الذكرى الـ13 لرحيل الكاتب الليبي خليفة حسين مصطفى
منذ بدأت الكاتبة القصصية (شريفة القيادي) في كتابة القصة القصيرة وعلى مدى ما يقرب من خمسة وثلاثين عاما ظلت محافظة على نموذجها القصصي التقليدي والمكرر بكل ملابساته وشجونه، نموذج المرأة المقهورة بهمومها الزوجية وأحزانها ودموعها وأوهامها واضطراب وتعقد علاقتها بالطرف الآخر الذي وهو الرجل في كل حالاته، منكبة على نفس القضايا القديمة التي طالما انشغلت بها كاتبات اخريات في اعمالهن الأدبية، فالموضوع واحد ومتشابه بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة، بالرغم من التفاوت في النضج الفني من كاتبة إلى أخرى، أما ما يوحد بينهن جميعا فهو الموقف والخطاب الاجتماعي الذي يتسم بطابع انفعالي وبنبرة زاعقة تضج بالشكوى والمرارة وليس بتمثل موضوعي لجذور القضية المطروحة وتناولها بعمق ووعي .
والحقيقة أن هذا الكم من الأدب القصصي والروائي الذي تكتبه المرأة في ليبيا يكاد يتلخص بعد ان يهدر فيه الكثير من الوقت والجهد والانفاس اللاهثة في تصورات ومفاهيم مهزوزة لحرية المرأة وعلاقتها بالرجل خاصة، والمرأة في مواجهة الموروث الثقافي والاجتماعي المعادي لحريتها وانسانيتها عموما، وكل ذلك يأتي في محاولة غير ناجحة لرصد الابعاد التاريخية لهذه العلاقة الظالمة والبائسة، ومع هذا فإننا تلوح في النهاية بلا ابعاد، فكل ما يتبقى عند فرز تلك الكتابات والتمعن فيها هو هذه التوصية التي لا ندري لمن هي موجهة في الأصل بإدانة الرجل الذي لا يظهر أي قدر من المودة تجاه المرأة وذلك السجان الذي لا يقيم أي وزن لقيم المساواة بين الجنسين، المتقلب والكثير النزوات، الطفل الذي لا يكبر والذي يتلذذ بقهر المرأة وتعذيبها وخنق طموحاتها وآمالها بكل ما لديه من امكانية سادية على ذلك.
وهذا ما يدعونا إلى القاء نظرة على خارطة الأدب النسائي في ليبيا ان صح التعبير قبل أن نتطرق بالحديث عن كتابات شريفة القيادي التي يتميز انتاجها الأدبي بشيء من الغزارة مقارنة بزميلاتها من الكاتبات اللاتي يقاربنها في عمر تجربتها الأدبية وذلك لكي نتعرف على القضايا التي تشكل محور أدب المرأة والهم الذي تعانيه، ثم لتلمس الفروق بين اصوات الطبول التي تثير عواصف من الضجيج الذي لا جدوى منه، وبين الكتابات التي تحمل بوادر رؤية موضوعية ناضجة فنيا واجتماعيا.
ولعل أهم ما يلفت النظر في الادب النسوي في ليبيا هو ضالته من حيث الكم وهو ما يعني قلة ومحدودية ابداعات كاتباتنا بصفة عامة، فأفضل كاتبة لدينا قد لا تتجاوز أعمالها الأدبية المطبوعة ثلاثة أو أربعة كتب موزعة بين القصة والرواية، فنادرة العويتي وهي كاتبة موهوبة لا يزيد نتاجها الأدبي عن مجموعتين قصصيتين ورواية، وكذلك بالنسبة لمرضية النعاس، ولم تكتب فوزية شلابي سوى رواية واحدة “رواية لرجل واحد” أما لطفية القبائلي فقد توقفت عند عتبة مجموعتها القصصية اليتيمة ” أماني معلبة” ثم فقدت القدرة على مزيد من التمني، فيما لم تظهر أصوات نسائية جديدة خلال ربع القرن الأخير من القرن الماضي مثيرة للاهتمام فيما عدا أسماء الطرابلسي.
ان هاجس الحرية والانعتاق الذي يراود الشخصيات الفنية في روايات وقصص الكاتبات الليبيات غالبا ما يتبلور عندهن بدءاً باليوم الذي يودعن فيه مرحلة الطفولة، فتنمو في نفوسهن حاجات ومتطلبات أخرى غير ما كان شائعا في حياتهن خلال المرحلة المبكرة من اعمارهن، ومن هنا يبدأ الصراع والصراخ، اذ أن تلك الشخصية تطل علينا من البوابة القصصية والروائية لفتاة مراهقة، ولكنها ناضجة جسديا وعقليا في اطار مشروع امرأة متخمة بالآمال والطموحات لصالح التقاليد والأعراف السائدة وقوانين الوصاية الابدية التي تكرس المرأة زوجة وأما، وهي في حقيقة الأمر أشبه بالخادمة الملزمة بالكنس والطبخ وتربية الأطفال والعناية بالزوج الأناني وحتى النفس الأخير وبذلك فهي لا تحصل على شيء بأكثر مما تقرره إرادة اجتماعية قد تكون غير مرئية ولكنها مع ذلك صارمة إلى أقصى حدود الصرامة.
وفي هذا السياق تبدو لطفية القبائلي أكثر تعقلا في امانيها المعلبة بإزاء الضغوط الاجتماعية، فاغلب نماذجها النسائية يغلب عليهن الطابع الرومانسي نحو سلوكهن وتفكيرهن، فهن في مجموعهن مخلوقات حالمة مرهفة الشعور يواجهن ازماتهن العاطفية والاجتماعية بالدموع أو بالصمت الى أن تذبل أمانيهن كما تذبل الزهور، أما مرضية النعاس فهي تبحث عن وجه أخر أكثر اشراقا وتفاؤلا ولكنها غالبا ما تتوه عنه وفيما تعلن بطلة ” رواية لرجل واحد تمردها على واقع مريف ومشوه، فان بطلات نادرة العويتي ينصرفن إلى بناء عالم متخيل يلجأن اليه هربا من علم الواقع المعادي لهن.
وبهذا نلاحظ أن كل هؤلاء الكاتبات يهملن الموروث الثقافي والاجتماعي وتراكمه عبر العصور، والذي هو في حقيقته عقبة لا يمكن الاستهانة بها ليس في تحرير المرأة فحسب وانما في تحرير المجتمع برمته من أفاته الكثيرة هيمنة التقاليد الرثة والفكر الخرافي وصور السلوك البدائية، يوم أن كانت المرأة جارية تباع وتشترى في مزادات علنية، يوم أن جرى في عرف الناس أن المرأة مخلوق شيطاني نضرب حولها نطاقا حديديا من الوصايا والمحرمات والقيود التي تطمس الرؤية وتنفي الجسد إلى ما وراء جدار متداع أو ستارة مطبخ، أو تواجه بخطبة دينية متزمتة تجردها من طبيعتها الانسانية.
ومن هنا يمكن أن نتبين أن الطريق الذي سلكته شريفة القيادي تجاه عالمها القصصي هو نفسه الطريق الذي طالما بلطته الاخريات جيئة وذهابا، غير أن شريفة القيادي لم تتجاوز فيما تخوض في أوحال الواقع الاجتماعي واحباطات المرأة ومعاناتها في ظل مجتمع محكوم ومتورم بموروثه من القمع والتسلط الى ما هو ابعد من الجدران الكالحة والابواب المغلقة، فالمرأة في قصصها غالبا ما تظهر كربة بيت تضج بالشكوى من الزوج الذي يهملها أو ينظر اليها كما ينظر إلى قطعة أثاث قديمة، امرأة محرومة من الحنان والحب وليس لأن طموحاتها الانسانية لا يمكن أن تتحقق بين اربعة جدران / ولذا فان صوت الكاتبة في معظم قصصها يخنقه ضعف غريب ينعكس على شخوصها القصصية فلا يكاد المرء يحس بأن لديهن بالفعل قضايا جادة تستحق الاهتمام، فالإحساس بالملل ليس وقفا على المرأة وحدها والخصومات بين الرجل والمرأة قاسم مشترك في كل البيوت وقد تكون واحدة في كل المجتمعات حتى المتحضرة منها وبهذا فإننا نجد أن شريفة القيادي تستدعي شخصياتها القصصية كصور من الذاكرة مغلفة بانطباعات وملاحظات عابرة، ولا تتناولها من خلال تجربة انسانية ونماذج حية ومؤثرة تشارك في صنع الحياة الافضل، ونحو محاربة القيم البالية والمفاهيم الصدئة والاعراف المتخلفة، فعندما تتوقف كاتبتنا عن الخوض في برك العلاقات الزوجية الكئيبة والمربكة نجدها مثلا تكتب قصة خارجة عن السياق وهي “وعدي لها صادق” عن طالب يعود إلى وطنه بعد أن أنهى دراسته العليا في الخارج، لقد ارتبط هناك بفتاة أوروبية في اطار علاقة عاطفية لا تنفصم فيها العواطف عن الجسد فيكون الحب جسرا بينهما، ولكن ما إن يطأ هذا المخلوق أرض بلاده حتى يضع على عينيه عصابة سميكة ويطلب من أمه أن تبحث له عن فتاة صالحة للزواج بشرط الا تكون قد تجاوزت المرحلة الاعدادية في سلم التعليم، باعتبار أن الفتاة في هذه السن قلما تتوفر لها فرصة اقامة علاقة خاصة الا في الحلم مع أي انسان، ولو بإشارة من النافذة، أو تكون قد تعرفت على أي رجل الا في الحلم وهذه القصة بالطبع هي شهادة اخرى على الانغلاق الاجتماعي، وعلى أن الرجل يرضى لنفسه مالا يرضاه للطرف الآخر، فيتحول الى سجان يمارس حياته خارج المنزل بحرية تتجاوز حتى الحدود الاخلاقية وبالمقابل فهو يمنع شريكته حتى من تنفس هواء الشارع.
وعندما نأتي إلى قصة بعنوان (الصراخ) نجدها تمثل احدى النماذج القصصية التي تتكرر في قصص أخرى لنفس الكاتبة، أما ملخص القصة فهو أشبه بمن يكتب بلاغا ضد مجهول يكيل له التهم بلا حساب، فيما يظل المتهم الذي بلا اسم محكوما بالصمت فلا نسمع صوته اطلاقا، ولا حتى في شكل هزة خفيفة من رأسه أو نظرة احتجاج فالذي يملك حق الحديث في اغلب قصص شريفة القيادي هو المرأة التي تروي بصوت متهدج همومها ومتاعبها والمظالم الواقعة على رأسها بما يعبئ اكبر قدر من التعاطف معها والرثاء لها ولا يهم في هذه الحالة ان يكون الفن القصصي هو الضحية، أو ان يحتل المرتبة الثانية في عملية التوصيل والتأثير، وفى غياب الوعي بأن الفن غير الخطابة أو الزعيق، وبذلك تضيع القضية الجوهرية في تيار جارف من الضجة واللغة الانشائية .
ففي قصة (الصراخ) تتجسد على مرمى البصر فتاة مراهقة، تطل من أحد الشوارع متأبطة حقيبتها وبراءتها بيد واحدة، ولكنها تختفي فجأة ولا معنى لأن نقتفي اثرها فهي كغيرها من البنات لا مناص من أن تلبي نداء قدرها المحتوم في الزواج حتى من عابر سبيل، وهذا يعني أن هذه الفتاة أو تلك يتوجب عليها بنص التقاليد والوضع الاجتماعي الذي يكرس المرأة لعبة ووظيفة ثانية للرجل ان تهجر المدرسة وتطوي طموحاتها ثم تختفي في الوجود لكي تلحق بأسراب النساء المتزوجات اللاتي يقضين حياتهن في تلك المرحلة اليومية البائسة ما بين المطبخ وغرفة النوم.
والغريب في الامر ان النموذج النسائي الذي ارتبطت به شريفة القيادي وهي تمسك بالقلم لتجرب حظها في الكتابة الأدبية في أوائل الستينات من القرن العشرين هو نفسه النموذج الذي ظل يعيش ويكبر في اعماقها برغم تغير الظروف والتبدلات التي طرأت على المجتمع الليبي في ربع القرن الأخير، بما في ذلك اصدار القوانين التي هي لصالح المرأة وحماية حقوقها، ثم خروج المرأة للعمل وتحررها الاجتماعي والاقتصادي فنموذج القهر والمرأة المكسورة الجناح نجدها حتى في قصص مكتوبة في تسعينات القرن العشرين، كما هو الحال في قصة (مريضة) وقصة (عندما نرتكب الاثم) وكذلك في قصة (وسيلة حماية) وقصة (نبض القلب) إلى غيرها من القصص المنشورة في كتاب شريفة القيادي (مائة قصة قصيرة).
وبهذا فأنه يمكن القول ان كل ما فعلته شريفة القيادي خلال اربعة عقود من الكفاح الأدبي هو التأكيد على أن المهانة والقهر والاحتقار هو قدر المرأة في كل الاحوال وكل الظروف، مع أنها ليست بالضرورة كذلك، وخاصة أن يد الزمن قد محت صورة تلك المرأة المضطهدة لتحل محلها امرأة أخرى متفتحة على الحياة وقوية الشخصية، بل نجدها مستبدة احيانا بسلاح الجمال والفتنة ان لم يكن بسلاح الارادة والعلم ولعل هذا ايضا مما جعل شريفة القيادي تواصل كتابة القصة – التقرير- التي نطالع فيها وقائع القصة ولكن من طرف واحد مما اضعف من القيمة الفنية لأعمالها الادبية القديمة والجديدة.
ولكن كل ذلك لا يمنعنا من ان نضيف أن شريفة القيادي هي احدى رائدات فن القصة القصيرة النسائية وفن القصة بشكل عام في ليبيا، كما انها رائدة ايضا في العمل الثقافي تمكنت من أن تشق طريقها بقوة الإرادة إلى مواقع متقدمة لتكون احدى اعضاء هيئة التدريس بجامعة الفاتح، ويعد كتابها (رحلة القلم النسائي) دراسة غير مسبوقة في مجاله، وهكذا فهي تستحق منا كل التقدير والاجلال بجهودها وأدبها في الحلم والكتابة من اجل غد أفضل لكل الناس.
الفصول الأربعة | رقم العدد: 86، 01 أبريل 2001م.