مصطفى حموده
الفصل الأول: كتاب الأساطير (جبال الرعب والسيل العرم)
في الشرق، تقع جبال عظيمة، سلسلة وعرة تتجلّى القدرة الربانية في تشكيلها، حتى أن أهل قرية “ريفا” لا يقتنعون بأن هناك ما هو أعظم منها وأجمل. ظلت هذه الشواهق لسنين عديدة كحاجز طبيعي يفصل بين القرية والعالم السفلي، كما يقول الأهالي، ويتردّد في أهازيج العجائز وقصص التراث المتوارثة منذ القدم. لذا درجوا على تسميتها باسم غريب: ‘‘جبال الرعب’’، نظراً لموت العديدين منهم، بل واختفاء كل من حاول في قديم الزمان اجتيازها إلى الجهة الأخرى المجهولة التي بقيت كذلك لوقت طويل جداً، إلى أن قُدّر لأحد المغامرين في زمن بعيد النجاة، فعاد محملاً بأخبار المفقودين، كما يزعم.
عاد ليروي مشاهد رعب، شخوصها هياكل عظمية لبشر ملقاة على الأرض، وجماجم تتدحرج من أعالي الجبال بدت لناظريه أنها تهوي من السماء. هكذا قال، بل وأقسم أن جمجمة نادت عليه باسمه وتوعدت القرية: إن لم يقدم أهلها القرابين والذبائح لوحوش الجبال فإنها ستُغير عليهم لتنشر سحرها الأسود، وعندها سيشهدون تساقط أطرافهم وذوبان لحومهم. هذا القول أثر على السكان وجعلهم ينسجون القصص والأساطير التي أشاعت الخرافات بينهم، لتتناقلها الأجيال.
ورغم مرور قرون على رواية الناجي الوحيد، تطوّرت خلالها القرية زراعياً، ثم باكتشاف صناعة المراكب وازدهار حرفة الصيد البحري على يدي الصديقين تاج وهلال، إلا أن هذه الخرافات ظلت ملازمة لعقول الناس، لا تبرحهم أبداً. ففي كل بيت من بيوت القرية يوجد كتاب الأساطير، يحوي قصصاً تعود لتراث “ريفا”، مدوّناً فيه أخبار غريبة تتعلق بشعبها منذ قديم الزمان، ويخبر عن سيلٍ جارفٍ سيضرب المنطقة ويمحوها عن الوجود.
وقد اقتضى العُرف أن يلقن الوالدان محتوى الكتاب لبنيهم، كما أصبح يُدرّس في مدارس النشء المستحدثة. ومن جملة ما يحتويه هذا الكتاب أن هناك بطلاً سوف يولد ليخلّص الأهالي من الوحوش التي تسكن العالم السفلي وراء الجبال، يعقدون عليه أملهم في إنقاذهم مما هم فيه.
– قال تاج مؤكداً في إصرار: “إن هذا الكتاب ما هو إلا محض أكاذيب، ولابد من نسيان ما يورده حتى لا ينقرض شعب ريفا يوماً ما يبدو لي قد اقترب”.
فهو وهلال لا يؤمنان بمثل هذه الخرافات، ولم يكونا لينتظرا حتى يأتي المخلّص المزعوم لينقل قريتهم من حال بائس إلى آخر أفضل. بل كان أول ما فكرا به هو تعبيد طريقٍ مختصر يسمح لأي شخصٍ بالمرور إلى الجهة الأخرى من الجبال، التي ظلت مجهولة بالنسبة لهم لزمنٍ طويل. ولقد بذلا جهداً كبيراً لجمع المتطوعين من رجال القرية للقيام بهذه المهمة التي لا تخلو من صعوبة.
لكن الأهالي كانوا بحاجة لتوضيح أكثر:
– “إن لم يكن هناك وجود للمخلوقات المرعبة التي سمعنا عنها في قصص عجائزنا ولا زلنا نسمع حتى اليوم! فما سر تلك الوصايا والإشارات التي ترد عن قريتنا في كتاب الأساطير؟ وما السبب وراء اختفاء المغامرين حتى الآن؟” قال أحد رجال القرية.
– رد عليه تاج: “فيما سبق، كان المسافر يضطر للدوران حول هذه السلسلة العظيمة فيقع فريسة للوحوش الضارية. صحيح أنها وحوش، ولكنها مألوفة ونعرف أسماءها وأشكالها. وإن لم تعترض هذه الكائنات طريقه فلا محالة سينفذ منه الماء والكلأ. ولأن المنطقة في تلك الناحية لا أنهار فيها ولا يتساقط عليها المطر، يضطر التائه لأكل الحجر وكأنه لم يأكل شيئاً. عندها يموت فتلتهم الوحوش ما عليه من لحم، فلا يبقى منه سوى هيكل عظمي مرمي. هذا كل ما في الأمر”.
عاد تاج إلى كوخه، وهو في مستقره قاعد على كرسيه بالقرب من موقد النار الذي يتلظّى. ظل تساؤل أحد رجال القرية يتردد في ذهنه:
– ‘‘ما سر تلك الوصايا والإشارات التي ترد عن قريتنا في كتاب الأساطير؟’’
خطر بباله الكتاب الذي لم يفتحه مرة، وكان يسمع ما جاء فيه من الأهالي، فأسرع لتناوله من المكتبة. سهر الليل يقرأ ما جاء فيه باحثاً عن القول الذي يعد بقدوم البطل المخلّص الذي سينقذ القرية من الظلام الذي ظل لقرون جاثماً على أهل القرية.
في هذه الأثناء، وفجأة، بدت الطيور والحيوانات في الخارج تتصرف على نحو مريب، ثم بدت القرية تغرق في ظلام دامس غير معهود لم يسبق أن تعرضت له من قبل. أطلّ تاج برأسه من النافذة، فبدا له المشهد وكأن سحابة سوداء هبطت من السماء لتجثم على ساكني الأكواخ العتيقة. تناهت إلى أسماع الناس القاعدين في مساكنهم جلبة عالية في الخارج؛ فقد جفلت حيواناتهم تحاول القفز خارج الزرائب، بينما تجاهد الطيور التحليق بعيداً، يمنعها شدة هطول المطر والريح الهوجاء التي تلطمها على جدران الأكواخ والأشجار والصخور.
هذا الخطب لم يحدث من قبل، ولم يكن معهوداً لدى أهالي القرية، مما جعلهم يقلقون من الأمر.
أطلّ السكان برؤوسهم من نوافذ أكواخهم المصنوعة من قشٍ وطين لاستطلاع ما يجري من حولهم. راقبوا الغيوم وهي تصطدم بقوة بعضها ببعض، مصدرة رعوداً عظيمة حجبت الصرخات المنبعثة من أولئك الذين يخشون أصواتها. إثر ذلك انبعث البرق مبدّداً سواد السماء لبرهة، فبدت لبعض الوقت بيضاء قبل أن تعود حالكة.
اشتد الهطول بغزارة، ربما هذه المرة أكثر قوة من أي مرة سابقة. وحتى وقت قريب لم يتوقع أحد أن يكون الطقس بهذا الجموح، لذلك لم يستعد له أحد على أي حال.
تناول تاج معطفه وتأهب للخروج مسرعاً من كوخه، طالباً من زوجته أن تتجهز لأي طارئ وترعى نفسها وابنهما ما أمكنها ذلك إلى حين عودته. صفقت الريح الباب وراء ظهره، وأسرع متجهاً نحو طرف القرية.
رأى هلال من نافذة كوخه صديقه تاج يركض، ووحل الطريق يعيق تقدمه، محاولاً بصعوبة إدخال يده اليسرى في ذراع معطفه الذي تتلاعب به الريح، فخرج من الكوخ في إثره.
– “يا إلهي.. هذا أول شتاء قاسٍ يواجه قريتنا!” قال هلال محدثاً تاج -الذي استمر في تعثره- وهو يحاول اللحاق به.
– “أوه هلال!” قال مندهشاً لخروج صديقه في مثل هذا الوقت، وقد غمرته السعادة لوجوده معه.
– “هل تتوقع أن أتركك تخرج وحدك في هذا الطقس؟” أوضح هلال لصديقه.
– “يبدو الأمر خطيراً هذه المرة” قال تاج وهو يلتفت إلى صديقه الذي يحاول الوصول إليه بينما يحاول الإمساك بقبعته التي تكاد الريح تطيّرها من على رأسه. “يجب أن نسرع ليتسنى لنا مراقبة ما يحصل في الخارج.” واستطرد: “علينا تقييم الوضع وتقرير ما إذا كان الأمر يشكل خطورة على الأهالي، وتنبيههم إذا ما كان ثمة خطر محتمل”.
وصلا إلى طرف القرية، وظلا هناك واقفين يراقبان النواحي البعيدة. حتى إذا ضرب برقٌ خاطف وأضاء المكان لهنيهة، انتبها إلى سيولٍ جارفة مروّعة مقبلة من بعيد تهوي من الجبال الشاهقة باتجاه المنطقة الآهلة بالسكان.
انتابتهما الدهشة لحظة مشاهدة السيل وهو يرتطم بقوة مهولة بالصخور فيهوى إلى ارتفاعات تحجب عنهما رؤية الجبال. وقبل أن يفعلا شيئاً، بدأ صراخ وعويل الأهالي يرتفع، مثيراً ضجة أربكت من لم يقدّر خطورة الوضع بعد.
خرج الجميع من بيوتهم، يصرخون دون دراية بما ينتظرهم من خطر: عويل نساء وهن يستنجدن، أطفال تجتاحهم نوبة بكاء غير معهودة، ورجال يتنادون بضرورة إخلاء مساكنهم قبل أن يجرفها السيل.
ومن مكانهما، أخذ تاج وهلال يطلبان من أهالي القرية التوجه إلى ناحية آمنة.
– “إلى الناحية الغربية! على الجميع التوجه حالاً إلى الناحية الغربية. اصعدوا أعلى التلة، ستكونون هناك في مأمن. وقبل أن تغادروا بيوتكم حرّروا حيواناتكم وطيوركم، التمسوا لهم طريق النجاة معكم”.
وظلوا يطالبونهم بضرورة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرواح، وما عدا ذلك من الممكن تعويضه.
يبدو الموت متربّصاً بالجميع، كما يشير كتاب الأساطير الذي يؤمن به أهالي القرية. ويصرّ تاج، الذي نذر حياته لإنقاذ قريته من الجهل، أن هذا الكتاب ما هو إلا أكاذيب لابد من نسيانها حتى لا ينقرض شعب “ريفا”. ولكن هل كان صدفة أن يرد في هذا الكتاب إشارة إلى سيل عرِم يضرب القرية ويمحو شعبها من الوجود؟
ربما هي كذلك فعلاً، وربما النهاية قد دنت.