قصة

صغار الريح

من أعمال التشكيلية الليبية نسرين الحمر
من أعمال التشكيلية الليبية نسرين الحمر

(1)

رُويدًا رويدًا انحدرت حبات الشعير من قبضتها اليسرى، تنسكب داخل الفجوة الحجرية، ثم تبدأ بتحريك الجزء العلوي من الرحى بيمناها، بعكس اتجاه عقارب الساعة، تزوم الرحى عند اصطكاك فلقتيها، عندما يدور فكها العلوي على الفك السفلي الساكن، ويتناثر الدقيق والنخالة على القطعة القماشية تحتها.

تدندن بأغنية من أغاني الرحى الحزينة، يشج أنين الرحى صوتها الكئيب لتذوب الأصوات كلها في صوت الريح العاصفة بالخارج، فيما تردد الغناء رفيقتها التي تجلس قبالتها تلوي معها عنق الرحى، يتناثر الدقيق الأبيض بينهما بشكل دائري.

–      “يا ميمتي خير عيني جلا النوم مابا يجيها

زعم مذكرة زول غالي ولا الرمد بات فيها؟”.

تخرج الأغنية من شفتيها مخنوقة بعبرة تعتصر صدرها. وتنحدر الدموع على خديها، تتسلل من جفنيها بهدوء وتتغلغل في أخاديد وجهها.

تغمض عينيها، تحاول احتجاز دموعها التي اعتادت الانسكاب، فيخرج طيفه مرسوما في أجفانها . ينظر إليها بصمت، يتأمل وجهها بعينيه الواسعتين اللتين تجلسان على خدين أبيضين كبيرين، يقلب شفته السفلى حزنا، عندها تجهش بالبكاء، وتزداد سرعة تحريكها للرحى، تنظر إليها رفيقتها التي طأطأت رأسها مشفقة. تحاول أن تجاريها في تدوير الحلقة الحجرية حتى لا تتأذى، تمتلئُ الخيمة الصغيرة كآبة بأصوات البكاء وأنين حبات الشعير المسحوقة بين فلقتي الرحى.

من يوم القيلولة المشؤومة لم يتوقف بكاؤها. عندما هاجت الريح وكادت أن تقتلع خيمتها. استلقت بالقرب من صغيرها الذي بانت لثته وهو يضحك مستبشرا برؤية أمه، ظل يحرك يديه ورجليه بحركات سريعة عشوائية، تبتسم له، يناغيها بفرح طفولي، وتمد له حلمتها بكل ود، فيتلقمها الصغير بلهفة ونهم.

هبطت السكينة في المكان، وبدأ النعاس يغلبهما، شيئا فشيئا بدأت عينا الصغير تنغلقان بعد أن شعر بالشبع، ونال منها التعب فأغمضت عينيها بعد أن شعرت بالرضا.

سكنت الريح في الخارج. وهدأت الخيمة التي كانت تهتز قبل قليل.

فتحت عينيها بهدوء، بحثت عن صغيرها لم تجده.. ارتبكت.. نهضت من مرقدها بهلع. وجدت طفلها منبسطا تحتها مغمضًا عينيه في سكينة، هزته بلطف. وَجِلَتْ. حركته بقوة؛ لكنّ الصّغير لا يستجيب.

دوت صرخة مفجعة من بين أروقة الخيمة.

تلك القيلولة التي لم يفارقها كابوسها. هزل جسمها كثيرًا. وتجعد الوجه الصبوح رغم صغر سنها. كان الحزن يأكل روحها قبل جسدها.

ظلت هي ورفيقتها تلويان الفك العلوي للرحى داخل الخيمة. نال التعب منهما، توقفتا.

اشتد عصف الريح بالخارج. أنصتت هي ورفيقتها لصوت الريح. من بين الأصوات المرتفعة تسلل صوت صرخة في السماء. صرخة وجع، ارتعدت الفرائص.

على سقف الخيمة سقط شيء ما.

هدأت العاصفة، عم الصمت في المكان وشعرتا بالراحة، صوت بكاء طفل يأتي ناعما خافتا مخنوقا، قفزت من جلستها بسرعة، فوق الخيمة كان الطفل يصرخ، ملفوفا بلحاف أبيض، مدت يديها. أمسكت به بلهفة، مدت له حلمتها، فالتهمها الطفل بسرعة.

كانت تنظر إليه بفرح، والنشوة تغازل أطرافها.

–      مبارك عليك المزيود.

هتفت صاحبتها بفرح.

–      الله يبارك فيك.

ونظرت لرفيقتها التي فغرت فاها عندما رأتها بوجه أبيض صبوح.. بلا تجاعيد.

(2)

عندما بدأت الريح تلوي ذراع الصمت المحيط بالأجواء، تولول حول حبال الخيمة بصرير مفجع.

ترمي غبار الأرض على أروقة الخيام المتمايلة من دفع الريح.

احمرت الأجواء كأن السماء تدمي. فيما كانت الحمير ترفع شفاهها العلوية وتنهق جاحظة العيون.

ارتفع رواق الخيمة، ودلف مسرعا من غضب السماء عاضا طرف ثوبه الأبيض الطويل بين اسنانه، وممسكا عمامته على رأسه بيده اليمنى.

أنزل الرواق بعد دخوله وطفق يربطه على العمود المتمايل.

أطلق طرف ثوبه المعضوض ومسح على شفتيه بكمه.

نشيج حبال الخيام ونهيق الحمير في الخارج يقبض على صراخ الطفل الوليد المرتمي في حضن والدته، كان الصغير يغرس أظافره في نهد أمه التي لم يؤلمها ذلك.

تحرك حلمتها على شفتيه الغضتين. ولكن الشفتين لم تحضنا حلمتها.

نظرت لزوجها الذي دخل لتوه من الخارج في جزع.

–      لم يقبل صدري منذ الصباح.

رفع الوالد جرة الماء بيديه يشرب.

–      لا أعلم ما السر وراء بكائه.

أردفت الأم وعبرة في صوتها تخنق كلماتها.

–      الريح سرقت الحطب في ركن الوادي.

أجاب الوالد وهو يخلع عمامته وينفضها على عمود الخيمة.

–      يبدو أنها لا تحفل بالحطب. تريد سرقة ما هو أثمن.

أجابته وعيناها ترمقان طفلها الصارخ في حجرها، اقترب منها وجثى على ركبتيه أمامها وهو ينظر للطفل.

–      أخافته الحمير بنهيقها والريح بصريرها.

الفزع يعتصر صدره ولكنه رمى تلك الجملة على قلبها علها ترتاح قليلا.

تسللت أصابع الصراخ الى أذنيه تفقأ تآليلَ في روحه. لكنه كتم صديدها عن زوجته.

–      لعله يشتكي ألمًا في معدته.

ألقى تكهّنه على مسمع زوجته حائرا. كشفت بطن الصغير ومسحت عليها بكفها.

–      ليست منتفخة.

التقف الطفل من حجر أمه، وبدأ يتحسس الجسد الطري بيده، كشف عن ساق الطفل، جحظت عيناه وصرخ:

–      ما هذا؟

نهضت الأم لترى. تجمع الدم في جبينها حتى اسوَدّ وجهها المضيء.

–      إنها لسعة عقرب!!

صرخت الأم بذهول.

أمسك الوالد بساق الطفل الملسوعة، وأطبق بشفتيه على مكمن اللدغة، انكمش شدقاه وهو يمص السم من اللحم الطري، ويبصق الدم الأسود على الرمل بسرعة، انطفأت عبرة الطفل قليلاً، التقى جفناه الصغيران واحتضنت الرموش الرموش، هدأ صراخ الطفل قليلاً، بينما نهض والده يغسل فمه من بقايا الدم العالق في حلقه.

–      سأحمله إلى الشيخ.

–      في هذا الجو المتقلب!!! انتظر حتى هدوء العاصفة.

–      لا أضمن أن يبقى الطفل حيا.

احتضن الصغير بكلتي يديه، وقف به واحتضنه، فيما كانت الأم تغطي ابنها بلفافته خوفا عليه من الغبار المنتشر بالخارج.

هم بالخروج، رفع الرواق وخرج يحث خطاه مسرعا، بينما كانت الأم تراقبهما بجزع وخوف حتى اختفيا داخل زوبعة الرمال السابحة في الهواء.

ظل الرجل يبدل خطواته بسرعة محاولا الوصول بأسرع وقت. حجب الغبار الرؤية، ولكنه استمر بالهرولة يحتضن صغيره ممسكا باللحاف بقوة.

دخل قلب العاصفة الهوجاء، يستنجد بذاكرته لمعرفة الاتجاه الذي يؤدي إلى خيمة الشيخ.

تباطأت خطواته من شدة الريح، حاول أن يتماسك، ارتفعت قدمه ليخطو للأمام، تعثرت رجله بإحدى أطناب الخيمة، سقط على التراب.. توقف قلبه وهو يرى صغيره يتدحرج بعيدًا عنه.

نهض بسرعة يحاول الإمساك بابنه.

اقترب منه مادًّا يديه، لكنه شعر بضربة حادّة تدفعه بعيدًا، سقط مرة أخرى جاثيا على ركبتيه وهو يشاهد جناحين ضخمين يمتدان فوق الصغير، ركض صوبه محاولا اللحاق به.. ارتفعت الأجنحة السوداء عن الأرض وبين مخالبها لفافة بيضاء.

(3)

على العش الضخم المعلق على حافة الجبل الصخري ارتفع صفير النسر الصغير الجائع، وقفت أمه العملاقة تفرد جناحيها الطويلين حول العش، ينفطر قلبها مع كل صرخة يطلقها صغيرها من منقاره المقوس؛ فالريح تعصف أسفل الجبل، والجو لا يساعدها على الصيد ولا على الطيران أساسا، تفرك ريشه الأصفر بمنقارها محاولة تهدئته، ولكن المعدة الخاوية كانت أكثر إلحاحا من محاولاتها كبح صفير الهيثم.

توالت نقرات الأم على الصخرة القابعة قرب العش قلقا، لم يعد هنالك مجال لإسكات صغيرها إلا الموت جوعا أو أن تحلق وتجلب له فريسة من لحم حتى لو كان جيفة.

قفزت من العش للجو، شرّعت أجنحتها للريح، طارت بعينين مصوبتين للأرض، علّها تلمح فريسة تجري أو تقفز بالأسفل، لكنها لم تر شيئا، بصرها الحاد خذلها بالبحث.

اقتربت من العاصفة حتى تصادمت أجنحتها بحبات التراب المحمولة على أكف الريح المندفعة، كانت تطير عكس اتجاه الريح معاندة الطبيعة، نداء البقاء دفعها للمغامرة، اختلط صفير صغيرها الجائع بصفير الريح الغاضبة، تألمت عندما بدت الريح تنتف ريشها، التراب المتصاعد يقشر ساقيها الغضتين، ولكنها تماسكت دافعة جسدها الضخم إلى الأمام.

بين الخيام المترامية لمحت شيئا يركض، وجهت جسدها بأجنحتها صوب الفريسة التي تبدو أثقل من أن تستطيع حملها الى عشها، لا وقت للمساومة، اقتربت من فريستها تدريجيًّا، اشتدت العاصفة في طريقها، تباطأت الخطوات الدابة على الأرض، اقتربت كثيرا، حينها سقطت فريستها بالقرب من إحدى الخيام المنصوبة، انقسمت الفريسة إلى جزأين؛ جزء كبير وثقيل، وجزء صغير خفيف. ضربت الجزء الأكبر بمخلبها، وحطت على اللحاف الأبيض.. مدت جناحيها السوداوين تراقب الفريسة، شعرت بالدم يجري في عروقها، طارت واللحاف بين براثنها.

حلّقت عاليا مرة أخرى تحمل غذاءً لصغيرها، ابتعدت عن الخيام المنصوبة، في العاصفة اختلطت عليها الاتجاهات. أضاعت الطريق إلى العش القابع على طرف الجبل. اشتدت عليها الريح، قاومت التيار المندفع عكس اتجاه طيرانها، مرة أخرى ظهرت الخيام تحتها، ارتبكت، دخلت حبات التراب إلى عينيها، أطلقت صرخة مدوّية، ارتخت قبضتها على فريستها التي سقطت على خيمة.

خيمة بيضاء تدور فيها الرحى وتسحق الشعير داخلها.


إسماعيل صالحين القايدي، كاتب ليبي من مواليد سرت عام 1983، وحاصل على بكالوريوس في الهندسة الزراعية عام 2008.
تميز في مجال القصة القصيرة بفوزه بعدة جوائز على مستوى الجامعات الليبية، منها المركز الأول عام 2007. فازت مجموعته القصصية “من تكره الأرض” بالمركز الثاني في مسابقة وطنية عام 2010، وطُبعت عام 2013.
حازت قصته “قرنا كبش أبيض” على المركز الثاني في مسابقة مؤسسة سيكلما. شارك في العديد من الفعاليات الأدبية داخل ليبيا ونُشرت أعماله في الصحف المحلية.

مقالات ذات علاقة

عـرس الأزهـار

أحمد نصر

حيان يشرح لوحته

عمر أبوالقاسم الككلي

قصيدة التأتأة

المشرف العام

اترك تعليق