النقد

عالم الشاعر سراج الدين الورفلي … صمت العالم غير المقبول

الشاعر سرج الدين الورفلي
الشاعر سرج الدين الورفلي

الشعر يناقش عدم المساواة في الكآبة، الشعر لا يناقش الخراب الخامل، بل يتحدث بهدوء عن التعبير الأبدي للمفارقة، عندما لا نجد إلا التنهدات، وتكون كل الشفاه خالية من القبلات، عندما نفهم أن لا شيء خلف الاستدارة الأرضية، وعندما يدخل الحزن قلوبنا، بيوتنا، جيوبنا، عندما تتحول الحياة إلى مجرد بقايا سيجارة تحت قدم عجوز يستخدمها بصعوبة، يأتي الشعر من مسافة واضحة ليكلمنا بعفوية بارعة لكن لا تخلو من بعض العنف والعاطفة عن البوابة الحجرية التي نعبر من خلالها غابة مظلمة ومرعبة ومطيرة اسمها الواقع، ما نسميه الواقع هو اسطورة تختبئ بشكل سيء، لكن الشاعر يراه جيدا، الشاعر الجيد ينام دون أن يغمض عينيه، الشعر البعيد عن الخُطب والمآدب والمقابلات التي تثير الاشمئزاز هو نتاج مخيلة شاعر قرر الخضوع الكامل لحلمه الشعري، الشاعر الموهوب فقط هو القادر على إضفاء الطابع الرسمي على الجدارة، الشعر يسد الفجوة بين النظرية والتاريخ، السياسة تجعل العالم سجن، الشاعر يجعل السجن هو العالم، يجعلنا الشاعر نتجنب بسهولة ضمور الحياة، في وجود القصائد الجميلة لا يمكن نسيان تجربة الأمل، ما الذي يجعل الشاعر محوريا؟ هو أن الشاعر يذهب مباشرة إلى أماكن التفكير المهجورة، هو الذي يسير خطوة إلى الأمام بعيدا من الوعي الذاتي إلى الوعي الجمالي، هذا الشاعر يمنحنا وعد غير محدود بأن المعرفة تعني الشراكة الحميمة والعمل بهذه المعرفة هو حالة من تبلل العيون، ليس لهذا الشاعر علاقة بالتقليد المذل الذي تحدث عنه بودلير، بل يجعل الاستقلالية موضوع كفاح، يبتعد عن الألقاب الأكثر مسرحية، ويبحث عن تجربة أكثر جذرية بعيدة عن النصوص غير المؤهلة، الشعر هناك في عدم كفاية الحياة، في الجرح الذي يشبه الاهتزاز النقي، في الساعات التي نشعر فيها بفراغ قلوبنا وفراغ العالم، في الفقر الذي يدوسنا بلا رحمة، في الغنى الذي يصبح مع الوقت مرارة سرية، أما الشاعر فيجلس بين الواقع والخوف منه، يحاول رسم صورة أخرى للفشل، يحاول اشتقاق معنى التاريخ من على كف الفوضى، في اختيار موقف عادل ليس له أبعاد محددة، يبحر الشاعر على ساحل مجهول، لا شيء هناك سوى الظلام والعاصفة، يتحدث مع نفسه كالمجنون، إلى أن يرى ضوء ساطع له ملامح القصيدة، يحاول في كل مرة ربط تاريخه الصغير بالتاريخ الكبير، كل الحالمين عبر التاريخ حاولوا القيام بمهمة مماثلة، حاولوا الخروج على الواقع كزوبعة ثورية تحملنا جميعا من عصر إلى عصر، الشاعر وحده قادر على إضفاء الطابع الديمقراطي على كلماته، ذكرياته، جنونه، هو الراوي الذي يقف على المسرح، ينظر إلينا بحسرة ويفكر في الكيفية التي ينقذ بها حريته من دموعنا.

سراج يكتب قصيدة النثر، لماذا قصيدة النثر بالذات؟ يمكن أن نفكر في أن ذلك حدث بسبب النقاش مع سكير في حانة لها اسم سيء حول جدوى الحياة، أو بسبب الجلوس اليومي مع نصف دزينة من الأقارب المملين، وربما بسبب كراهيته العميقة للأفراح والجنازات التي ينكمش فيها العالم ويتحوّل إلى مراسم تأبين مضحكة، لكن هل هذا يهم حقا؟ الإجابة ببساطة: لأن قصيدة النثر هي القيمة الأدبية الجديدة في هذا العصر الذي نعيش فيه، لكي تكون القصيدة شخصية وحميمة ومهيمنة لابد أن تكون من اختراع النثر، هذه القصيدة التي يعتبرها البعض عمل تخريبي ضد الشعر لم تكن مفاجأة في اوروبا، فقد كانت موجودة من عصر التنوير إلى الكلاسيكية الجديدة وحتى عصر الرومانسية، لكن فشل الثورة الفرنسية جعل آمال العالم كله تنهار، العالم أصبح بلا مستقبل، هذا العالم الذي أصبح فجأة مظلم ومأساوي جعل قصيدة النثر تبرز كقيمة أدبية ومجال حميم للتعبير عن ذات جديدة في عالم يسقط مثل حجر في بركة، علينا أن لا ننسى الجانب الثوري الذي تمثله جماليا قصيدة النثر، مبادئ شعرية الحداثة كانت متحمسة لهذه القصيدة، يمكن تلخيص هذه المبادئ في التغلب على كل الحدود، الفردية التقدمية، التكامل بين الأضداد، هدف هذه القصيدة النثرية هو تحقيق الأصالة، ورسم معالم الجدة الطليعية، لا يمكن التفكير في قصيدة النثر إلا كتكامل بين الفكر والفن، تكامل يعمل بعيدا عن اليوتوبيا الفنية الخاصة بالأفلاطونية الجديدة، وإذا نظرنا إلى تراثنا العربي نجد أبو حيان التوحيدي في المقابسات (المقابسة الستون)يقول: ”في النثر ظل من النظم، ولولا ذلك ما خف ولا حلا، ولا طاب ولا تحلى، وفي النظم ظل من النثر، ولولا ذلك ما تميزت أشكاله، ولا عذبت موارده ومصادره، ولا بحوره وطرائقه، ولا أتلفت وصائله وعلائقه”، الشعر يهرب من الأطر السلبية، يهرب من الأنواع والمدارس، الشعر يطمح دائما للخروج من نفسه، في كل عصر ينخرط الشعر في مغامرة جديدة، الحديث عن الجنس الأدبي وفئات الخطاب، موضوع يشبه القيام بخطأ قديم ومتعمد، هناك كتب كثيرة تمارس الحداد على شكل القصيدة القديم، لا أجد مانع من قراءتها، فهي مسلية وأحيانا تسبب الحيرة، لكن ما هي الروابط السرية بين عصرنا وقصيدة النثر؟ أهم هذه الروابط هو مقاومة الأشكال الثابتة، وملء الفراغ الحرج في علاقتنا بالزمان والمكان، لقد سمح هذا العصر بتعقيد مفهوم الزمان والمكان بعد عودتنا من متاهة التاريخ، الشاعر هو الوحيد الذي يجتاز هذه المفاهيم المعقدة في الوقت المناسب، قصيدة النثر تعكس هذه التجربة من خلال اللغة، الانتقال من المجتمع الريفي إلى المجتمع الصناعي، الانتقال من القرية إلى المدينة جعلت العالم هش وضعيف، تاريخ من الحروب، تاريخ من الرعب، الشعر يتجاهل التاريخ لكن يستخدم رعبه، لا تستخدم قصيدة النثر فم العالم برائحته الكريهة، بل تستخدم الحياة بعيونها نصف المغلقة.

“هم يريدونك أن تكتب بشكل أفقي

مثل مدافع الهاوزر

وقضيب جيمس دين

وأنت ترغب أن تكتب بشكل عمودي

مثل الذين لم يسبق لهم أن ولدوا

أو الذين لن يموتوا أبدا

أنت تهتم بهذا السقوط المعلق

بكتابة تشبه الإصبع الوسطى

مثل طوابير من الشتائم تعرف اين

تتجه

هم يرغبون بالتمدد

والتكاثر

وأنت تكتب بانهيار

وذوبان

وبصق

وانقراض

مثل نهر يقف على خلفيتيه

ليقضي حاجته عند جدران العالم.”

هذا النص يتجاوز المجال الصارم لتفكيرنا، ويشدد على أنه لن يكون مجرد صيغة للم شمل الشاعر مع اللغة المثالية، هذه الكلمات لم تخضع لقيود تقنية صارمة، هناك سيولة، فكاهة، حزن، وغموض لا يمل، نمشي على طول تضاريس النص مع الوقوف عند نقاط مهمة، الكتابة الأفقية/الكتابة العمودية، الذين لم يسبق لهم أن ولدوا/الذين لن يموتوا أبدا، السقوط المعلق/التمدد، هناك خط فاصل بين هم وأنا، من هم؟هم الشعراء والكتاب والقراء المقيدين بشكل شعري، هم الكتَّاب والشعراء الذين يفكرون في قوانين الكتابة قبل فعل الكتابة، الذين ينتظرون الإلهام، سراج وضع قواعد لنفسه كي يكون حرا، لا يحاول سراج التوفيق بين كلماته وملامح الواقع الذي يعيشه الشعر، لا يحافظ على لعبة التمدد والسير الأفقي، لا يريد التكاثر لإنجاب قصائد مشوهة، بل يريد قصائد لها شكل الذين لم يسبق لهم أن ولدوا، هذه القصائد ترفض الخيال المدجن، ترفض أن تبحث في المعجم عن نقطة انطلاق، دعونا ننظر إلى الإدخال القاموسي في هذا النص، قضيب، الإصبع الوسطى، الشتائم، التكاثر، انهيار، ذوبان، بصق، انقراض، يقضي حاجته، فكرة الانهيار تترجمها هذه الكلمات، هذه الكلمات تريد تصوير الانهيار التام للواقع، لا يمكن أن تكون هذه الصورة إلا وحشية، كيف نتكلم عن واقع لا أخلاقي بكلمات تكون في جوهرها أخلاقية، هذا الواقع لا يقبل الحياد، لا يقبل أن تقال الكلمات كما لو أنها غير متعمدة، يرغب سراج في الكتابة بطريقة تخصه وحده، لأن الذين لم يسبق لهم أن ولدوا، لن يموتوا، والذين لن يموتوا أبدا، بالتأكيد لم يسبق لهم أن ولدوا، كأنه يريد وحده تحمل مسؤولية هذه المواجهة المؤلمة مع واقع مضاعف، الواقع المؤسف الذي يعيشه الشعر، والواقع المأساوي الذي يعيشه الشاعر نفسه، لهذا نصوص سراج منسوجة من الشتائم والبصق والانهيار، ”النهر يقف على خلفيتيه*ليقضي حاجته عند جدران العالم”، الشعر الذي يشبه الهيكل العظمي للحقيقة هو هذا النهر الوقح الذي يواجه العالم، نهر يمكن النظر إليه كوجه أخير يراه العالم، وجه لذاك الذي لم يسبق له أن ولد، ولن يموت أبدا، هذه الفكاهة الغاضبة في القصيدة هي رد فعل على قيام العالم بمهامه اليومية في حين الحياة معزولة وتشعر بالمرارة، قصيدة سراج الدين الورفلي ليست افتعال نسخة خيالية من الواقع، القصائد التي تفعل ذلك هي من صنع فنتازيا أفلاطون ومحاكاته الخبيثة، الشاعر يستخدم الأشياء الموجودة في العالم لأن العقل لا يستطيع التمييز بين الصور والأشياء الموجودة في العالم، لا توجد طريقة لرسم الصور في مخيلتنا إلا على شكل الاشياء الموجودة فعلا، بهذه الطريقة يهزم الشعر حتى قبل أن يبدأ، لكن سراج يستخدم الأشياء بطريقة تجعل معناها غير معروف إلا إذا خرجنا عن منطق الرؤية الجافة إلى رؤية ناعمة وضعيفة لكنها تحب المقاومة، هذا هو الخيال المرتبط بالحداثة، استخدام أشياء العالم للوقوف بها في وجه العالم، بهذه الطريقة “يقضي النهر حاجته عند جدران العالم”، ومدافع الهوازر تشبه قضيب جيمس دين”، هذه ليست الأشياء التي نعرفها في العالم، إنها أشياء لينة تقبل أن يصنع منها الخيال صورة أخرى، لابد أن يكون الخيال غريبا لكن قريب بشكل مفزع من الحقيقة، فيه الكثير من الوحشية، لكن بطريقة حميمة.

“عن ماذا يمكنك أن تكتب في الحرب؟

عن رؤوس العصافير المفصولة في

جيوب البيوت المهدمة

عن جثث الأشجار الملقاة في ذاكرة

الفؤوس الصدئة

أم عن طيبة الألغام وهي تهوى جمع

الأقدام الصغيرة الحافية!

لا يمكنك أن تكون إنسانا هنا وأنت لا

تمتلك مسدسا أو قبيلة

لا يمكن أن تشعر بآدميتك وظلك

يركض جنب الجدران

ههههههههه

على كل حال هم لم يتركوا لك جدار

واحد لتركض جنبه.”

المعاناة تجعل الكلام ضروريا، كل من الحرب والشعر يشعل بعضهما البعض، في سنوات الحرب يعلن العالم أنه مضاد للإنسانية، ويعلن الشعر أنه على استعداد ليقدم للحياة ما يكفي من الضوء حتى لا نعيش فكر الرعب بلا صورة، العالم مكان سيء، ينتظر مجيء الشاعر الذي يمتلك الشجاعة ليذكرنا بالتفاصيل الحادة للحرب، سراج يتحوّل إلى جملة فردية تتحدث عن الظروف المشتركة التي نعيشها أثناء الحرب، فرصة الاجتماع مع الحياة في أيام الحرب ضعيفة جدا، لأن الحرب هي من يجمعنا مرة واحدة وإلى الأبد مع الموت، عن ماذا يمكنك أن تكتب في الحرب؟ يال هذا الإغراء الذي لا ينضب في هذا السؤال المليء بالحيل والفخاخ، ”عن ماذا يمكنك أن تكتب في الحرب

حيث الموت بالمجان

ولا يوجد أي

معنى له

حتى الانتحار

يشبه ضحكة مكتومة مختلطة بالسعال”، لكن سراج يلتقط صورة لوجه الحرب، صورة ناضجة وفي خلفيتها وجه الحياة غير القابل للاسترداد، لا يبحث سراج عن حقيقة الحرب-ما المثير في الحديث عن غبار العالم-بل يبحث في نصوصه عن ما لا يمكن التغلب عليه في الحرب

“أجلس القرفصاء

مثل شيطان خارج الخدمة

وأفكر بكل الجرائم التي لم ارتكبها

أفكر في تسلق سيقان حبيبتي

حبيبتي التي تجري بلا سيقان في

مخيلة رجال آخرين

أفكر في وشم كلمة الله على ذراعي

ذراعي التي سأفقدها فيما بعد

في الحرب

لأن الله لم يمد لي ذراعه

أفكر في كل الذين ماتوا

كم كانوا محظوظين

لأنهم لم يشاهدوا جنائزهم وهي تعبر

من أمامهم.”

ينظر سراج إلى الموت والأطراف المبتورة، إلى ذراعه التي سيفقدها في الحرب بعيون حمراء، الألم لا يسمح لك بأن تعاني، لا يمنحك القليل من الوقت لتعاني، عليك أن تقاوم، أن تكتب قصيدة عن الذي لا يمكنك الكتابة عنه في الحرب، هذه القصيدة لا يكتبها المبتدئين، أولئك الذين لم يسبق لهم أن ولدوا، الذين لن يموتوا أبدا هم وحدهم القادرين على الدخول في معركة مع الموت، لا يفكر الناس في الطقس الحار جدا أو البارد جدا، لا يفكر الناس في الاتفاق على أي شيء تقريبا، لأنها الحرب، لأنها مجرمة وتأخذ معها الجزء الأكثر روعة من الحياة، في أيام الحرب ليس عليك التفكير في أن تجرب شيئا آخر، جرب فقط يوما واحدا لا تموت فيه.

“كل مداخل هذه البلاد

مخارج

لكنك تظل تمشي

في تلك الشوارع الكئيبة

مثل ريح شاردة

مثل نهاية تبحث عن أي بداية تُذكر

أكياس النايلون البيضاء، ترقص حول

جثتها

علب التبغ المرمية، تتأمل المارة

قنينة ماء فارغة، تتدحرج أفكارك إلى

اللا جدوى

لو تعلم أحدنا من القمامة، ربما كانت

حياته ممتعة أكثر

لكن، قوقعتنا الهشة

كسرت العالم فينا

ونحن نبحث في التقويم كل يوم، عن

يوم يصلح ليكون قيامة، أو هدنة

مؤقتة.”

اليوم الذي نحتاجه في زمن الحرب إما أن يكون قيامة أو هدنة، سراج يفتح عينيه على لحظات هذا اليوم، ونحن نفتح عيوننا على نصه لنكتشف أن اليوم كيان فارغ من محتواه، نكتشف الأضداد، مداخل/مخارج، نهاية/بداية، نبحث في التقويم عن يوم واحد لا يكون قيامة أو هدنة، أنت لست حر، أنت مثل كيس النايلون ترقص حول جثتك، مثل علبة التبغ المرمية تنقلها الأرجل من مكان إلى آخر، أو مثل قنينة ماء فارغة تتدحرج بلا طريق، حتى وأنت في بلادك وهي قوقعتك الهشة يصل العالم إليك وينكسر فيك، الحرب لحظة تستخلص نفسها وتتعدى حدودها لتصل إليك، هكذا يصبح لليوم طعم يائس، لا يهم إذا ما كان هدنة أو قيامة، فليس هناك فواصل بين اللحظات في الحرب، ليس هناك ترتيب طبيعي للزمن أو تقويم، الحياة التي تنتمي إليها فواصل الزمن غائبة، ليس لديك الحق لتقول أنا قد عشت هذا الزمن، أنت عشت لحظة توقف استمرارية الحياة وليس الحياة، في نصوص سراج الشكل والوظيفة لهما معنى آخر، لهذا تبتعد عن نصه كل الافتراضات المسبقة، لأن المعنى في نصوصه يقع خارج الشكل والمحتوى، لا يخفي سراج المعنى خلف بديل آخر، المعنى في نصوص سراج مُتبرع به ويتم تقديمه فورا، هذا ما يمنح كلماته تأثيرا فوريا ساحرا، الكلمات تتبدد في قلوبنا مباشرة، سراج يجعل من نصه لحظة غير متوقعة، لحظة خارج القيامة والهدنة والتقويم، يضعنا سراج في الصورة مع الأشياء في هذا العالم، يقوم بإعادة توزيع العناصر في الصورة، كل شيء يصبح رمز يشع أمامنا بوضوح، نشعر معه أن اليوم فقد طاقته القديمة، لقد فرض اليوم قواعد جديدة على نفسه، الحرب قبضة علينا مثل الفئران، ليس هناك مداخل أو مخارج، ليس هناك بداية أو نهاية، نحن الآن في مكان آخر قد تصل إليه الرصاصة قبل أكياس النايلون البيضاء التي ترقص حول جثتها.

“علينا أن نتفاوض مع الموت

نحن المسيجون

المرتبكون

القليلون جدا

الذين نؤكد مرارا وتكرارا بأن لا فائدة

من وجودنا

علينا أن نتفاوض مع الموت

لنكسب بعض الوقت

ونهرب أحزان الآخرين عبر قلوبنا

اليتيمة

نحن الذين نعرف أن لا جدوى من

التفاوض مع الموت

علينا أن نتفاوض مع الموت

نعلم أن الكلمات مجرد عظمة يحبها

الموت

نلوح بها بعيدا

نحن ملائكة الجنائز الخريفية

الذين نفخنا في أبوقنا قبل حتى أن

يؤذن لنا.”

تنظر إلينا هذه الكلمات بعيون شاحبة مثل الذئاب، من الذي يتكلم؟ لمن هذا الصوت؟ من هم “نحن”؟ صوت يشبه طقطقة الخشب، صوت يشبه الرعد، أو صوت القلم على الورقة، في الشعر القديم كان الصوت هو الشعر نفسه، كانت العلاقة قائمة بشكل مباشر بين الصوت والمعنى، في قصيدة النثر عليك أن تدخل بين طقطقة الخشب والخشب لتصل إلى المعنى، لم يعد الصوت ميزة شعرية مهمة، هذه الوساطة الصوتية لا وجود لها في قصيدة النثر، سراج لا يكلم أحد، بل يكلم نفسه أو يتحدث مع شخص لا وجود له، علينا نلقي ببصرنا وليس آذننا على المحادثة، الشعر مع قصيدة النثر تحوّل من طريقة في الإلقاء إلى طريقة مختلفة في التفكير، هذا هو سبب رفض قصيدة النثر، لأن هذه القصيدة تجعل الأفكار الصغيرة والمبعدة والهامشية والتافهة أفكار كبيرة، لأنها تجعل الكلمات المظلمة والفاحشة-من وجهة نظر البعض-مشرقة وموحية، قصيدة النثر تستخدم الكلمات البالية، المستهلكة، الميتة من فرط بساطتها، لكنها تعدنا بمكافأة تأويلية كبيرة، لقد فشلت القافية المتوقعة دائما في إيقاف شعورنا بالحاجة إلى القراءة لا الاستماع، قصيدة النثر تطرح السؤال عن متى نتوقف عن الحنين للشفاهية؟ ”نحن” القصود بها هنا أولئك الذين يكتبون للذين لم يولدوا بعد، للذين لا يفكرون أنهم لن يموتوا أبدا، لكن القادرين على الدخول في مفاوضات مع الموت، سراج يطلق نداء لهؤلاء الشعراء، نداء عام بسبب الوعي الذاتي المفرط والمخلص لنفسه، نداء يقول للشعراء والكتَّاب القليلون: ”علينا التفاوض مع الموت”، لماذا هؤلاء القليلون بالذات؟ لأنهم وحدهم يعرفون أن الكتابة هي الطريقة الوحيدة للتفاوض مع الموت، هم وحدهم من يعرف أن الكتابة ليست خانعة مثل الصوت، الكتابة تقاوم التطهير والموت، الكتابة هي سلاح التمرد، لهذا ترك الشعر الصوت جانبا وواصل السير بقدمين حافيتين إلى انتصاره أو هزيمته، هؤلاء المسيجون من قِبل المجتمع، المرتبكون بسبب عدم الرضا بنصف التوفيق فقط، القليلون لأنهم يؤمنون بقدرة الكلمة المكتوبة على تغيير العالم، هؤلاء الطيبين بطريقتهم، الذين يهربون أحزننا عبر قلوبهم، الأحزان التي نشعر بها في الجنائز الخريفية تجمعها قصائدهم ثم ينفخ بها في البوق، لا ينتظرون الإذن من أحد، لأن التمرد هو طبيعتهم،

“أنهينا الأمر منذ زمن

وجلسنا خلف العدم والوجود

ندون اللحظات التافهة التي لا يحتاجها

هذا العالم المتغطرس

ندونها على جلود الماعز

وفي كهوف الوحدة البعيدة

قبل أن يكتشف الإنسان المتحضر النار

قبل أن يكون للموت هذه الهيبة المزيفة

اللعنة

علينا التفاوض مع الموت

المزيف

ونكشف له عن ظهورنا

عن مخازننا التي خبئنا فيها طفولة

ضحكاتنا

عن منازل أصدقائنا

عن آبارنا

عن ما جمعناه من الصمت والخوف

وعن حقول القمح في أعمار أمهاتنا.”

يسرد سراج الخيط السري للكتابة من جلود الماعز إلى جدران الكهوف وحتى الإنسان المتحضر المزيف مثل الموت، بدون هذا الخيط السري يصبح العالم صورة بلا فكر، لن يستطيع العالم النظر إلى صورته في المرآة بدون الكتابة، الصوت يشظيه، يبعثره، أما الكتابة فتجمعه وتوحده، الشعر يضع اللمسات الأخيرة على وجه العالم، يحاول سراج فهم وحشية الموت، كيف يمكن أن ندير ظهورنا للموت؟ بأن نضع قصائدنا بين وحشيته وبين الطفولة، الضحكات، منازل أصدقائنا، آبارنا، الصمت والخوف، والحقول في أعمار أمهاتنا، الوقوف بين هذه الحميمية والموت هو فاصل زمني نتحدث فيه عن شيء آخر، نتحدث عن الوطن، الأسرة، الأصدقاء، الحب، الأشياء التافهة التي لا تهم العالم المتغطرس.

“لابد أن نفصح عن كل ذلك

حتى لا نهبه الأمر الوحيد الذي يريده

قتلنا بدم بارد

سحبنا من أزقتنا الضيقة

ورمينا في ساحاته الواسعة

تجميعنا كالدموع

في عين من نحب

علينا أن نحتفظ بنظرتنا الأخيرة

معلقة ناحية اللا شيء

علينا أن نكون مستعدين، مرهقين

ومع ذلك قليلون جدا

في ذلك الوقت

على معطفنا المبلل أن يغمر الشتاء

تلك مهمتنا الهزيلة

نُزين الطريق إلى المقبرة.”

علينا أن نكتب كل ذلك، لأن الكتابة هي الجزء المادي منا الذي يتبقى بعد الموت،

“نعلم أن الكلمات مجرد عظمة يحبها

الموت

نلوح بها بعيدا”

لكننا نعلم أيضا أن العظام تبقى بعد رحيل الموت، علينا أن نكون مستعدين وهو يسحبنا إلى ساحة القتال الواسعة، بعيدا عن الأمان في أزقتنا الضيقة إلى الحرب، أن نكون مستعدين لنموت أمامه وهو ينظر بدم بارد، الإرهاق لابد منه، هؤلاء الــ”نحن” قليلون وهذا ليس بغريب فكم شاعر لديه فم رطب ومفتوح ليتكلم عن واقعنا بهذه الطريقة، كم شاعر لديه الاستعداد للقيام بهذه المهمة الصعبة وهي تزيين الطريق إلى المقبرة، في نص آخر يقول الشاعر:

“في مرآتي ما يكفي من العمى

أحفر وجه الظلام

أعثر على عظام الكلمات التي خبأتها لكِ

لأكتشف أنه لم يكن لي يوما لسان.”

التكرار واحد من أهم العناصر الدلالية في نصوص سراج، التكرارت المقصودة تساعد على الربط والتأكيد والتنظيم، عظام الكلمات موجودة في وجه الموت، والإضافة هنا هي: ”لأكتشف أنه لم يكن لي يوما لسان”، الكتابة تعيش حياتها السرية في كلماته، يؤكد على هذا المفهوم من خلال التكرار، وتكتسب الكلمات من خلال هذا التكرار اهميتها، تصبح مغايرة ومثيرة، في القصائد البارعة لا تنتج التكرارات نفس التأثير، لهذا يقول بعض الشعراء لا يوجد تكرار، هناك تكرار بلاغي، غريب، لا مبرر له، لكن في حالة سراج يتم تطعيم وإعادة تطعيم التكرار بمعنى طازج، في النصوص الشعرية التي لا تمنح الدال الأسبقية بل الدلالة، نجد التكرار كوسيلة نصل من خلالها إلى نقاء الدلالة، لأن التكرار يولد الإكراه على الفهم، سراج هو الشخص الذي يكتب، الراوي، السارد، ولديه إجابته الخاصة عن الأسئلة التي قد يطرحها القارئ على نفسه، لا أحد يضع الإجابات في فمه، لهذا يستثمر التكرار للتشديد على بعض الأفكار، وأهم هذه الأفكار هو الكتابة كمواجهة أخيرة مع الموت.

“يؤسفني ما أكتبه

يؤسفني كل هذا الهراء

دون أن يتقاسم معي كأسي رجل صالح

دون أن أعثر على فخذ امرأة في هذا الليل الكبير

يؤسفني أن الكلمات مجرد لعبة ساذجة

وأن الكلاب تملك الشجاعة لتنبح

بينما أنا لا أجرؤ إلا على إقفال النوافذ

يؤسفني ما أكتبه، ما أقوله، وما لا أتفوه به.”

يتكون العالم من إرادة فريدة، تتميز بالألم، الإرادة الوحيدة التي تُعاني هي إرادة التميز، يحدثنا سراج على لسان شاعر محروم من الإرادة، شاعر يعرف متعة الوجود، لكنه لا يبحث عنها، الشيء الوحيد الذي يعرفه هو الإرادة الأساسية، يعرف فقط أنه حي

“يؤسفني أني لم أكن يوما في صف إله أو شيطان

وأن خدعتي الوحيدة هي الوحدة والبؤس

يؤسفني أني لم أكن يوما شيوعيا أو رأسماليا

يساريا أو يمينيا

لم أكن متحررا لأحصل على نساء كثيرات

أو متدينا لأحصل على نساء أكثر.”

هكذا يصف سراج الشاعر والإنسان المحايد الذي ينتمي للجميع ولا ينتمي لأحد، هذا الشاعر يدخل الحمام، يفتح الصنوبر، يسحب سلسلة المرحاض، يشارك في الجنائز وحفلات الزفاف، لديه صورة تشبه ملامح صورته المعلقة على جدار الفيس بوك، يعرف أسماء الجيران، يجلس دائما في الغرفة المقابلة للمطبخ، لا يحب الذهاب إلى عمله لهذا يتخيل كل صباح أنه ذاهب للعب الغولف مع صديق قديم، يفكر في ورثته المحتملين، لم يبق الكثير من المرأة التي تزوجها، ها هو جالس بجوار الباب ينتظر الموت مع الكثير من الصبر، هذا الشاعر يفعل كل شيء لا يحتاج إلى إرادة أو موقف، يستخدم سراج هذا الشاعر البليد لمهاجمة الذي يعتقد أن التحرر هو علاقات كثيرة مع النساء، والذي يتستر بالدين للحصول على نساء أكثر، يهاجم الشاعر الذي ليس لديه حتى شجاعة الكلاب، الشاعر الذي يجيد إغلاق النوافذ، ويخدع الآخرين بعزلته الكاذبة، غير قادر على الاختيار، ليس لديه القوة لمحاربة شيء، يستسلم بسهولة لحياة ميكانيكية، يستسلم للقيم المفروضة عليه من خارج نفسه

“يؤسفني أني مثل كل الخائبين والمفقودين

والعاديين جدا

أحضرت الشراك

وذهبت إلى الغابة

لأصطاد ما أظنه أنا

فبقيت غامضا

كفردة حذاء قرب النهر!”

هذا الشاعر لا يمكن اعتباره جزءا من الحقيقة الإنسانية، لأنه يقبل حقيقة أنه عاجز مثل كل الخائبين والمفقودين والعاديين، ليس لديه إرادة التميز، يقبل الوسط كضرورة، لم يفهم هذا الشاعر الغامض كفردة حذاء قرب النهر أن الأمل هو السبب في حياة الإنسان أو موته، الأمل في التغيير والثورة على كل شيء هو الطريق الوحيد للهروب من العبث، الشاعر الذي لا يعرف معنى عبق العالم، لا يستطيع الهروب من سخافته وسخافة الحياة، لا يستطيع اصطياد ما يظنه أنا، لأنه لا يستطيع نزع أحشاء النفاق.

“نهاياتي ليست عظيمة

كما في الأفلام الرديئة

ولا يمكنني أن أحاول

تُريدين بطلا شجاعا

يموت ودموع العالم مسجونة في عينيه!

تريدين نبيلا يعض بأسنانه

على جراحه ويقدم لكِ الورود في أيام دورتكِ الشهرية!

تريدين مقاتلا شرسا

يتصارع وينتصر دائما

أنا من الصابري

وجثتي تتألم

قبوري شاسعة

خيالي مسافر في أغلب الوقت، أنا في بداية السمنة

معدل الكوليسترول لدي بدأ يرتفع، ومن أجل وجع في الضرس

قد أبقى اليوم كله في المنزل

نادرا ما أصطف في الطوابير

اترك تلك الأشياء تؤخذ مني بسهولة، بسبب

مزاجي

أتخلى عن أشياء كثيرة أيضا

لأني لا أود أن أضيع أوقات فراغي في شيء غير الفراغ.”

في هذا النص يتكلم سراج بلسان المواطن العادي، إنسان بسيط يعيش خارج مجال الثقافة وخارج النطاق الثوري للمثقف، يعترف هذا المواطن، أمام بلاده الفاقدة للطعم النابض بالحياة، التي تعيش عنف الحرب الذي يرمز إليه سراج بالدورة الشهرية، هذا المواطن من الصابري-الحي الشعبي-يعيش من النضج إلى الشيخوخة بحثا عن لقمة العيش، يعترف أنه يعيش حياة سلبية، ولا يفكر في أن يكون البطل على طريقة أفلام هوليوود الرديئة، لن يكون النبيل الذي تريده لأنه غير قادر على إيقاف العنف، ولا على تحسين حياته أو توجيهها، يمكن أن نعتبر كلماته صراحة فائقة أو توبيخ للنفس مع شيء من الشفقة على الذات، يشعر أنه تحول إلى جثة تتألم، ميت في مقبرة شاسعة، وعليه أن يتعلم طقوس الحداد، الجلوس في الفراغ لزيادة معدل الكوليسترول، كأنه يقول اسمحوا لي أن لا أقف في طابور الخبز، في طابور المرتب، في طابور الرقم الوطني، في طابور الموت، أنا أتخلى عن كل شيء مقابل زيادة في معدل الكوليسترول

“لست مخلصا بطبيعة الحال

لا أملك أي قضية، لذلك لا أحاول الموت من أجل

شيء

لا من أجل وطن أو دين

هل تطلقين على هؤلاء بالجبناء؟

نعم ربما كنت كذلك

ربما كنت أسوء من ذلك

أعلم أنكِ تبحثين في هذا النص عن كلمة (لكن)

لتحبيني

لكن

للأسف لا يوجد كلمة لكن..”

الحياة تتحوّل إلى ضعف عميق فينا، البيت المفتوح يشبه القلب المفتوح الذي لم يأت أحد لإغلاقه، جبان؟ أكبر مقامرة يقدم عليها الإنسان صاحب البيت المفتوح هو تركه لوضعه المثير للشفقة، عندما ينظر إلى شعره الرمادي، زوجته التي تفكر بغرفة معيشة جديدة، الأولاد الذين يشبهونه كثيرا في كل شيء، يصبح الجبن هو الاستنتاج المنطقي لوجود حزين، لا يجب أن ننتظر لكن من إنسان لا يتعرف على الوطن إلا في عيون أطفاله، ”لكن” هذه للجنود والمثقفين والشعراء والكتَّاب، المحروم من المعرفة يشكل دائما ثورة سلبية تشبه وجع في الضرس.

هولدرلين قال: ”لماذا يأتي الشعراء في الوقت المناسب؟” لأنهم أكثر من يشعر بقرب ليل العالم، سراج جاء في الوقت المناسب، لقد قرر أن يواجه الصمت غير المقبول للعالم، بصمت الكتابة التي تبعد مذاق الكلمات التي لا تؤدي إلى شيء، وتسمح بالدخول مباشرة إلى قلب الواقع، أو قلب هذا الليل الليبي الطويل، هل على القصيدة أن تتحمل المسؤولية في هذا الوقت الكئيب؟ تنتمي قصائد سراج إلى واقعنا كما ينتمي الوادي إلى الجبل، علينا أن نفسر الوجود في نصوصه، علينا أن نختبر معه الليل، علينا أن نشعر بالمقاومة لهذا الليل في كلماته، المقاومة بمعنى الوقوف وجها لوجه مع الواقع، ثم معارضته ونقده والسخرية منه، الكتابة مقاومة للموت والنسيان، عظمة بيضاء ناصعة نلوح بها في وجه الموت، لابد أن نشعر بقلق سراج حول إمكانيات اللغة في هذه المواجهة الشرسة، قلق حول عدم إمكانية اللغة من أن تكون الإضاءة الليلة في هذا الظلام الحالك، كأن سراج في كل نص يؤكد أن الشعر لا يقرأ العالم، على العالم أن يقرأ الشعر، الشاعر ليس الذي يبقى بين الجدران الأربعة لديوانه، الشاعر مثل سراج يخرج إلى العالم ويسجنه في قفص اللغة، أن تكون شاعرا حقيقيا فهذا يعني أن تكون متيقظا للحظة بداية المقاومة، لحظة المواجهة مع الوقع الذي تعيش فيه، أن تسمع الأصوات الخفيفة، الأصوات المختلطة، غير الواضحة وتكتب بوضوح يشبه نافذة مضيئة في ليلة مظلمة، هذا هو عالم سراج الغريب والمثير للإعجاب،

“في ذكرى ميلاد رحيل حارس المنارة

ظلال تركض بلا أجساد

رقاب أطفال تتدلى من رحم الخوف

نهود تباع في أسواق الريح

وأفواه على حبال الغسيل مبللة بالعطش

أكوام الحجارة منذ زمن فوقي

أفتح صدري، وأطرد نعاس الحقول من عيون الفراشات

قلبي سمكة ميتة تطاردها البحار

ذاكرتي مفتعلة

ويدي، آه أيها الراحل

يدي نسيتها في ذاكرة يدك.”

سراج هو حارس المنارة الذي يبقى مستيقظا عندما ينام الجميع، يراقب ليل البلاد وعصر الانقسام وكسر العهود، الشاعر هو حارس المنارة، وضع يده في يد حارس المنارة الذي يطوي أصابعه باستمرار ليكتب، يقول هيدجر: ”نحن بالكاد نفهم سؤال هولدرلين اليوم، كلمة الوقت هنا تعني العصر الذي نحن جزء منه”، الشاعر يأتي في الوقت المناسب ليرسم معالم الزمن الذي يفتقر إلى قاع، نحن في ليل بلا قاع، نحن في منتصف الليل وهذا هو وقت الشعر، نصوص سراج مكتوبة على جدران القبر الذي يعيش فيه، الواقع قبر، دوران بطيء، قوس من نار والأيام تمر من تحته، يقال أن دانتي لم يكن يكتب إلا وهو يسير على قدميه، للكتابة علاقة بمعنى العبور، لابد من المرور من تحت القوس الناري في كل نص، وعلى القارئ لكي يلتقي بسراج أن يسير على قدميه مثل دانتي، لن تكون قراءة الشعر نافعة لمن يسير مثل المكفوفين وغير المتحمسين، على القارئ أن يسير تحت السرير لأن الأحلام مخبأة هناك، علينا أن نزيح السرير لأن الأحلام الهاربة من الواقع موجودة هناك، في أوقات الشدة التي يتكلم عنها هولدرلين يظهر جوهر الشعر، وقد ظهرت نصوص سراج في الوقت المناسب، هذا الوقت المرّ يحاول مسح آثاره، يتهرب، يختفي، لكن سراج أو (حارس المنارة) يكتب بنصوصه التاريخ، نصوص سراج المجرمة والأنيقة تمنح التاريخ طريقا يسير فيه على قدميه ويكتب سيرة هذه البلاد، سيرة الحرب، الفقر، المرض، سيرة بلاد لم نتعلم فيها الحب، الغناء، الرقص، تعلمنا فقط النظر في وجه جوهر الموت، القمع، الإرهاب، تعلمنا الهروب حيث لا نجد الواقع بكل فداحة حضوره، نصوص سراج وحدها تمشي سيرا على الأقدام نحو الظلام، نحو صمت العالم غير المقبول، وهناك تُخرج ذاكرتها من يد الحارس وتصبح هي المنارة.


عن موقع الكاتب www.altrhuni.ly/

مقالات ذات علاقة

دفقات شعرية

ناصر سالم المقرحي

قراءة انطباعية لديوان الشاعرة/ حواء القمودي (هكذا صرختُ)

جمعة عبدالعليم

قراءةُ العتبة النصيَّةِ الأولى في رواية (غواية الفينيكس)

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق