الطيوب | متابعة وتصوير : مهنَّد سليمان
مع اقتراب الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية الذي يحل خلال الأيام القريبة المقبلة، وانطلاقا من حرص مجمع اللغة العربية على واقع اللغة العربية للوقوف على أبرز المشكلات التي تعترضها داخل المجتمع أقيم برعاية ديوان مجلس الوزاراء بمجمع ذات العماد بقاعة الشيخ عبد اللطيف الشويرف صباح يوم الخميس 12 ديسمبر الجاري ندوة علمية بعنوان(التلوث اللغوي البصري : جذوره وتداعياته وخطط معالجته).
اعتزاز الشعوب الأخرى بلغاتها
حيث استهل فعالية الندوة بكلمة للدكتور “عبد الحميد الهرّامة” رئيس مجمع اللغة العربية عرّج فيها على مظاهر التلوث اللغوي في لافتات المحال التجارية والشركات التي تحمل أسماءً أعجمية بخطوطها ورموزها فتنتشر في الأحياء والمناطق لتصنع بذلك واجهات غريبة لبلدنا الليبي المسلم، وأكد الدكتور الهرّامة بأن ذلك الأمر لا يمكن أن يحدث في أي بلد حر آخر يعتز بقيمه الذاتية وبخصوصياته الثقافية ففي البلدان المتحضرة محال أن نلحظ شيوع لغات أخرى عدا اللغة الأم، وبلد كفرنسا القانون فيها يُجرِّم كتابة إعلان مثلا بلغة غير الفرنسية فهم يعتبرون اللغة الوطنية الجامعة عنوانا للوطنية، وأضاف الدكتور الهرّامة أنه بينما تحرص الدول الأوروبية على مقاومة اللغوية الأجنبية ولو كانت من جاراتها اللاتينيات، وترفع شعارات التعددية اللغوية والمحافظة على التراث اللغوي نجد في المقابل البلدان العربية تتسابق إلى التعلق باللغة الأجنبية وكأن اللغة تختزل العلم إذ لا تعدو اللغة وسيلة لنقله، ويرى الدكتور الهرامة أنه للحيلولة دون إدخال العلم إلى لغة الشعب مساهمة خطيرة في تخلفه وزيادة متعمدة في غربته الحضارية، والبديل الممكن يكمن في تعليم العلوم التطبيقية باللغتين العربية والأجنبية كي نزرع البذرة الحضارية في بلغتنا وكي لا نفقد الصلة باللغات العلمية الحيّة.
كما ألقى السيد “عبد الفتاح الفاضلي” ممثلا عن ديوان رئاسة مجلس الوزراء كلمة أوضح فيها أن هكذا موضوع حساس لا يمكن معالجته في ندوة أو فعالية واحدة بل هو يحتاج إلى إقامة عدة ندوات وورش عمل ومؤتمرات علمية، ولفت السيد الفاضلي أن الأجهزة الرسمية للدولة مسؤولياتها أكبر وأعظم سيما حين نجدها في بعض الدول العربية تساهم بشكل أو بآخر في انتشار العبارات والألفاظ الأجنبية.
ثم عرض لاحقا تسجيل وثائقي ألقى الضوء على ظاهرة التلوث البصري وأبعادها المختلفة داخل الأوساط المجتمعية فالتلوث اللغوي البصري ليس مجرد كلمات على لافتة بقدر ما هو انعاكس لتحولات ثقافية عميقة فعندما يُنسى الحرف العربي فإننا نفقد جزءًا من ذاكرتنا الجماعية، ويُعزي التسجيل الوثائقي ذلك لعدة أسباب منها : العولمة، الاقتصاد، فضلا عن الشعور المطرد بأن اللغة العربية لم تعد قادرة على مواكبة تطلعات العصر الحديث.
عوامل تنامي التلوث اللغوي البصري
فيما انعقدت الندوة برئاسة الدكتور”عبد الله الزيات”، وبمشاركة كل من الدكتور “محمود فتح الله الصغير”، والدكتور “محمود ملودة”، والدكتور “عبد الحميد مروان”، وأعطيت المداخلة الأولى للدكتور محمود فتح الله الذي أشار بدوره إلى أهمية نوع التواصل إلا أنه قد يتعرض للتشويه ويُعرف بالتلوث اللغوي البصري، وهو إدخال عناصر بصرية غير متناسقة أو مشوهة في البيئة المحيطة مثل الإعلانات العشوائية والكتابات على الجدران والتصاميم غير المتناغمة مما قد يسبب تشويها للمشهد البصري العام، ويؤثر على النفسية الجماعية والذوق الجمالي للمجتمع، واستعرض الدكتور فتح الله أسباب تنامي ظاهرة التلوث اللغوي البصري عبر مجموعة من العوامل أهمها :- غياب الوعي البصري وقلته بتأثير التصاميم البصرية على الذوق الجمالي علاوة على الرغبة في جذب الانتباه تسعى بعض الإعلانات للتميز بأي طريقة بالإضافة للاعتماد على الترجمات الألية التي تنتج ترجمة حرفية دون مراجعة بشرية مما يجعل نصوصها غامضة وركيكة.
أشكال التلوث اللغوي البصري
بينما استشهد الدكتور محمود ملودة في مقدمة مداخلته بقول منسوب للعالم ابن خلدون الذي يفيد بأن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، وأوضح الدكتور ملودة أن التلوث البصري كمفهوم مصطلح يطلق على العناصر البصرية غير الجذابة سواء كانت المناظر الطبيعية أو الضناعية التي لا يريد الشخص النظر إليها، وأضاف الدكتور ملودة بأن التلوث البصري تجده في جداريات وضعتها السلطات التنفيذية تنبه إلى الإزالة فورا أو الهدم من أجل التطوير، ونلحظ التلوث البصري في الشعارات السياسية طوال سنوات مثل : خونة، عملاء، كلاب ضالة، ملك مقدس، لاللعائدون ناهيك عما يخطه المواطنون الغاضبون من أوامر ونواه مثل : ممنوع وضع القمامة هنا، موقف خاص، مدخل منزل، كذلك نجده في أسماء قاعات المناسبات الخاصة المتوزعة في المدن، ولفت الدكتور ملودة إلى أن خارطة طريق التلوث الاجتماعي تبدأ من العبارات الأجنبية في اللافتات والانفتاح أكثر فأكثر على الثقافة الغربية، واللفظ الأجنبي يتبعه التصميم الداخلي بشكل استنساخ تام للذوق الأجنبي وقريبا سيتم توظيف الجسد الأنثوي في اللافتات، ويعتقد الدكتور ملودة أن المواطن العادي لا يرى مشكلة في انتشار مفردات التلوث أو التشوه بل يرى لافتات منسقة وجميلة وهذا مدعاة للقلق.
ازدهار اللغة تاريخيا
كذلك شارك الدكتور “عبد الحميد مروان” الذي نوه إلى أن الحركة العلمية تاريخيا قد انطلقت قوية باللسان العربي العظيم وازدهرت في العصر العباسي خاصة في جانب التعريب والترجمة والتأليف فنشأت في ظرف وجيز حضارة سامقة من ثقافات متعددة ازدهر فيها الجانب الفكري منفتحا على آفاق واسعة، والرابط بين ذلك كله كان اللغة العربية بما لها من امكانات هائلة وقدرات فذة على التعبيروالاحتواء، وأكد الدكتور مروان أن ضعف العربية اليوم وازدراء أهلها لها ماهو إلا انعكاسا للضعف العام الذي تعانيه الشعوب العربية، مشددا على أن تقوية الثقة بأنفسنا وبلغتنا ينبغي أن تكون من أولى الأولويات والساعين لإعادة المجد لهذه اللغة العظيمة لتكون حاضرة بقوة ومن جديد، موضحا بالقول : إننا نطمح ونسعى بكل جهد لإيجاد أرضية مشتركة بين المهتمين بشأن العربية، وفي المقابل توقف الدكتور مروان عند قانون رقم (24) الصادر سنة 2002 الذي يحظر استعمال غير اللغة العربية في جميع المعاملات والمكاتبات الرسمية.
التجهيل والتلوث اللغوي
كما شارك أيضا الدكتور “محمد خليفة الأسود” بورقة جاءت بعنوان (قوانين حماية اللغة العربية وأثرها في الحد من التلوث اللغوي) إذ عرّج الدكتور الأسود على إزدواجية المثقف بخصوص مستوى تعاطيه مع اللغة العربية داخل الأوساط العلمية والاجتماعية وحسب تقدير الدكتور الأسود هذا الصنف من المثقفين مشبعين بالتلوث اللغوي داعيا إلى دراسة اللغة المعاصرة وهي ليست مستوى واحد فثمة عدة مستويات لها وتضم هذه المستويات من اللغة حركية يمكن الاتجاه بها للأعلى أو للأسفل تبعا للمؤثرات المحيطة مثل التعليم والإعلام هما المؤثران في صعود السهم إلى أعلى فإذا ما هبط التعليم والإعلام يكون السهم للأسفل ومستوى اللغة يكون بالتالي أقل من مستوى البيت والسوق، وبيّن الدكتور الأسود أن هنالك فرقا بين التجهيل والتلوث اللغوي فالتلوث هو مخالفة القياس اللغوي باستعمال مفردات من لغات أخرى أما التجهيل اللغوي فهو انتقال الكلمة من معنى إلى معنى.
توصيات الندوة
وفي توقيت لاحق شهدت الجلسة الثانية مجموعة من المداخلات لعدد من المتحدثين والممثلين لجهات ومؤسسات رسمية تابعة للدولة، ثم اختتمت فعالية الندوة بقراءة التوصيات فأبرز ما أوصت به الندوة تمثل في ضرورة تفعيل القانون رقم (24) الملزم بفرض استخدام اللغة العربية الفصحى في اللافتات الإعلانية والتجارية، وتفعيل دور الجهات الرقابية لمتابعة تنفيذ القوانين واللوائح والاشتراطات المنظمة للوحات الإعلانية والخدمات الارشادية، وإشراك البلديات في مراقبة استخدام اللغة العربية الفصحى في الإعلان عن المناشط التجارية والخدمية، والتوعية المجتمعية بالحفاظ على اللغة العربية الفصحى ومحاربة التلوث اللغوي وبيان خطره على المجتمع وثقافته.