الذكرى الأولى لرحيل الكاتب الليبي إبراهيم حميدان
إبراهيم حميدان
كانت الغرفة تكاد أن تكون ممتلئة بالأشخاص، فبالإضافة إلى أسرّتها الخمسة المشغولة بالمرضى كانت هنالك مجموعات الزوار وقد التفت كل مجموعة حول مريضها، تحاوره، تحدثه، تحاول أن تزيل عن قلبه طبقات الحزن والأسى وتشيع فيه شيئاً من الصبر، شيئاً من السلوى والأمل.
وهو كان هناك، مضجعاً على سريره، ممتقع الوجه، غائر العينين، غزت التجاعيد وجهه وعنقه وكأن عربة الزمن انحدرت به نحو الشيخوخة وهو الذي لم يتجاوز سن الأربعين إلا بسنوات قليلة. كان جسده مغطى تماماً بشرشف أبيض رقيق، فيما عدا وجهه ويديه اللتين كان يستعملهما أثناء الحديث. كان صوته وقوراً، رصيناً، ينم عن فؤاد مطمئن، ونفس صلبة، قوية كالصخر، لم يوهنها الحدث الجليل الذي ألمُّ به. فليس شيئاً هيناً أن تبتر ساق المرء، فإن لم يكن المرء ثابت الجنان، رابط الجأش فإنه قد يتعرض لانهيار نفسي عنيف، تكون له انعكاساته السلبية على حياته في المستقبل، وهذا ما كان يخشاه زواره ذلك اليوم.
كانوا يتوقعونه كاسف البال، مكسور الخاطر يئن ويتوجع، ويرئي نفسه وأسرته التي أمست بلا معيل بعد أن صار عاجزاً عن العمل.
كانت تلك الأفكار تتزاحم في رؤوسهم وهم في طريقهم إليه، غير أنَّ الدهشة عقدت ألسنتهم ساعة أن وقفوا أمامه، وقد بدا رابط الجأش، واثق النفس، راسخ الإيمان بالله وقضائه الذي لا يردّ. وفيها عدا ابنه الصبي الذي ظلُ جالساً على حافة السرير يحدق في ساق أبيه المبتورة بعينين مخضلتين ووجه شاحب ممتقع فيما عدا هذا، فإن کافة زواره ذلك الیوم، کانوا ینظرون إليه في ود وإعجاب وقد زايلتهم كل مشاعر القلق والحزن التي استقرت في قلوبهم ساعة سماعهم النبأ.
فها هو الرجل أمامهم في أحسن الأحوال. ساقه بترت نعم، ولكن إرادته لم تبتر. عزيمته لم تتقوض وروحه لم تزايلها الدعابة ولا فارقها المرح، وها هو يحدثهم في جرس باسم، ينضح بالاعتداد بالنفس، النفس المتماسكة المتينة، التي لا توهنها الملمات ولا تفت فيها الخطوب.
ولقد تباينت آراء الزوار فيما بعد في تفسير ذلك، فبعضهم عزاه إلى تعدد المحن والتجارب المريرة التي مرِّ بها الرجل خلال حياته، والبعض الآخر فسره بإيمان الرجل الشديد بالله وخضوعه لقضائه وقدره، والبعض الآخر أرجعه إلى الروح الساخرة الهازئة بكل شيء.
وحين سأله أحدهم عن بداية المرض معه، استند بكوعيه على الفراش وانسحب بجسده إلى الوراء، متكئاً بظهره على مؤخرة السرير، وشرع يقول:
– في البداية كان عبارة عن دملة صغيرة متقيحة في قدمي، أخذت تفرز سائلا أصفر بشكل دائم مما جعلني أسارع إلى المستوصف العام، هناك فحصني الطبيب فحصاً سريعاً ثم …
وقاطعه أحدهم:
– طبيب باكستاني طبعاً؟
فأجاب المریض مبتسما:
– والله، لا أدري، طبيب باكستاني، باكستالث …
المهم، أخذت أستعمل ذلك الدواء الذي عينه لي الطبيب، ومع مرور الأيام اكتشفت أن قدمي شرعت تلتهب وتتورم، لتصبح حمراء كحبة الطماطم.
عدت للمستوصف العام، وجدت طبيبا اخر، أعطاني دواء مغايراً للأول، وداومت على استعماله، غير أني فوجئت بأن الأمر يزداد سوءاً، لقد تورمت القدم بالكامل واحمرت مقدمة الساق، وأخذت تفوح منها رائحة عفن، تعفنت القدم، وعلى الفور سارعت إلى المستشفى العام، هنالك فحصني الطبيب الأخصائي فحصاً دقيقاً، وأخطرني بأن حالتي تستوجب عملية سريعة لا تحتمل أي تأخير، وأنني إزاء أمرين لا ثالث لهما: إما أن تبتر الساق، أو يستشري السم في جميع أرجاء الجسم.
صمت المريض، وقد أحسٍ أنَّ حلقه قد جف تماماً، مدَّ يده إلى زجاجة مليئة بالماء ليملأ كوباً وضع إلى جانبها على سطح (الكوميدينو) الصغير المجاور لسرير المريض، وفيما كان يعب من تلك الكأس، كانت أنظار الزوار من حوله معلقة به ترمقه باهتمام متزايد ورغبة مطردة في سماع بقية القصة … مسح المريض فمه بكمه ووضع الكأس على (الكومیدينو) واستطرد:
– لم يعد أمامي خيار .. وقلت لنفسي لا مفر من قضاء الله (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم) ثم إذا كانت تلك القدم البشعة المتعفنة ستقضي علي فلماذا أبقي عليها؟ وقلت لهم اقطعوها .. اقطعوها وخلصوني من هذه القدم الشريرة. وفعلا قطعوها وتمت العملية بنجاح باهر والحمد لله لنا)
وصمت المريض مرة أخرى، وران على الحاضرين وجوم أخرس قطعه الصبي في صوت خنقه الحزن والرغبة المكبوتة في البکاء:
– والآن … هل تشعر بوجع في ساقك؟
– كلا، فقط رباطات الشاش التي تضغط على ساقي تؤلمني بعض الشيء.
وسأله أحد اصدقائه:
– ألم تفكر في العلاج خارج البلاد؟
– أي خارج هذا وأي داخل يا صديقي العزيز؟ … أقول لك إنه شيء مكتوب .. هل يستطيع (الخارج) أن ينقذني من المکتوب؟
ومضى يجيل النظر في وجوه الحاضرين كأنه يستحثهم على تأییدە فیما قال.
وتمتم بعض الحاضرين:
– صحيح .. مكتوب .. (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله واستطرد المريض بصوت أكثر حماساً:
– يجب ألا نشرك بالله يا جماعة ونقول لو فعلنا كذا لكان كذا، إنها إرادة الله وقضاؤه .. ثم إن العملية تمت بنجاح تام والحمد لله، لقد بتروا ساقي بمنتهى السهولة واليسر .. ما أشطرهم يا أخي في البتر! لقد رأيتهم بعيني هاتين اللتين سيأكلهما الدود يوماً، رأيتهم يقطعون ساقي مثلما يقطع الخشب، دون أن أتوجع أو أطلق آهة ألم واحدة .. كل ذلك بسبب إبر التخدير الرائعة التي زرعوها في فخذي قبل إجراء العملية.
وأيقن الزوار أن الرجل يتمتع بمعنويات مذهلة الرسوخ والتماسك، وأن العملية الجراحية التي أجراها بالأمس لم تفت في عضده على الإطلاق، بل زادته صلابة وثباتاً.
وحين أزف الوقت، سألوه إن كان يحتاج إلى شيء فشكرهم جميعاً. ثم أخذوا يتقدمون نحوه واحداً بعد الآخر، مصافحين إياه بحرارة طاغية، متمنين له الشفاء التام والعودة السريعة إلى الأهل والأسرة، وقال له أحدهم وهو یشد علی یده مبتسمًا:
– صدقني أني أغبطك على هذه الإرادة المتينة والعزيمة الصلبة.
وعندما أتى دور ابنه، انخرط الصبي في البكاء، وهو يحتضن أباه ويغمره بالدموع والقبلات غير أن الأب انتهره في لطف وقال له:
– هيا لقد صرت رجلا يا عمر .. أنت المسؤول الآن عن البيت … بلغ سلامي لأمك وإخوتك، وأعلمهم أني بأحسن الأحوال، انسحب الفتى مطرق الرأس دامع العينين، ورفع المريض يده مودعاً زواره الذين شرعوا يغادرون الغرفة واحداً تلو الآخر.
عاد الهدوء إلى الغرفة. التفت إلى بقية المرضى، هم أيضاً غادروهم زوارهم. انتهت الزيارة إذن، وعادت الحياة الروتينية إلى المستشفى، تشاغل بالنظر إلى السقف، أحس بشيء حارق، كاوٍ يلهب أعماقه وبغصة شرسة تنشب أظافرها في حلقه، عاد يرمق بقية المرضى من حوله، كان أحدهم يدير مؤشر الراديو باحثاً عن محطة ما، الذي يليه يتصفح مجلة مصورة يبدو أن أحد زواره قد جلبها له، الآخر يتكئ على عكازيه ويتأهب لمغادرة الغرفة، وقد تدلت ساقه المبتورة بين العكازين الخشبين وشرعت تتأرجح مع حركة سيره. عضّ شفته السفلى وأغمض عينيه بقوة وإصرار، أنشب أصابعه في الفراش مغالباً قوة قاهرة تحتدم في أعماقه، ورويداً رويداً أخذ جسمه يختلج، وينتفض انتفاضات متتالية، تراخت أصابعه القابضة على الفراش وانفجر بالبكاء.
طرابلس – ليبيا
مجلة الآداب | رقم العدد: 7 – 9، 01 يوليو 1985م.