترق العهد بأنه حاول يتعلم طرائق علاج مس الجن، وهذا كان فيه خرق للاتفاق متاع جدنا مع الجن.
ربما حتى نا خرقت العهد، لأني في مرحلة ما من حياتي – وبدافع الفضول الماتع – اطلعت بتمعّن على مجموعة من الكتب اللي وقعت في يدي مصادفة: شمس المعارف الكبرى، الأبريز، الدَّيربي الكبير. وحسيت بانجذاب للـ”مجاز المبدع” (*والتعبير لمالينوفيسكي)، واهتممت بكتابات كلود ليفي شتراوس عن السحر الاتصالي والسحر التشاكلي، وجالست أثناء زياراتي للمغرب – بدافع الفضول الماتع برضو – شَلْواشَة “ساحة الفنا”، وتقمّصت دور اللي جاي يطلب في خَدمات روحيّة.
وعلى سيرة خُرَافاتنا العائلية؛ يحكو أيضا إن سبب ثراء جد والدي – (الحاج محمد الثني الغدامسي) اللي بنى قصر الثني في الجغبوب – أن الجن هو من دَلّه على ثروته لما كان في غدامس، وهي نفس الخرافة اللي ذكرها بعض الكتاب منهم مصطفى محمود في كتاب “رحلة إلى الصحراء”، ويقولو إن المبلغ كان مكافأة لأن جدي عطا (كفن) مجانا لشخص مجهول صادفهم في خَطّ غدامس – تمبوكتو.. عموما مش عارف ما إذا كان الجن اللي كان سبب ثراء جدي هو نفسه الجن السبب في فقري الـمُدقِع!
كانت جدتي الصّهّاديّة – أم والدي – تحكيلي عن العفاريت اللي شافتهن، وكانت تحكي هذي الوقائع على أنها أحداث تاريخية عاشتهن بين الثلاثينيات والستينيات: عفريته مطروح بمصر مثلا، لها صوت جاموس وحركة “بوفطيطة” (*عث اللهب)، قبل الفجر نفخت البطّانية الثقيلة لحد ما ارتفعت ذراع فوق سطح الأرض. في الصبح جارتها المصريّة قالتلها أنه كان فيه خَـمّارة للإنجليز جنب الحوش، تعاركو العام اللي فات، واحد من السكارى قتل الآخر، ومن يومها عفرت المرحوم الإنجليزي السكران.
أما عفريته حوش السيدة حسنية – اللي مكانه حاليا فيما أعتقد الباركينغ قدام مصرف الصحارى في بنغازي – فكانت في الخمسينيات فيما أعتقد، هذي العفريتة من بقايا عفاريت الحرب العالمية الثانية، وسبب عودة ظهورها إن إحدى شغالات السيدة حسنيّة لما كانت تكنس لقت مسمار مدقوق ف الأرض، نزعاته بحسن نيّة دون ما تفهم حجم الكارثة اللي تسببت فيها. المسمار كان “رسيدة”/”رصيدة”. لحبس الجن في هذا البيت المسكون.
أما أعجب عفاريت جديدتي فكان جن متمترس في مرحاض ملحق بجامع صغير على حرف الطريق، عند “سطاطة” تقريبا، أو ربما في مكان آخر، والقصة أنها كانت ماشية من بنغازي للبيضاء، وفي الطريق كان لازم يرتاحو في هذا الجامع ويصلّو المغرب، ولما خشت للمرحاض، حُبست بقوة غامضة وما قدرتش تطلع على رغم أن الباب مفتوح وأنها قادرة على المشي، يعني على طريقة فيلم “الملاك المدمر” للسريالي “بونويل”.
جدتي ترملت بدري، وعاشت الحرب الليبية الإيطالية من أول يوم في دَخلة الطليان لشحّات (*قورينا) 1911 تقريبا، مرورا بالنزوح للمخيلي، ولجالو، ومنها لسيوَه في القطر المصري، لمطروح، لبُورَوّاش، لكرداسة، للحرب العالمية الثانية، لشحات من جديد منتصف الأربعينيات، للمرج القديم (مرج ما قبل الزلزال)، لحي البركة في بنغازي الـمُدَمَّرة في 1945. كان عندها كل الأسباب اللي تخليها تخاف من أي شيء.. ما بالك عفاريت.
عاشت جدتي طفولتها الأولى في شحّات (قورينا)، وهي بيئة خصبة لحكايات السحر والجن والعفاريت، وعادة مرتكز هذه الحكايات هي الـ”مطالب”/ (كهوف وسراديب سريّة مملوءة بالكنوز، يحرسها الجن). كان فتح الـمَطلَب يحتاج معرفة بطقوس السحر وأيضا دراية بجغرافيا المكان، ولهذا كان ديما تجد في القصص تعاون بين أحد السكان المحليين مع حاج مغربي. من أشهر هذي الحكايات قصة “القريد”، اللي أخطأ في الطقس السحري، ونسا يلتزم بالصمت في السرداب حسب تعليمات الحاج المغربي. القريد كان أحد السكان المحليين، غامر في فتح مطلب، لكنه تكلّم تحت وطأة إغراء الجن بالكلام، ودفع ثمن الخطأ باهض: فقد عينه.
مش معروف شنو صار للحاج المغربي.. فيه حكاية أخرى أقدم في شحّات أقل شهرة، عن البنت الحاسيّة اللي سحرها الحاج المراكشي، وخلّاها تكَسّر راسها بروحها على مدخل الكهف، توخّر وترطم الحيط “طااااخ”، توخر وترطم الحيط “طااااخ”، لحد ما تهشّم راسها، وسال الدم اللي فتح المطلَب. كانت طقوس فتح المطالب تحتاج إلى التضحية بأطفال بطرائق فظيعة، وكان لازم الطفل يحمل علامة في عينه. جدّتي كانت ديما تحذّر فيا في طفولتي من إني نحط عيني في عين حد غريب، لأن عيوني – حسب ما قالت – فيها “ثمان مفاتيح يفتحن ثمان مطالب”.
غالبا اللي يحدد مكان الـمَطْلَب هو الحاج المغربي من خلال حلم أو رؤية متكررة يشوفها في بلاده، ويجي يستعين بأحد السكان المحليين للوصول إلى الإحداثيات المحدّدة في المنام.. الأحلام كانت دليل الحجاج مش بس في فتح المطالب؛ بل أيضا في الاستدلال على مراقد الأولياء المجهولة.. فيه رواية تقول إن قبر سيدي رافع (*رويفع بن ثابت الأنصاري)، كان مجهول لمئات السنين، وأن اللي دل الناس عليه هو حاج مغربي (اسمه سيدي بن عيّاد) استنادا على حلم.
من حكايات الجن حَبسهم للـ”وجّاجة”، وهي مياه جوفية حبيسة تحت الأرض في الجبل الأخضر يمتلكها الجن ومعروفة بوجيج صوتها، وما قدروش الناس يفتحوها عقود طويلة، لكن فيه حملة وحدة معروفة أن السكان المحليين استطاعو بتعليمات أحد الفقهاء أنهم يحفرو مستعينين بالقرآن والأوراد، وفعلا تمكنو في النهاية من فتح مَسْرَب تدفّق منه الماء بقوة مدهشة، لكن واحد من الرجال بدل ما يقول “ما شاء الله” قال وهو في ذروة الدهشة “عْطاب عْطاب.. جاك الشراب!”. قُفِل المنبع بواسطة جلمود ضخم، ومعش قدرو يفتحوه مرة أخرى!
حكالي عمي محمد الثني عن الراجل اللي طاح من مبنى عالي في بنغازي مطلع الخمسينيّات، وكيف أن الناس شافوه يهوي ف الريح طابق طابق لحد ما ارتطم بالأرض، تهَشَّم راسه ومات، جو شالوه ومسحو الدم، لكن الدم ما امتسحش كويّس، ومن يومها فيه ريح غامضة تشاكس الناس في مطرح جرّة الدم.. عمي بروحه في ليلة كان لابس كبّوط صوف ثقيل، وفجأة الريح نفخت فيه بقوة لحد ما ارتفع الكبّوط، وانتبه أنه كان – بالضبط – فوق مطرح بركة الدم!
حكايات الجن كثيرة في ليبيا، وموزّعة على اتساع الجغرافيا، ومرتبطة بأماكن ربما أشهرها كهف الجنون، في “غات” أقصى الجنوب الغربي لليبيا، واللي التقاهم الحاج “دَفَّا”، وهو إنسان صادق، حسب الغاتيّين، ومحل ثقة، الحاج “دَفّا” عرف أن الناس اللي التقاهم جن وهرب منهم، ركضا إلى “تهالا” اللي تبعد أكثر من 20 كيلو، والناس صدقوه.
ومن النُكَت السياسيّة العالقة بكهف الجنون، والمتداولة في التسعينيّات، إن الأخ القائد (معمر القذافي) سمع بأن فيه كهف في غات تجتمع فيه الجنون، فقرر يمشي يتفقد الأمر بنفسه، وكان القرار الخطير محل ارتياب الحرس الشخصي متاعه اللي حاولو يثنوه عن قراره دون جدوى، وبحسب النكته مشا الأخ القائد للكهف، وخش بروحه، وقعد الحرس ينتظر برا، وبعد تأخّر قررو الحراس يقتحمو الكهف، وفعلا اقتحموه وتفاجؤو بمشهد الجنون متحلّقين حول القائد اللي أنهى خطبته فيهم ويهتفو: “عَلّم يا قائد عَلّمنا.. كيف نحقّق مستقبلنا”.
أما آخر ما يحضرني الآن، فهي أن البنت اللي فكت الرصيدة في حوش السيدة حسنية، كانت بايته هي وأختها في نفس الليلة. وفي نص الليل يطلقن الصريخ وينوض الحوش كلّه. البنت الكبيرة (راضية) قالت “أنا ما نندري على شي، أختي صرّخت، صرّخت”، أما الصغيرة – (سالمة)، اللي فكّت المسمار الكبير ف الصبح، واللي يقولو مكشوف عنها الحجاب – قالت “يا ستي، تاق عليّ راجل طويييل، ظهره واصل للسقف ومنحني، تلفّت عَليّ صرّخت”..
مارس. 2021
ملاحظة: ارتفاع السقف 3.5 متر تقريبا.