أثارت الحركاتُ الصوفية الليبية اهتمام علماء الأنثروبولوجيا والمؤرخين الغربيين؛ من بين هؤلاء الكاتب الفرنسي “جان لوي تريو” صاحب كتاب “تشاد أو الحرب الليبية الفرنسية المنسية” والذي يقول إنه كتب كتابه ذلك بعد أن وقع في حب “السنوسية” ومن الكتاب الآخرين يمكن أن نذكر ايغور شيرستيك والذي أعد رسالة دكتوراة بجامعة لندن عن الحركة العيساوية بعد أن قضى سنوات في ليبيا دافع فيها عن العيساوية الأصلية الخالية من البدع
(1)
يقول جان لوي تريو الباحث بجامعة باريس السابعة “لقد نسينا اليوم السنوسية بعض الشيء بالرغم من أنها جزء مهم من التاريخ الأفريقي وكانت تشكل هاجسا لفرنسا في بداية القرن الماضي فهذه الحركة الصوفية أعاقت التغلغل الفرنسي في القارة “. ولقد وقع الكاتب في حب تلك الحركة كما يقول بعد أن اطلع على افكارها وحكمتها وقدراتها السياسية كما يظهر من مراسلات السنوسية التي تمكن من الاطلاع عليها والمعروف أن تلك الرسائل ما زالت موجودة في الأرشيف الفرنسي وكانت من ضمن الغنائم التي حصلت عليها فرنسا بعد نهبها للمكتبة السنوسية التي كنا قد كتبنا عنها في مقال سابق.
يقول ترويو أن الحركة السنوسية لم تكن حركة “إرهابية” كما صنفتها فرنسا في ذلك الوقت فما قامت به السنوسية هو الدفاع عن أراضي كانت من نصيبها بعد اتفاقيات دولية لم تحترمها فرنسا التي عمدت على تشويه الحركة التي وقفت ضد الفرنسيين ثم في وجه الاحتلال الايطالي في الوقت نفسه.
ويقول إيغور شيرستوك عن السنوسية في أطروحته أنها الحركة الوحيدة التي حملت السلاح في وجه الإيطاليين لكن ذلك لا يعني أن الحركات الصوفية الأخرى لم تسهم في الجهاد. لقد جاهدت الحركات الصوفية كما السنوسية بالمال والنفس بل زادت نوعا آخر من الجهاد … كانت لها طرقها المختلفة كما حدث عند العيساوية الذين اختاروا الجهاد بالمال والنفس والكرامات وهو موضوع لم يتناول كثيرا وتشكل تلك الفكرة العمود الفقري لرسالته التي سنعود إليها في مقالة منفصلة.
(2)
يطرح ايغور شيرستوك في بداية رسالته التي أعدها سؤالا مهما عن سبب نجاح الحركة السنوسية في المجال السياسي فيما فشلت غيرها من الحركات الصوفية ويجد الإجابة على سؤاله ذلك عند الكاتب البريطاني “أيفانز بريتشارد” الذي يقول في كتاب بعنوان “الحركة السنوسية” أن سبب نجاح الحركة مقارنة بالعيساوية هو قدرتها على تنظيم نفسها من الداخل وتمكنها من تنظيمها على المستوى السياسي الأمر الذي فشلت فيه الحركات الأخرى التي لم يكن لها تأثير سياسي يذكر.
ويقول إن الحركة السنوسية بدأت كحركة دينية مصلحة قبل أن تهتم بالسياسة ويذكر أن مؤسس الحركة محمد بن على السنوسي الذي ولد عام 1787 كان قد تعلم على يد الشيخ احمد بن ادريس الفاسي قبل أن يدرس أربعين طريقة صوفية أخرى حتى يؤسس حركته الخاصة به ويقوم ببناء أول الزوايا في مدينة البيضاء عام 1843 لينتقل بعدها إلى الجغبوب.
(3)
لقد شكلت السنوسية عقبةً أمام إيطاليا كما كانت أمام فرنسا وطموحاتها الأفريقية، وفي عام 1922 بدأ صراع دام وطويل يزيد على التسع سنوات بين الحركة السنوسية التي يقودها عمر المختار وجنود السفاح غراسياني فينتهى عندها فصلٌ من فصول تلك المقاومة باستشهاد عمر المختار في سبتمبر عام 1931. وحاولت إيطاليا أن تجر نحوها الطرق الصوفية المختلفة لخلق توازن مع الحركة السنوسية لكنها لم تنجح في ذلك. درست المخابرات الإيطالية توزع الحركات الصوفية بدقة وعرفت طرقها وعاداتها وأماكن انتشارها لكنها لم تتمكن من فهم الطريقة العيساوية بسبب وجود اختلاف واضح بين مختلف الزوايا التي تنتمي إلى تلك الحركة فكان من الصعب تصنيفها والتعامل معها. في نهاية المطاف لم تجد إيطاليا سندا من أي من الطرق الصوفية لمعاداة السنوسية كما يقول الباحثان بيترس وبالينيتي.
لقد قامت الحركة السنوسية بمقاومة الاحتلال الإيطالي بالمال وبالنفس فيما قامت العيساوية بالجهاد بطريقة أخرى سنعود إليها بالتفاصيل في مقالة قادمة.
نشرت المقالة بصحيفة “الحياة الليبية” بتاريخ 28 يونيو 2022