المقالة

في وداع الأستاذ الذي فتح لي قلاع صاحبة الجلالة إدريس ابن الطيب

جريمته أنه كان يفكر وجريرته أنه حفيد المجاهد الفضيل بوعم

الصورة من تصوير الأستاذ عزالدين عبدالكريم، في السبعينات ولم تنشر من قبل الأبيات من قصيدة له في رثاء الشاعر السنوسي حبيب.
الصورة من تصوير الأستاذ عزالدين عبدالكريم، في السبعينات ولم تنشر من قبل الأبيات من قصيدة له في رثاء الشاعر السنوسي حبيب.

أبعدني كثير من الوجع لأيام عن الكتابة ، ومن غرائب الصدف و الأقدار أنني أعود اليوم بسبب وجع آخر غير قابل للوصف ، و لا ينتظر الكتمان طويلاً  ، فمنذ تلقيت خبر انتقال  الصديق العزيز الكاتب و الشاعر و الأديب و المناضل ” إدريس ابن الطيب ” الى الرفيق الأعلى ، و حتى كتابتي هذه السطور أعترف بأنني غير قادر على تحديد نوع المشاعر التي اعترتني ، والتي عصفت بي إلى مجاهل ممزوجة بين ما تفرضه حالة الفقد  لخسارة ركيزة أدبيه كشاعر و أديب ليبي ، و شعور بخسارة  براحاً إنسانياً كان جاهزاً للتعاطي معي متى شئت بحنان مرهف ، و جدية لا تتفه ما أطرحه …. لكن الأبرز في ما يتقاذفه سيل الذكريات معه، أنه من فتح لي بوابة صاحبة الجلالة ” الصحافة ” ودفع بي، وحتى عندما تضج أعماقي كان يطاردني للعودة الى ديار الصحافة.

لكنني في جانب آخر وعلى ما أحاول التذكر فيما قاساه، فقد ألخص المحصلة في أن جريمته كانت أنه دائم التفكير، وجريرته التي لا يجب أن يحاسب عليها تمثلت في كونه حفيد المجاهد الليبي الفضيل بوعمر، الذي تقاسم مع شيخ الشهداء عمر المختار فترات مجابهة الاستعمار الإيطالي.

الحدث وككل الأحداث المأساوية التي تهز الوجدان، كان كفيلاً باستدعاء التفاصيل، والتفاصيل ترجعني لأسباب العلاقة التي بدأت منذ بداية السبعينيات، السبعينات وقت التقاطي لصورته هذه ” غير المنشورة سابقاً “، وهذه الأسباب عائدة الى ” الحرف ” الذي فُتنت به وكنت قد دخلت معه معارك حتى سيطرت عليه بفك طلاسم انحناءاته ونقاطه القافزة هنا وهناك، وذلك منذ كنت في الرابعة من عمري، والتي تطورت عبر السنين بانغماسي لزمن حاضناً لوحاً لتعلم القرآن الكريم على يد أحد المشايخ في ” الكتاتيب ” المنتشرة …. و عبر سنوات النمو بقى الحرف لصيقاً بي ، حتى  و كأنه قد أصبح مكوناً خفياً من مكونات الجسد … خاصة بعد أن تلقفتني حروف مصطفى المنفلوطي ، و مصطفى صادق الرافعي ، وعلي الجارم ، و محمد  فريد أبوحديد و غيرهم كُثر ،  اللذين شكلوا و رسخوا ذائقتي الأدبية ، و لأن حضور هذا الحرف كان طاغياً ، فقد نتج عن الانصهار فيه أن كتبت أولى مقالات الرأي في سن العاشرة و في جريدة ” الطليعة ” بطلب من رئيسها و ليس في شأن طفولي … و سأتجاوز هنا عن التفاصيل ، حتى لا تتداخل الحكايات عند الراوي على رأي العزيز منصور بوشناف .

في السبعينيات … ومع انغماسي في العمل الإذاعي الذي كان يتطلب نوعاً ميسراً من الكتابة للبرامج اليومية التي كنتُ أعدها وأقدمها، كنت وبطبيعة الحال متابعاً وعلى اطلاع لما يُنشر في الصحف والمجلات الليبية والعربية، وبُهرت بقصائد شعرية للشاعر إدريس ابن الطيب، حيث وجدت فيها أسلوباً ولوناً يلامس شغفي بين كل ما كان يُنشر وقتها … إلى أن التقيته …

كان مسؤولاً على القسم الثقافي والفني في صحيفة الفجر الجديد وقتها، التي احتلت مقراً خلف جامع أبورقيبه في العاصمة طرابلس والتي كانت غنية بموضوعاتها، وبمن يكتب فيها، ولأن علاقة مسبقة وطدت خيوطها الإذاعة حتى قبل أن نلتقي، فإن هذه العلاقة زادت ترسخاً بشكل عملي بعد أن اتفقنا بتحريض وتشجيع منه، على إجراء حوارات لتُنشر في الصحيفة … واخترت وقتها حوارات مع الفنانين العرب الذين يزورون البلاد …  فقابلت: سميرة أحمد، ليلي طاهر، خلدون المالح، محد رضا، إحسان صادق وزوجته سميرة بارودي ….. الخ

كان مبتهجاً لأدائي الصحفي درجة أنه كان يقهقه من جديتي التي يغلفها توتر عصبي ظاهر  ، و وصل الأمر إلى أن أطلق علىَّ  بين الأساتذة و الزملاء الصحفيين  لقب ” أسرع صحفي ليبي ” كوني لم أكن أسير وفق السياقات المتبعة في الترتيبات الصحفية ، بل أقوم بكل شيء بمفردي حتى تصل المادة جاهزة للإخراج و الطباعة ، بما في ذلك و في كثير من الأحيان التصوير ، و لأن الأمر كان يتطلب تسجيل الحوارات  صوتياً ثم تفريغها و إعادة صياغتها فقد كان دائم الانبهار لسرعة إنجازي  ،  رغم اختلاف تلك الأزمنة على ما هو معتمد حالياً و ما يعززه الآن  من إمكانيات  تُيسر الأداء ، و في أداء هذه المهام حدثت مواقف استثنائية قد يأتي وقت سردها .

العزيز إدريس ، حيثما جلست معه ، و في أي مناسبة كانت ، كان يُعد منهلاً ثقافياً فريداً ، كونه لا يطرح الأمور بترديد ما تم تثبيته من معلومات و آراء  فحسب ، بل كان يضفي على كل معلومة شيء من روحه ، مما يُعطي للمعارف أبعاداً غير مدونة في الكتب ، و هذا لأنه كان دائم التفكير ولا يتبنى أسلوب الببغاوات في ترديد ما تم تثبيته  ، ومن ميزاته التي تريح طالب التطور و المعرفة في سلك الثقافة ، كان مستعداً  للحوار و حتى  الجدال  في أي وقت ، و حتماً فإن الأدب و الثقافة و الفن ، القسم الذي كان يديره ، ليس وحده الذي يحدد ماهية المواضيع المتداولة ، بل كان يغوص فيها درجة انزلاقه الى ما كان خطير البوح به ، فخيوط  كل شيء تتلامس و قد تغوص في ما يصُنف أنه  سياسياً ، والذي يقود بالتالي لأسلوب إدارة البلاد ، و هنا كان قد حظى بلفت الأنظار الى أطروحاته ” المزعجة ” ، و من البديهي ، فلم تكن أطروحاته لتُستقبل بترحاب ، ومن هنا وُضع تحت المجهر ، الى أن وجد نفسه قد قضى سنوات طويلة في السجن لآرائه و أفكاره التي تجنح عن المسارات  مع آخرين ، والباحث في سيرته الذاتية يجد التفاصيل ….

رغم أن السنين قد فرقتنا، بين وقتٍ وآخر، وأخذت كلٌ منا في دروب بعيدة، إلا أن اللقاءات بمصادفات غريبة، كانت تجدد مشاعر عميقة، لا يمكن للكلمات أن تصيغ ماهيتها ….

في رحلة الصحافة كان خير أستاذ، وفي رحلة الصداقة كان خير ملجأ تسكن إليه الروح، ووضعت العلاقة أوتاداً راسخة عندما أصبح كلٌ منا منغمساً حتى في الخصوصيات العائلية للآخر، ورغم الافتراق لأزمان، لكن وهجاً خاصاً بقي محافظاً على اشتعاله لدى كل منا، تظهر أنواره عندما نلتقي …

إدريس لم يكن يخاف شيئاً، ولم يعرف أسلوب أن يتبنى ما يُعرف بالتقية ولو بأشكال مؤقتة قد تفرضها ظروف ما، لأنه كان يرى فيها مهادنة يكرهها، وجيناته لم تكن لتسمح بهكذا مهادنة، خاصة عندما نعرف ما جابهه جده الفضيل بوعمر، في ملاحم سطرها تاريخ ليبيا.

سأفتقدك كما يفتقدك أهلك، لكن ذكراك ستبقى مشعة بكل ما هو مبعثاً للفخر والاعتزاز، صحفيا وأديباً وشاعراً ومناضلاً وسأتذكر لحظات المشاكسات والخلافات أو الاختلافات وحتى العراك حول المسائل الشخصية جداً، والذي يبدو بأنه نتيجة عدم اتفاق، لكن مبعثه الحقيقي كان ما يفور عند كلينا من ود عامر، لا نبوح به لبعضنا، فلكل منا حالة ومساحة من التمرد.

اسأل العلي القدير أن يتقبلك بعظيم مغفرته وواسع رحمته

والعزاء لأهله وذويه، ومجتمع الثقافة والأدب الليبي.

27 مارس 2023


ملاحظات: الصورة من تصويري في السبعينات ولم تنشر من قبل الأبيات من قصيدة له في رثاء الشاعر السنوسي حبيب.

مقالات ذات علاقة

الكاريكاتير… الفكرة والرسم وخيري الشريف

يسري عبدالعزيز

أسطورة صراع الأجيال

صالح قادربوه

التاريخ الكلي (رؤيةٌ لفهمِ التاريخ الوطني وتفسيره)

المشرف العام

اترك تعليق