شخصيات

الفاخري نحّات الكلمات

الكاتب الراحل خليفة الفاخري بريشة الفنان عبدالحليم القماطي (الصورة: هنا ليبيا)
الكاتب الراحل خليفة الفاخري بريشة الفنان عبدالحليم القماطي (الصورة: هنا ليبيا)

لا يمكن الحديث عن خليفة الفاخري دون الحديث عن الصادق النيهوم مثلما لا يمكن الحديث عن النيهوم دون الحديث عن الفاخري فقد جمعت بينهما الثقافة والهم الإنساني الواحد مثلما جمع بينهما الفقر والفاقة وسوق الحشيش الذي كان النيهوم يصطاد فيه العصافير و انوف المارة بمقلاعه قبل أن يشرع لاحقا في اصطياد الليبيين بكتاباته الساخرة وجمع بينهما بحر الشابي الذي كان الفاخري يبيع عل شاطئه الريح للمراكب .

وجمعتهما حجرة الفاخري المطلة بنافذتها على مقبرة سيدي حسين حيث كانا ينحتان مقالاتهما بكل مهارة رغم مأساوية المشهد الذي تطل عليه النافذة . ولعل هذا المشهد تحديدا هو من صنع لنا كاتبا و مفكرا وفيلسوفا ساخرا في حجم النيهوم ومبدعا كالفاخري يحتضنك بكلماته الدافئة فيما ينفطر قلبك حزنا وهو يواجهك بحقيقتك التي كنت تجهلها .

كما لا يمكن الحديث عن الاثنين الفاخري والصادق دون الحديث عن الأديب محمد عقيلة العمامي صاحب الإصدارين قطعان الكلمات المضيئة ومنابت الريح الذي جمعته بهما صداقة عميقة امتدت حتى رحيلهما عن الدنيا والذي كان يجلس في مقهى سي عقيلة فيما غادرا صديقاه النيهوم والفاخري بنغازي بحثا عن تجربة.

هل الكتابة هي مجرد حشد للكلمات والألفاظ والعبارات والجمل والصور ؟ أم هي معاناة حقيقية تغذيها الذاكرة وتثيرها التجربة ويدعمها الخيال ويصوغها الحلم ؟ ، وهل التجربة الذاتية للكاتب ضرورية وكافية وحدها لإنجاز مشروعه الأدبي ؟ أم إن الأدب في جوهره هو انعكاس لمعاناة وتجارب الآخرين ؟.

 في مقال يعود إلى سنة (1968) بعنوان ” أعطنا تجربة ”يقول خليفة الفاخري :

 ” …نحن جيل فارغ .. لا نملك أية تجربة تربطنا سوياً ، سوى حماقاتنا الفردية الممتلئة بالغرور والادعاء الأجوف الواسع الشدقين … إننا جيل فقير لم يدخل تجربة واحدة ، يا أيتها السماء أعطنا تجربة واحدة ، واحدة فحسب “.

 ولأن الفاخري كان يعلم قبل غيره أن السماء لا تمطر ذهباً ولا تجارباً ، فقد قرر الرحيل إلى الشمال بحثاً عن تجربة ، إقتداءاً بصديقه الصادق النيهوم ، الذي ترك الوطن قبل ذلك بسبع سنين ، والذي كان ينصحه باستمرار بمغادرة سوق الحشيش ، لأنه على حسب تعبيره مجرد بالوعة مناسبة للصراصير ، لكنها تبتلع الناس الرائعين.

الصادق النيهوم لا يخفي عدم إيمانه بالتجربة ، لأنها ليست أصل الكلمة على حد قوله ، بل ليست أصل أي كلمة على الإطلاق ، فإننا لا نستطيع بالتجربة وحدها أن نفعل أي شيء.

 التجربة عند الفاخري مجرد جسر يعبره الرجال الواثقون بأقدام حذرة لاستطلاع حقيقة الضفة الأخرى ، إنها إدراك جانب مركّز من الحياة ، تنطلق على أساسه لخلق عمل رائع ، أما غير ذلك فهو ضياع متناهي مدمر .

لم تكن تجربة سوق الحشيش وميدان الحدادة وشوارع الشويخات ولحيول ، وبيته المطل على مقبرة سيدي حسين كافية في نظره ، رغم أنها برهنت لنا على مقدرته على حشد الكلمات الجميلة ومقدرته أيضاً على بعث الحياة فيها من خلال ملئها بالصور التي كانت تعكس الواقع الذي خاصمه الفاخري وشاكسه ، ولكن ليس إلى حد القطيعة معه.

 في عناء الكلمات يقول الفاخري “… من يستطيع أن ينقل بالكلمات كل الجمال الذي يجده … إن ذلك يحتاج إلى كمية من الضوء … إن الكلمات في كل اللغات غير قادرة بأي حال إن تربط ما بين الحدث المتوهج الذي يقع بين طرفي الحياة نفسها … إن حل هذه المشكلة يأتي بطريقة أخرى ، ضع الصور بجانب بعضها ، واكتب ذلك بأكثر الطرق اختصاراً ، وتذكر أن القارئ آلة تضارع الحياة في تعقيدها … “

هذا ما فعله ألفاخري تماماً وهو يكتب ( الهزيمة ، والأصدقاء ، وعلى الأرض السلام ، وحكاية رجل رياضي ، وسنوات العمر الصدئة ، والوجه الطيب القديم ) .

 في ( الوجه الطيب القديم ) يقدم الفاخري صورة بالغة الجمال تكاد من فرط روعتها أن تنطق “…كان الحي منتعشاً … وكانت تعشعش في ميدانه الصغير شجرة الورد ناثرة أغصانها عبر إحدى الزوايا ، فيما تستلقي أوراق كرمة العنب من فوق ذلك السطح ، وتكاد تملأ جبين الجدار بالبقع الخضراء ، كان هناك عنقود خجول يطل مع إطلالة شهر يوليو على الميدان ، ولقد تعود الصبية أن يتسلقوا الجدار بطريقة ما وينزلوه من بين الأوراق …” 

 يقول الأستاذ محمد عقيلة العمامي في كتابه ” منابت الريح ” ليس بالإمكان تصوير ميدان سوق الحشيش في ذلك الوقت بأكثر من ذلك ، ولو سألت أحد سكان الحي آن ذاك لقال إن العنقود يتدلي من بيت فلان .

 في ( سنوات العمر الصدئة ) أحس كل من قرأ المقال أن الفاخري كان يحكي عن طفولتنا جميعاً ” … أصدقائي .. طفولتي رديئة ، أكثر رداءة مما يتصوره خيال بشري ، فأنا لم أكن قادراً على أن أبدو ولداً صالحاً ، إذ كانت قدماي تنزلقان بيسر بالغ إلي ارتكاب أفظع الحماقات بلا انقطاع ، يلتوي منها أنف الشيطان امتعاضاً ..

 لكن الفاخري الذي قال عنه الصادق النيهوم في معرض تعليقه على مقال (سنوات العمر الصدئة ) ” إنه كاتب صلد القدمين ينهض بأحزانه وقدرته المذهلة على معالجة كلماته بالعرق والنار ” لم يعي جيداً كلام صديقه أو إنه تعمد تجاهله على نحو ما ، فنراه عام ( 1970 ) يحزم حقائبه ويجمع مدخراته ويرحل إلى مدن الشمال بحثاً عن تجربة .

 في مقاله ( لا تجري أمام الكلاب ) الذي كان إحدى ثمار هذه التجربة ، تصفعك ريح باردة ، وتزكم انفك روائح التبغ النتن والخمــور الرخيصة المنبعثة من حانة ( القرصان ) وتصم أذنيك الأصوات المزعجة التي تبثها مكبرات الصوت في محطة قطارات ( فيكتوريا ).

 إن مأزق الفاخري الحقيقي إنه لم يستطع الانسلاخ عن جلده ، فجاءت كتاباته اختزالا لتجربته الخاصة جداً . فالقارئ الذي لم يغادر سوق الحشيش وميدان الحدادة ، ولا يعرف أن هناك عالماً آخر وراء بحر الصابري ، لا يعنيه في شيء ذلك الوصف الرائع الذي وصفه الفاخري لحانة القرصان.

 في ( أحزان قديمة ) تشعرنا كلماته بالغربة والحنين الذي يعبر بوضوح عن خواء التجربة التي عاشها.

 رحلتك طالت يقول الفاخري : ” طالت إلى أمد بعيد لم تعد تعرف فيه من أين بدأت وإلى أين يريدك الله أن تذهب ، وأنت لا زلت تذرع أرض الله بلا زاد تحمله ، سوى رؤياك القديمة وذكريات التسول والحلم عبر المطر بيت وزوجة نحيلة تطهو لك طعاما جيدا ….”

في تجربته الثانية التي استمرت لسنوات عديدة ما بين عامي ( 1975و 1981 ) قضاها في الشمال ، صمت الفاخري صمتا طويلا ، أشبه بصمت مقبرة سيدي حسين التي شهدت حجرته المطلة عليها إنتاجه الغزير .

 عندما سأل الراوي الكبير نجيب محفوظ عن أسباب توقفه عن الكتابة خلال سبع سنوات أعقبت قيام الثورة المصرية ، أجاب بأنه رأي كل أحلامه تتحقق ولم يعد لديه ما يقوله ، فهل كان لدى الفاخري ما يقوله ، أم إن تجربته الثانية التي تحققت فيها رؤياه القديمة وحلمه ببيت وزوجة نحيلة تطهو له الطعام ، هو ما يعلل صمته المطبق.

واللافت للنظر أن المرأة لم تحظ باهتمام الفاخري ولم تكن مصدرا من مصادر الهامه كما هي لمعظم المبدعين ويفسر البعض ذلك بأنه بسبب العادات والتقاليد التي كانت تسيطر على المجتمع الليبي أنذاك وهذا تفسير يدحضه الواقع فالمرأة كانت موضوعا محببا احتل مكانة واضحة في شعرنا وموروثنا الشعبي واظن ان عزوف الفاخري عن تناول المرأة في كتاباته مرده إلى خجله الشديد ونوع التربية المحافظة التي تلقاها في بيته ويؤكد ذلك أن كل التجارب التي عاشها لم تمنحه الثقة كي يختيار زوجته بنفسه فأوكل هذه المهمه إلى والدته . ولتدليل على طيبة الرجل وصدقه فقد طلب من احد اصدقائه الذهاب إلى اهل العروسة لكي يقول لهم من هو خليفة الفاخري كما يعرفه بحسناته وسيئاته مخافة ان تكون الصورة التي وصلتهم هي صورة ملاك هبط من السماء لكي يمنح ابنتهم السعادة الأبدية .

لكل مبدع إبداعه الذي يذكره به القارئ فالمجوس تذكرنا بالكوني والثلاثية بنجيب محفوظ وفوضى الحواس باحلام مستغانمي والجريمة والعقاب بديستوفسكي والحرب والسلام بتوليستوي وموسم الهجرة للشمال تذكرنا بالطيب صالح ومائة عام من العزلة بجابريل غارسيا ورجال في الشمس بغسان كنفاني والفردوس المفقود ببروست …. وموسم الحكايات يذكرنا على الدوام بخليفة الفاخري وهو عمل ابداعي لم يكرره الفاخري ولا حاول غيره النسج على منواله فالإبداع لا يحدث إلا مرة واحدة وأن حدث مرة أخرى فلن يكون سوى نسخة مشوهة عن الأصل .

موسم الحكايات … كان الكتاب الأكثر قراءة على الأقل لي إن لم يكن لجيلي الذي تجاوز الستين ويزحف الأن ببطء شديد نحو عتبة عمرية تطل على مشهد شديد الضبابية .

في موسم الحكايات قرأنا الفاخري جيدا ثم اعاد كتابتنا من جديد بكل مهارة وأتقان لنقوم نحن بعد ذلك بقراءة أنفسنا .

كان موسم الحكايات كتابا احتوى على كل شي ء المقالة الأقصوصة الحكاية والخرافة الشعبية وكل ما كانت تحتفظ به ذاكرتنا وكل ذلك في اسلوب ادبي جديد تميز به الفاخري جمع ما بين رشاقة الكلمات ودقتها وجمالها تكثيف لا يفسد المعني فلا يقول في ثلاثة كلمات ما يمكنه قوله في كلمتين نص نثري يقتبس من الشعر ايقاعاته وموسيقاه ومن الرواية جمال سردها الممتع .

ساقتبس الأن مما كتبه محمد عقيلة العمامي الذي يقول عنه الفاخري أنه يراني بعيوني، سأقتبس ما كتبه عن ادوات الفاخري الجمالية وتحديدا عن موسم الحكايات …((المكان والحقيقة والمشهد هي ادوات الفاخري الجمالية في بداية كتاباته غير انه بعد موسم الحكايات لم يعد يهتم كثيرا بالمكان وانما اهتم بالمشهد وركز على الحقيقة وجعلها اكثر شمولية . فمعظم قصص الفاخري إن لم تكن كلها هي نتاج تجربة شخصية أعرف ابطال عدد منها مثلما اعرف شخوصها وركائزها ذلك يؤكد بطريقة ما إصراره على قول الصدق ولعل هذا السبب هو الذي جعله في جل اعماله يسرد لنا القصة من خلال بطلها وليس من خلال ضمير الغائب إن اصراره على كتابة التجربة الحقيقية وتسخيرها لخدمة فكرة شاملة او مطلقة بتشبيهات خيالية وابتكارات لفظية قوية هو امر موغل في الصعوبة.

مراسلات المبدع الخاصة تساعد القاريء والناقد على معرفته في محيطه وبيئته العائلية والعافية ولقد قرأت رسائل الفاخري على أمل أن اعثر على مي زيادة وغادة السمان او سيمون دي فوار ولكنني وجدت اصدقائه عمر جعاكة ومحمد كانون وعادل الغرياني واحمد اعبيدة ووجدت اسلوب لا يقل جمالا عن كتاباته بل ويتفوق عليها احيانا في صدف المشاعر وبلاغة الوصف وجماله ووجدت حزنا عميقا ومعاناة كبيرة عاشها الكاتب وعبر عنها بكل مرارة في رسائله.

في قصته ( النوارس ومنابت الريح ) أعاد خليفة أكتشاف نفسه ولو قدر له ان يعيش بيننا أطول مما عاش لقرأنا له أدباً مختلفاً ، لكنها تصاريف القدر التي لا نملك معها إلا التسليم.

ومن ترتيبات القدر ان رحيل الفاخري يوم 6/6/2001 قد حدث قبل ايام قليلة من الموعد الذي حددته رابطة الأدباء والكتاب لتكريمه والذي كان مقررا له يوم 18/6/2001 حتى تتحقق مقولته التي طالما كان يرددها وهي أننا لا نكرم الأحياء !!!! وعليك أن تموت اولا وان تشبع موتا و ان تلتهم الديدان احشائك ويأكل التراب عظامك ساعتها يمكن ان تحظى بقايا جسدك بتكريم يليق بها.

احد اصدقاء الفاخري يصف يوم وفاته بأنه كان يوما حزينا ..كنت اشعر بحزن الناس عليه الذين يعرفونه والذين يسمعون عنه , كان محبوبا من الناس بدرجة يصعب تصويرها , ولم اتعجب من هذا الحب فقد ظل طوال حياته نموذجا رائعا للأديب المتميز المتمكن من ادواته المسخر موهبته لتقديم فكر جيد للناس فيما ظل ملتزما بكل ما هو عفيف ونظيف في هذه الدنيا.

ونحن نرى اليوم الأبطال يصنعون نهاياتهم ,هل يمكن القول ان فارس الكلمة الفاخري قد صنع مشهد موته بالطريقة التي تمناها فقد كان احبابه واصدقائه بجواره يحيطون بسريره قبل ان يرحل في رحلته الأخيرة فيما كانت جموع غفيرة من جيرانه ومعارفه تكتض بهم الشوارع المحيطة بالمستشفى حيث يرقد خليفة الفاخري . أحد الممرضين يسأل احد الحضور الذين بقوا امام المستشفى لساعات متأخرة من الليل …. من يكون خليفة ؟ فلم ارى في حياتي اناس قلقون على مريضهم مثل هؤلاء الذين جاؤا من اجل خليفة ….

رحم الله خليفة الفاخري واسكنه فسيح جناته وانار قبره بقدر ما حاول ان ينير حياتنا ويدخل الفرحة إلى قلوبنا.

  7/11/2024

مقالات ذات علاقة

الخريف.. رحيل الشعراء

المشرف العام

نصر الدين القاضي…اشتهاءات القصيدة

مهند سليمان

أول مهندستيْ مواد ليبيتيْن!

عبدالحكيم الطويل

اترك تعليق