الطيوب | متابعة وتصوير : مهنَّد سليمان
نظمت كلية الفنون والإعلام بجامعة طرابلس ضمن موسمها الأكاديمي والثقافي محاضرة علمية استضافت فيها الباحث في مجال الفلسفة الدكتور “نجيب الحصادي” جاءت بعنوان (قواسم مشتركة بين أسباب ضعف الأداء الفني والأداء البحثي في بلادنا)، وذلك وسط حضور لفيف من النخب الفكرية والثقافية صباح يوم الثلاثاء 17 ديسمبر الجاري بمسرح الكلية فيما تولى تقديم المحاضرة الدكتور “نور الدين سعيد” حيث قرأ نبذة تعريفية عن السيرة الذاتية والمهنية للدكتور الحصادي.
خطرات احترازية
من جانبه استهل الدكتور الحصادي محاضرته بتوطئة أوضح من خلالها أن محاور محاضرته ترتكز على عدد من الاحترازات هي محض خطرات تتكئ على انطباعات مؤسسة على خبرة لا بأس بها من أداء البحث المحلي في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وعلى خبرة تُعاني من كل بأس بالأداء الفني بمختلف شكوله وبقاعه، وأردف بالقول : إن مبلغ ما أهدف إليه وأريده هو إثارة مجموعة من الأسئلة وإبداء شكوك بغية تحفيز البُحاث على إجراء دراسات علمية، وأضاف الدكتور الحصادي بالقول : إني في هذه المحاضرة بصدد إصدار أحكام حول الفنانين الفنانين والباحثين الليبيين باستخدام صيغة الجمع فلا أزعم التعميم أو الإطلاق بل أقصر سريانها على ما أقدّر أنه قطاع واسع من كليهما، وأكد الدكتور الحصادي في آن الوقت أنه لا مِراء في أن هناك استثناءات جديرة بالتنويه والتقدير أتغاضى عنها ليس تقليلا من شأنها ولا اشتباها في قدراته بقدر ما هو تجنبا لأسلوب الاستدراك المكرور الذي يعرقل سلاسة النقد.
تسويغ البحث عن القواسم المشتركة
كما بيّن الدكتور الحصادي أن الأداءين الفني والبحثي يساهم كل منهما في تعزيز قيمة إنسانية كبرى مغايرة تتمثل في قيمة الحق والحقيقة في حالة الأداء البحثي، وقيمة الجمال في حالة الأداء الفني، وقياسا بين هذين الأداءين لا أغض الطرف عن الفروق الجوهرية القائمة بينهما، ولا أخلط الأوراق وتابع الدكتور الحصادي: إنني أدرك تماما أن العلم والفن نشاطان بشريان مختلفان قاصدا وأساليب، ويعتقد الدكتور الحصادي بأن الأعمال الفنية لا تُعاير بما يثوي فيها من حقائق إلا بقدر ما تُعاير الأعمال البحثية بما تنطوي عليه من جماليات، وفي المقابل أشار الدكتور الحصادي قائلا: إنه على الرغم من أن الوشائج بين العلم والجمال مثلما هي بين الفن والحقيقة ليست قاصرة إنما هي قوية بما يكفي لتسويغ البحث عن قواسم مشتركة بينهما، ويضيف الدكتور الحصادي : ولعل في هذا الأمر حقيقة تتكشف أننا لا نعدم قواسم بين أي كينونتين مهما اختلفتا اختلاف الأرض عن السماء.
التكامل بين الجِدة والأصالة
فيما واصل الدكتور الحصادي سبر محاور المحاضرة المُحمَّلة بروح التساؤل مستشهدا بالمقولة التي تفيد بأن الفن كذبة تُخلصنا من الحقيقة من قبحها وجورها عُريها وسلاطة لسانها علاوة على التعويل على المجاز وفي كل مجاز نأي عن الحقيقة، فيما يشير الدكتور الحصادي أن الدقة في رصد الواقع معيار يحكم كل بحث علمي رصين بينما يُداني العمل الفني الذي يتحرى الدقة بتهمة المباشرة بيد أن هذا لا يحول دون قواسم مشتركة بين هذين النشاطين، ويذكر الدكتور الحصادي بضعة قواسم مما يجمع بين الفن والعلم أبزرها :- حاجة كل منهما إلى الآخر فحاجة الفنان إلى معرفة حقائق إمبريقية(الفلسفة التجريبية) لا تقل عن حاجته إلى مواهب إبداعية، وإزاء ذلك الباحث العلمي الذي يعاني مخياله الفني من قصور سوف تفتقر أعماله إلى الجِدة والأصالة، وأردف الدكتور الحصادي : إن العلم كالفن لا يكاد يُسلِّم بأي مبادئ ولا يكاد يعترف بأي ثوابت ولا موضع فيه لإثبات ولا براح فيه ليقين، وكليهما أي العلم والفن يسمو عن الولاءات والتشيعات بمختلف صنوفها الإقصائية فضلا عن أن كليهما ركن رئيس في الحضارة البشرية لاسيما في قرونها المعاصرة والحديثة.
التماس بين الفن والعلم
بينما عدّد الدكتور الحصادي جوانب التماس أخرى بين الفن والعلم بالقول : إن مفهوم البساطة الذي وإن اكتنفته مسحة جمالية معيار يُركن إليه في تفضيل الفرضيات العلمية في حال تكافؤ الأدلة عليها، والتجربة العلمية الفكرية وهي ممارسة معرفية تستدعي إعمالا مكثفا لملكة الخيال، وأيضا إعمال أساليب البيان وهي تقنية جمالية قد تُوظّف في الإقناع بصحة فرضيات علمية، وأضاف الدكتور الحصادي : لعلنا نجد في الخيال العلمي أوضح قاسم مشترك للعلاقة بين الفن والعلم فمخيال الفنان يرمي بما يبدو مستحيلا في العلم إلى آفاق تحرره من استحالته، واستشهد الدكتور الحصادي بتجارب لرسامين وأدباء استلهموا نواة أعمالهم من التجارب العلمية.
القطيعة بين المؤسستين الفنية والأكاديمية
من جهة أخرى توقف الدكتور الحصادي عند الأداءين البحثي والعلمي في ليبيا إذ سجل ملاحظته قائلا : إن هناك شبه قطيعة بين المؤسسات الفنية وبين المؤسسات الأكاديمية وبين الفنانين وبين الباحثين قياسا بنسبة الأكاديميين اللذين يحضرون أنشطة فنية ونسبة الفنانين اللذين يحضرون أنشطة أكاديمية أو علمية تكاد لا تُذكر، وكذلك يرى الدكتور الحصادي بأن المواهب الفنية كثيرة لكن نزر الفنانين الباحثين قليل، والباحثين الأكاديميين كثر لكن الروح الإبداعية عندهم تعاني من وهن بادٍ لكل عيان.
عوامل تنامي ظاهرة القطيعة
فيما علل الدكتور الحصادي أسباب تنامي هذه الظاهرة قائلا : غياب عادة القراءة عند الفنانين والباحثين وحتى إذا قرأ الواحد منهم فإن قراءاته لا تترجم ولا تنعكس على أعماله وغالبا ما تنحصر داخل المجال الأقرب إلى إبداعه الفني أو مساهمته العلمية فضلا عن عدم اتقانهم للغات الأجنبية الأخرى ما يُورث هذا العوز قطيعة مع آداب شعوب وأمم أخرى وعزلة عن فنونها وعلومها وأعرافها وقيمها ورؤاها في العالم والحياة، واستدرك الدكتور الحصادي بالقول : صحيح إن الترجمة تُجسّر الهوة بين الثقافات الإنسانية ولكن كم عدد ما يترجم إلى العربية من كتب تتصل بأي فن من الفنون وبأي علم من العلوم، ويتصور الدكتور الحصادي : إن أسوأ من ذلك أننا نفتقد في فنانينا وبُحّاثنا إجادة اللغة العربية لغتهم الأم وقصورهم في فهم ظلال معاني ألفاظها و تذوق بديع أساليبها، ويؤكد الدكتور الحصادي : لا يتوقع بطبيعة الحال ممن لا يعتاد القراءة ولا يحسن حتى لغته الأم أن يستوفي استحقاقات الجِدة والأصالة. مشيرا أيضا إلى عدم وجود حركة نقدية جادة تواكب ما يُنجز من أعمال وتمارس ضغوط تدفع إلى تزويد ما ينتج من أعمال.