أصداء فوز العمل الروائي الأول لمحمد النعّاس بجائزة البوكر العربية لعام 2022م ماتزال تُحدث وقعا مثيرا في أوساط المثقفين وجمهور القرّاء، ولعلنا في المنطلق نلحظ حالة من الحِراك الجدلي على (خبز على طاولة الخال ميلاد) وهو وإن بدأ يأخذ أبعادا أخرى بيد أنه حراك صحي وضروري يقود لمعرفة واقعنا المحلي فما أحوجنا لأعمال أدبية تضع المرآة أمامنا لنُبصر مواطن الضعف ونتأمل فجوات القبح التي نحاول إيهام أنفسنا بأننا براء منها براءة الذنب من دم ابن يعقوب، لابد لنا من هزة تشوش علينا طمأنينة الوهم الذي استمرأ مواطنينا التعايش معه، والإنتاجات الإبداعية العظيمة ليس منوطا بها أن تُربِّت على جبين المجتمع وتضع قبلة حانية على أبواب أحلامه إنما الكتابة عمل إنقلابي كما يقول الشاعر الراحل “نزار قباني” فما جدوى بأن تجيء قصيدة أو رواية ما متناغمة مع مشاعر المحيط الاجتماعي هل المبدع مطالب أمام مجتمعه أن يُسكّن الأوجاع ويُخدر المرضى قبل الولوج لغرفة العمليات؟! ومعادلة المكاشفة ونفض الغبار عن إشكاليات ثقافة الأفراد والجماعة بأسلوب أدبي عالٍ نقول إن هذه المعادلة إذا لم يتبناها المبدع وخرجت عن مساره الإبداعي فلا يعول كثيرا على إبداعه الذي يُصفق له الجمهور ويكتب ما يطلبه القارئ والمستمع.
انتماء الراوي
محمد النعّاس أديب ينتصر للمرة الثانية لأبناء جيله بعد مجموعة (دم أزرق) القصصية الذي يقع بين فكيّ واقع انعدم الوزن، يحمل على كتفيه حكاية منسوجة بعرق القاع ومفاتيح ماوراء الأبواب الموصدة، فهو ينجح بجرأة هيأتها له ربما ظروف ما بعد أحداث فبراير 2011م بينما ظل جيل القصة والرواية السابق لمحمد النعّاس أسيرا لشبح مخاوفه تارة مداهنا لدهاقنة الحكم وتارة أخرى ملتزما بصمت الحجر الأصمّ، جعلت مبدع الأمس يهرب لماضٍ سحيق لا نعرف من زمنه سوى الأساطير المروية عن نمور من ورق بغية افتعال حبكة مشوقة ليصبح العمل الروائي بين أيدينا عمل مغترب عن صوت حاضره وانفعالات مستقبله مع استثناء بعض التجارب الروائية الهامة.
رجولة مفتعلة
ونصطدم مع ميلاد بمفهوم الرجولة الهلامي والزائف الذي يضع الولد (الذكر) منذ ولادته في إطار جاهز ليس له من بُد إلا أن يكون جزءًا من أبعاده، كيف يكون الرجل ؟ وأين يُصنع الرجال ؟ ثم هل للرجولة تعريف ؟ هل الرجل هو مَن يستخدم جانبه الوحشي ؟ هل هو ذاك الذي يتحدث بصوت أجش ؟ هل الذي يمارس الوصاية الأخلاقية على نساء بيته ؟ هل على هذا النحو تكون رجلا وميلاد أو ميلو ولد نشأ وتربى بين صالحة وصفاء وصباح أخواته البنات اللائي كنّا يسمحن له بأن يظفر لهن شعورهن وينزع عنهن الشعر الزائد عن سياقنهن وأمه التي تحرص على تخضيب إصبعه الخنصر بالحناء استيقظ وعيه على معطيات أنثوية محضة في مقابل موضوعي مثله والده وابن عمه “العبسي” واستهجانهما طوال الوقت لسلوكه المائع لقربه من النساء جميع هذه العوامل تضافرت لتشويه سجية ميلاد وسلخه من جلده بأن يكون (رجلا) يشار له بالبنان.
الإنسلاخ
(في عيش ما تبقى لي من حياتي برفقتها لم أجد نفسي على طبيعتها مع أي امرأة خارج دائرة أخواتي وأمي، وها هي المرأة الوحيدة التي يمكنني أن أبقى معها دون أن ترى في ذلك أمرا مريبا).
حتى “زينب” زوجته التي رآها ميلاد نموذجا متحرر من تلكم الأطر الجاهزة خاب أمله فيها ففي أول محك لهما صاحت في وجهه أنت محض مخنث وزواجك مني لا يتجاوز مسألة أنك فضضت غشاء بكارتي!!، كن رجلا يا ميلاد التحق بالتدريب العسكري المادونا سيتكفل بتدريبك لتتمكن من شكم أخواتك ولجم زوجتك فأنت مشكوك في رجولتك حتى إشعار آخر، المبدأ المِعوج يطرحه الروائي هنا عبر سرد آخاذ يشدك من أذنيك يغوص بك للأماكن وروائحها الحميمة، الظهرة، شوارع وسط البلاد، جربة، بير حسين أماكن تتناقض وتتنافر في خصائصها الجغرافية والحضارية لكنّ لكل منها رونق خاص، وميلاد وسط كل ذلك حاول أن ينقذ ذاتيته من خلال صناعة أشكال وأنواع متنوعة من الخبز والخبيز التي ورثها عن أبيه لكنّه يفشل نعم يفشل بل ينهار حين ينسلخ عن جلده ينسلخ عن ميلاد فيغتال كل شيء بذبحه لزوجته زينب في مشهد سردي سوريالي غزير يختتم به الروائي فصول رائعته.
تدفق الحدث…نتائج مشوّهة
شخوص الرواية تظهر حيّة وتتذكر أنها مرت بطريق ذاكرتك يوما قياسا بقوة تماسكها والتطور التصاعدي لكل شخصية في السياق السردي يُبيّن خصوصية البساطة لدى محمد النعاس الروائي باخلاصه لنبض المكان بكل جموحه وجموده، ما يدفع لطرح تساؤل خطير أين ميلاد الذي كان بوسعه أن يصير أمهر خباز في العالم ويجني أموالا تماثل كنتاكي والماكدونلز، من نحاكم إذن ؟ المجتمع ؟ الدين ؟ آباؤنا أمهاتنا ؟ على من نُلقي باللائمة ؟ نزع ميلاد جلده صار مسخا ولعنة مشوهة : (لا يهم إن كنت قويا وقادرا على اللكم والضرب والركل كما لا يهم إن كنت شجاعا كفاية للقتل من أجلي ما يهم أنني عندما أسمك إصبعك الأصغر أشعر بالسكينة) لقد مسخوك أنتِ أيضا يا زينب قبل أن تعودي إلى العدم، شحنة تُفجّرها رواية خبز على طاولة الخال ميلاد على وجوه الجميع لنهتدي بنتيجة مؤادها أننا نركض بهمة عدّاء إنما للهاوية.