سعيد العريبي (حكايات وذكريات - سيرة قلم)
سيرة

 سبب كتابتي لمقالتي: أدباؤنا إلى أين.. ؟

(أدباؤنا إلى أين..؟)

في مشاركة منه لتأبين الصادق النيهوم كتب الأستاذ/ عبد الرسول العريبي يرحمه الله.. في صحيفة الشمس مقالة بعنوان: النيهوم والمدن الخائنة.. تحدث فيها عن الأنبياء والمدن والناس والعهر والثقافات المزورة.. كل ذلك ليقول لنا في نهاية المطاف: بأن الصادق النيهوم لم يحمل إلى المقبرة كغيره من البشر.. وإن الأنبياء وحدهم يذهبون إلى المقابر.

استفزتني مقالة ابن عمي الأستاذ عبد الرسول يرحمه الله.. فكتبت مقالتي: أدباؤنا إلى أين.. ردا عليه وبعثت بها إلى صحيفة الشمس.. فلم تنشر كغيرها من كتاباتي الممنوعة.. لكنني نشرتها بعد ذلك في فضاء النت الواسع – عظيم هو النتُ.. لا يمنعُ النتُ شيئاً.. ولكنه القلعة الأمنعُ ـ مع الاعتذار للشاعر مظفر النواب على العبث المتعمد بعباراته الجميلة.

أشرت في هامش تلك المقالة.. إلى حرية الصحافة في بلادنا فقلت:

(سلمت هذه المقالة إلى مؤسسة الصحافة ببنغازي.. كي يبعثوا بها إلى صحيفة الشمس، لكنها وللأسف الشديد أخطأت طريقها إلى هناك.. فسلمت لعبد الرسول بدل أن تسلم لرئيس التحرير).

تحدثت في بداية مقالتي تلك عن المدخل الذي مهد به الأستاذ عبد الرسول لمقالته.. ووصفت ذاك المدخل في الفقرة الأولى فقلت: (لم يكن هذا المدخل مدخل صدق.. أعني الصدق الأدبي الرفيع الذي يدعو إلى الفضيلة، وينأى عن الإسفاف والابتذال الذي يشوه صورة العمل الأدبي.. ليصل إلينا في نهاية المطاف بلا طعم ولا رائحة وربما بلا مسمى أيضا.. تماما كفواكه الزينة التي لا تعلك ولا تبلع.. وليس لها من الأصل سوى الصورة الممسوخة المقلدة.. أعني وباختصار شديد: أدب.. ولكنه في حقيقته “بلا أدب”.

وقلت في الفقرة الثالثة من ردي عليه: (ها نحن نساير الكاتب ليمضي بنا مباشرة وبلا مقدمات.. من المدن الصادقة العاهرة الخائنة المزورة كما يصفها.. ولكن إلى أين هذه المرة..؟

يمضي بنا هذه المرة إلى المقابــر.. ليرتقي أعلى قبــر هناك.. فقــط ليقول لنا هذه الجملة السمجة جــدا: (الأنبياء وحدهم يذهبون إلى المقابر)… ومرة أخرى أقول: ماذا يريد الكاتب أن يقول لنا..؟ هل يريد أن يقول لنا إن الصادق النيهوم لم يذهب إلى المقبرة..؟ لعله يريد أن يقول إنه لم يذهب إلى هناك – في حياته – بمحض إرادته والأنبياء وحدهم يذهبون إلى المقابر للعظة والاعتبار.. في هذا أنا لا أعارضه.. وقد لا يجانبه الصواب.. إذا كان يعني ذلك حقاً.. فأنا فقط أقول: الله أعلم.

أما إذا أراد غير ذلك فإنه مخطئ بلا ريب.. ذلك أن الأنبياء بشر.. ولكنهم أكرم البشر وأفضلهم على الإطلاق، لأنهم أنبياء الله الذين اختارهم وفضلهم على سائر خلقه تفضيلا.. ورغم ذلك التكريم والتفضيل، فإن الله سبحانه يخاطب رسوله محمد عليه السلام بقوله الكريم: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ).. وقد مات رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.. وذهب به صحابته الكرام إلى المقبرة كغيره من البشر.. فهل يريد الكاتب أن يقول لنا.. من خلال عبارته تلك بأن الصادق قد رفع إلى السماء على عجل.. بلا مقدمات وبلا مقابر.. تماما كما رفع عيسى عليه السلام.. الذي لم يكن النيهـوم يؤمن بمولده المعجـزة، تصديقا للوثائق الرومانية وتكذيبا للقرآن الكريم.. كما صرح بذلك لي شخصيا ذات يوم في أحد لقاءاتنا بالفندق الكبير بطرابلس، وقد أخبرت السيد عبد الرسول بذلك في حينه.

وفي هامش تلك المقالة كتبت العبارة التي أشرت إليها في بداية هذا الجزء وهي:

(أنا هنا أحترم وأقدر الصادق النيهوم.. كما كنت أحترمه وأقدره في السابق.. وهو أفضل من التقيت من أدبائنا تواضعا وعلما وثقافة واسعة.. ولكن ذلك لم يمنع من اختلافي معه في وجهات النظر وفي المعتقدات أيضا).

نعم اختلفت معه ذات يوم في إحدى جلساتنا بالفندق الكبير بطرابلس.. عندما قال بعدم قناعته بمعجزة ميلاد عيسى عليه السلام.. فقلت له: إنك بذلك تخالف نصا صريحا من القرآن الكريم.. ولا رأي مع النص كما يقولون.

فقال لي بالحرف الواحد: (ولكن الوثائق الرومانية تؤكد زواج السيدة مريم من يوسف النجار).

فقلت له: ذكرني كلامك هذا يا استاذ صادق.. بما قاله جحا لصاحبه.. في الحكاية المعروفة: (يا رجل أتكذبني وتصدق الحمار).. أعني أتكذب القرآن الكريم.. وتصدق الوثائق الرومانية..؟ هناك سورة كاملة في القرآن الكريم تتحدث عن السيدة مريم ومعجزة ميلاد السيد وتكلمه في المهد.

فقال: وحديث السيد المسيح أيضا لم يكن معجزة.. !!!

فقلت له: وما دليلك على ذلك..؟

فقال: كلمة صبي تعني في اللغة العربية من هو فوق العاشرة.. وحديثه بالطبع ليس بمعجزة.. في إشارة منه إلى قوله تعالى: (فأشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً).

فقلت له: ولكنك تجاهلت كلمة (فِي الْمَهْد) التي قدمت على كلمة (صَبِيّا).. وهي أولى في اللغة العربية بالاعتبار بحكم التقديم.. وتجاهلت أيضا قوله تعالي: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ).. التي تنسف وجهة نظرك من أساسها.

في ذلك اليوم بالذات قلت له مودعا:

أنا أحترم وأقدر الصادق النيهوم كأديب عندما يحدثنا عن الأدب.. أما عندما يحدثنا عن الدين ويخالف ما عرف عنه بالضرورة وبالنصوص الصريحة، فإنني أقول له: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

هذا وإن السيد عبد الرسول نفسه ــ يرحمه الله ــ كان على علم مسبق بتفاصيل أشمل وأكثر عما دار بيننا في تلك اللقاءات.. وقد حضر معي بالفعل أحدها وذلك بفندق الجزيرة ببنغازي. والله على ما أقول شهيد.

كلمة أخيرة:

وأخيرا.. دعوني أقول لكم إنني كنت ولا أزال.. أعتز وأفتخر بصداقتي للنيهوم.. وتلك الصداقة لم تحل دون اختلافنا في وجهات النظر.. وإذا اختلفنا فالحقيقة أولى بالصداقة.. تماما كما يقول أرسطو في عبارته الجميلة التي أرددها دائما وأؤمن بها: (أفلاطون صديقي والحق صديقي.. فإذا تنازعنا فالحق أولى بالصداقة).. وقد كان كما عرفته ــ يرحمه الله ــ يؤمن بمبدأ حرية الرأي ويدافع عنه كثيرا.. وخلاف الرأي لا يذهب المودة ولا يفسد للود قضية.. كما يقول العقلاء عندما يصرحون بمكنونات نفوسهم.

مقالات ذات علاقة

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (32)

حواء القمودي

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (8)

حواء القمودي

محمد السيليني.. فنان «عالي الدرجات» والإحساس

أسماء بن سعيد

اترك تعليق