النقد

معالم قصيدة النثر

قراءة في شعر الشاعر/ المهدي الحمروني

الشاعر المهدي الحمروني
الشاعر المهدي الحمروني

من يظن أن النقد مجرد تحليل نصي أو أحكام نقدية واستنتاجات دراسية، قد لا يلم بالصورة الكاملة لوظيفة النقد، فالنقد رؤيا واكتشاف، وإمتاع ومؤانسة وعلم، باختصار: النقد خلق نصي جديد في عالم جديد يختلف عن النص الابداعي لكنه لا ينزاح عن متعة الاكتشاف، ولهذا يختلف فهم النقد كدراسة فقط عن وظيفته الابداعية…

ان من يعتبر النقد دراسات جافة لا يفهم حقيقة النقد ولا جوهر العملية النقدية، لان النقد إبحار في عالم النص بمرافقة القارئ لاكتشاف عالم النص الجديد في رحلة سحر الفن.

في مقاربتي النقدية لقصيدة من الشعر النثري الليبي الحديث، أو ما يسمى في قاموس النقد “قصيدة النثر“ استوقفني صوت الشاعر المهدي الحمروني المتميز فاخترت له نصا حديثا قرأته منشورا على صفحته. لكن أولا ماذا تعني قصيدة النثر؟

 قد يكون طرح هذا السؤال متأخرا عن الدراسات التي تناولت هذا الموضوع، حتى قيل انه أشبع بحثا وتنقيبا فقد تشكل وأصبح مفهوما عاما، قد يلتبس معناه ودلالته في ذهن معارضي رواد الحداثة. وقد اتخذ هذا النوع من الفن الشعري مستويات مختلفة من مؤيد لهذا النوع ومن معارض يتصدى له ويرفض اعتباره جنسا شعريا عربيا أصيلا، ويعده البعض تهويمات لغوية بلا معنى الا خلق بلبلة فكرية حول مقولة “الشعر ديوان العرب” واقصد بديوان العرب هنا الشعر المقفى الموزون. بينما سادت قصيدة النثر على مساحة واسعة مما صدر من الدواوين الشعرية الغزيرة، وما يعرض على صفحات ووسائل التواصل الاجتماعي.

قراءة النص النقدية من هذا النوع لا تتم الا بمناقشة مفهوم الشعرية، الذي يميز بين نص شعري وآخر خال منها خاصة وان النقاد للشعر العربي يعرفون “ان تحديده بمجرد الوزن والقافية أخذ يضطرب منذ القرن العاشر في أن يكون الوزن والقافية مقياسا… ونشأ ميل الى التشكيك في ان يكون مجرد الوزن والقافية مقياسا للتمييز بين الشعر والنثر”.

> ما هي الشعرية؟

تعد الشعرية من أصعب المصطلحات الأدبية والنقدية التي تعصى على التأطير في لوحة محددة المعالم. ظهر هذا المصطلح في العهد اليوناني منذ أيام أرسطو حيث رسخه في كتابه الشهير “فن الشعر” الذي ألفه في القرن الرابع قبل الميلاد والذي بقي إلى يومنا هذا من أهم المصادر في هذا الخصوص. واهتم العلماء والمفكرون الاسلاميين بمفهوم الشعرية وساهموا في بناء الأسس التي يقام عليها فن الشعر، واشير الى انه بالرغم من أهمية مساهمة بعض الانجازات في هذا المجال لكن كل الاجتهادات العربية الاسلامية كانت في الشعر الكلاسيكي المقفى والموزون وهذا ليس قريبا من اهتمام هذه الورقة التي تعنى بقصيدة النثر ومعالمها الشعرية.

تطور مفهوم الشعرية على أيدي مختلف النظريات الحديثة والنقاد الشكلانيين والبنيويين ولعل من أهمهم تزفيطان تودوروف الذي يرى أن “الشعرية هي دراسة الفن الادبي باعتبارها إبداعا تلفظيا” وفي نفس المعنى يسير أحد النقاد العرب الذي يبدو انه تأثر برأي تزفيطان تودوروف ليعلن لنا “إن الشعريّة في ذاتها هي ما يجعل الشّعر شعرًا، وما يُسبِغ على حيّز الشّعر صفة الشّعر، ولعلّها جوهره المطلق“.

أدونيس يحصر الشعريّة في طريقة التعبير أو كيفية استخدام اللغة، ويرى تحقق الشعرية في شرطين “الخروج على الكلام الشعري التقليدي، والخروج على الكلام الشائع السائد، لا يعني هذا ان الشاعر حيادي او يجب أن يكون حياديا بل يعني انه لا يجوز ان يخضع كتابته للمقتضيات الايديولوجية. فليس الواقع هو الذي يحول الكلام الى شعر بل الفن هو الذي يحول الواقع الى شعر، ومعنى، ذلك أن قيمة العمل الشعري لا تكمن في مدى كونه “يمثل” أو “يعكس” وانما تكمن في مدى قدرته على جعل اللغة تقول أكثر مما تقوله عادة، أي على خلق علاقات جديدة بين اللغة والعالم وبين الانسان والعالم“.

الشعريّة عند الناقد كمال ابو الديب كما قدمها في كتابه (في الشعريّة) هي “خصّيصة علائقيّة، أي أنّها تُجسّد في النّص شبكة من العلاقات التي تنمو بين مكوّنات أوّلية، سمتها الأساسيّة أنّ كلا منها يمكن أن يقع في سياق آخر من دون أن يكون شعريّا، لكنّه في السياق الذي تنشأ فيه هذه العلاقات، وفي حركته المتواشجة مع مكونات أخرى لها السمة الأساسيّة ذاتها، يتحوّل إلى فاعليّة خلقٍ للشعريّة، ومؤشّرًا على وجوده“.

يبحث كمال عن الشعرية في بنية النص عبر اكتشاف الخصائص المميزة لها على مستويات تتجسد في اللغة وأسرارها التي تندس في التركيب للأسس اللغوية وأبعادها، ويقول “ومثل هذه المقارنة تسمح بالحديث عن الشعرية بوصفها فاعلية لكيمياء اللغة، وباكتناه أبعادها العلائقية المعقدة في ضوء هذا التصور”.

> الصورة الشعرية

القضية الثانية في مقاربة القصيدة النثرية هي التطرق لأهمية الصورة في هذه القصيدة، وهي تصوير الشاعر لتجربته ونقلها من المشاعر المحسوسة الى النص الملموس، وتعد الصورة الشعرية سر تميز الشاعر وقدرته، وهي عنصرا أساسيا من العناصر المكونة للبناء الشعري قديما وحديثا، وان اختلفت تشكلاتها وأدواتها الفنية، “فالشعر الحديث يختلف عن الشعر القديم في طريقة استخدامه للصور”، ومن الممكن اختصار القصيدة في الصورة التي تشكلها، فما القصيدة الا صورة، والصورة هي المركز الذي تدور حولها كل مكونات الخطاب الشعري، “فلا الصورة تستغني في وجودها عن المادة، ولا المادة يمكن أن توجد بالفعل دون صورة”، وهي ترتبط بالخيال الذي يمنحها صفة الإبداع وهو الحد القائم بين الشعر والنثر، وقد اهتم الجاحظ بها في كتابه (الحيوان) فعنده الشعر “فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير“.

كذلك اهتم عبد القاهر الجرجاني ووضع اللبنة الأولى للنظرية البنيوية “ويقسم الجرجاني المعاني التي هي مدار البحث الدلالي عنده قسمين، المعاني العقلية والمعاني التخييلية ويعلق قائلا “فهي هنا عبارة مختصرة وهي أن تقول المعنى ومعنى المعنى، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى وأن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر “في اهتمامه بثنائية اللفظ والمعنى “وتولد الصورة منهما معا، وتبلورها اللغوي في بنية مركبة لها نموها الداخلي وتفاعلاتها الغنية“. ونستطيع القول “ان الكتابة بالصور هي القانون المحوري الذي قامت عليه القصيدة الحديثة”.

ما يجب التنويه عنه هو ان الصور الشعرية تأخذ تتابعا في السرد في النص وتتجلى بوضوح، هذه القضية ليست محور اهتمام الورقة ونستطيع القول ان السرد يسود كل النصوص الأدبية بلا استثناء. ولكن تختلف تشكل صوره من نص لآخر.

يكفي هذا القدر من التقديم النظري لهيكلية التحليل أولا لأنها خطوة أساسية في أي قراءة نقدية، ولإثبات صعوبة تحليل قصيدة النثر الحديثة نظرا لتعدد الرؤى حولها في مقاربتها، وهي التي تبني ملامحها وبنيتها خارج الإطار الذي حدده التراث الشعري العربي، فلا يوجد تحليل دون سند للارتكاز في عملية القراءة حتى تكون القراءة عملية منتجة ومثمرة.

الشاعر المهدي الحمروني من الأصوات الهامة في مدونة الشعر الليبي الحديث، شهد له عديد النقاد بالقدرة حتى وصف بأنه يحمل مشروعا مميزا في هذا الجنس الأدبي، وللأسف لم اطلع على أعماله الغزيرة الا مؤخرا بعد عودتي من الغياب. الشاعر المهدي غزير الانتاج وله دواوين عديدة منها: ديوان “نبض لمنابت العطر“، ديوان “مهدي غير منتظر“، ديوان “مجاز تائه الى الوحي“، ديوان “ماء دون وساطة الخزف“، ديوان “سؤال متعب من استفهامه“.

اخترت قصيدة لمقاربتها نقديا وهذا لا يعني انني انتقيتها قصدا ولكن هما ما اطلعت عليه أخيرا وتوقفت في درب التأمل، مرحلة مهمة فيما يسبق قرار الاختيار، فاندهشت من التركيب اللغوي والمعنى المتخفي في ثنايا نسيجه لتركيب الصورة الشعرية، هذا الذي ولًد تصورا مختلفا عما قرأت في شعرنا وعلى الأقل فيما أمكنني الاطلاع عليه على قلًة اطلاعي. القصيدة بعنوان “نحو ما يليق بتدوينك” المنشورة على صفحة الشاعر بتاريخ 6 يوليو.

تحليل القصيدة “نحو ما يليق بتدوينك“.. نص شعري غني مركب من عدة مستويات فنية واعية نستنطقها فيما يلي:

> تحليل النص

العنوان العلاقة مرتبطة جذريا بين العنوان والنص، ويوجد اختلاف في هذه المسألة بين الشعراء، وتختلف وظائف العنوان حسب هدف الشاعر وقدرته الإبداعية في صياغة عنوان نصه.

وفي هذه القصيدة نكتشف ان العنوان مرسلة قصدية يضيف معنى للنص ويرشد القارئ في عملية التأويل وقد يغري القارئ بصيغته اللغوية، منذ البداية يوجهنا لقصيدة الشاعر ويعطينا مفتاح النص ويدعونا للتساؤل حول من هو ضمير المخاطب، وهذا الأسلوب يقرب الصورة الى ذهن القارئ “الشعر الموجه نحو ضمير المتكلم يرتبط بالوظيفة الانفعالية وشعر ضمير المخاطب يتسم بالوظيفة الافهامية“ فهو يريد أن يفهمنا عمن يكتب، ويظهر مستوى التبجيل للمخاطب من دلالة الفعل “يليق” أي بما يناسب. وتعالق اسم التدوين من مصدر “دوَن” مع الفعل يرسم معنى البحث عن التصنيف، أو جمع المتفرق كتابة، والتحويل من افكار إلى حروف وكلمات على ورق، والتدوين له معاني ايجابية على كل الاصعدة مثل: الاهتمام، الحفظ، التخليد …الخ. نلج القصيدة متفقين معها في الاتجاه الذي حدده لفظ “نحو” الذي يوجه القارئ والنص نحو البحث عن التبجيل والتخليد للمخاطب. وسنكتشف ان العنوان يتغلغل في كامل النص ويختزل المعنى الإجمالي له.

الاستهلال يبدأ برفض التقابل مع الصورة الموصوفة التي بتحاشي مواجهتها ”لا تجلسي قبالتي” يبرر النص هذا التحاشي لأنها ستغرق الشاعر في فضاء غير مألوف هو الغرق في فلسفة الأسئلة، والدلالة تشير على ان الشخصية تدل على التفرد والعمق والغرابة، ويلمس القارئ الطاقة الأنثوية المنبعثة من الصورة التي لم تكن مهيبة لجمالها الجسدي الذي تعارف الشعراء على إظهاره والتغني به انما رسمها بهالة من الجلال تتجاوز المتكرر والمعتاد صوب المتعالي الخلاق الذي سنتتبعه فيما يلي من النص.

ولعل الفجوة وهي كما وردت في التعريفات النظرية “تنشأ الفجوة من إدخال مكونين متضادين في علاقة جديدة، ينشأ نمط متميز فيها من عملية مضادة تقريبا”، هي أهم سمات الشعرية وهذا ما نلمسه في “استحقاق العروش لجلالها” فالصورة المعكوسة خلقت هذه الفجوة لتصبح الذات الموصوفة أعلى مقاما من العروش فالمتعارف عليه هو امكانية استحقاق الانسان لاعتلاء العرش، وليس العكس، وجاء اقتران لفظ “جلالك” ليضاعف من تفخيمها، ثم إتيان صيغة الجمع للفظ “العروش” لتعني الكثرة والتعدد وهو ما يضخم مكانة الموصوفة.

يطلب منها أن تمر وحيدة على حيرته ونسجل التركيب السردي المختلف حيث تمر الصورة على العين الناظرة ويطلب ان تكون صورة خلفية متفردة لمشهد الحدث الذي يرسمه فالتركيز على صورتها بمفردها فلا أحد يشاركها خصوصية التموقع للتعبير عن مكانتها العظيمة التي أدهشت القارئ بتشكلها الفريد.

الصورة ترسم الفجوة الثانية التي تؤكد شعرية النص يقول “فللكتابة عنك ينبغي للشعر تصحيح نظره في فلسفة الخلق” كيف يمكن للشعر تصحيح نظره؟ هنا تتأكد الصورة المضخمة للموصوفة بإعطاء الشعر خصوصية بشرية في “تصحيح نظره” أولا، وفي موضوع فلسفة الخلق، ثانيا، وهو معنى متعمقا في التصوير المركب الذي يعني أن الشعر عليه اعادة نظره كيف سيخلقها، فالتركيب اللغوي يتسم بالعمق ويتطلب المعرفة التي ترسمها العلاقة بين الدال والمدلول في صيغة الفجوة“. ثم يؤكد على طلبه خلق لغة جديدة بتوصيفها ب لغة “عذراء” أي لم تستعمل بعد، لتكون قادرة على التعبير عن هذا التدوين الجليل المعلن عنه.

في المقطع الموالي من النص يعود لتكرار البحث عن أداة تعبيرية تليق بالمقام في صياغة مختلفة لكن تؤدي الى المعنى نفسه، وهذا التكرار الخالق للمعنى وتوكيده يتجسد في قوله:- تحتاج الأبجديات أن تعود أدراجها إلى منابتها إلى أصولها” وتنقي الموروث اللغوي الانساني ليكون جديرا بالتعبير عنها، وعمق قدم اللغات ارتسم بلفظ العودة الى الكهوف، فالكهف يعود بنا إلى أزمنة سحيقة في المخيال الانساني. وجاء لفظ الأبجديات لتعم الصورة جميع اللغات وليس لغة واحدة. وهذا كثف من المعنى المراد رسمه بالأدوات الفنية حسن اختيار اللفظ ومناسبته لمقتضى الحال.

وتنزاح الألفاظ عن المعنى السطحي الى المعنى العميق، الابجديات ”كهوف“ ”أسفار” “فلسفة الخلق” “نصية الرؤية” وتحيلنا على المقدس في لفظ: أسفار وأساطير، خلق، رؤية… فالذات الموصوفة جاءت أكبر من كل اللغات، والأبجديات التي تعجز عن توصيفها، ويبنى على هذا حتمية ان تجدد نفسها لتقوم بهذا الشرف المغدق على اللغة لتتمكن من تشكيلها. ويأتي لفظ “ايهابا” ليفتح الباب أمام ما يجب الاستعداد له فاستل المفردة من تموقعها اللغوي ليزرعها متوهجة شعريا، واللفظ حسب ما جاء قاموس معاني الأسماء “ايهاب” لغويا: أعطى، وهب كرم، والايهاب يعني ايضا إعداد الأمر والتمكين منه والقدرة عليه، ويعطي معنى العطاء واظن انه يقصد المعنى الثاني بالإعداد للتدوين وما يتطلبه من اعداد وقدرة ليضفي تثمينا عاليا هذه الموصوفة المبهرة.

 ويتكرر العنوان ليرسم التكرار تأكيدا للمعنى المقصود بتنامي وتعميق الإيقاع الشعري، إلى جانب تأكيد الجانب الدلالي بما يليق بتدوينها “نحو ما يليق بتدوينك“. “الشاعر يحاول الاتكاء على تقنية التكرار ليكشف لنا ” عن الامور والنوازع التي يعنى بها أكثر من غيرها لأنها تشكل مرآة صادقة تعكس ما يخالج الشاعر ويعتري وجدانه” انه تكرار فني يفصح عن انفعالات داخلية وقصد فني أيضا النص.

المشهد الموالي يركز على وصفها بأنها متفردة في تشكيلها وهويتها، فهي متفردة وغفل الجميع عن نبوتها، والنبوة هي أعلى مراتب التقديس. “مرت قطعان لا حصر لها من الغفلة” هكذا ترتسم الفجوة بين عملية المرور وهي عمل إنساني. “غفلة” اسم، وهي مصدر لفعل غفل واقتران بلفظ قطعان تعني اعدادا من الغافلين، فالغفلة اسم وليس بشر ليغفل انما إدراك القيمة المضافة للمعنى المتولد من هذا الوظيف اللغوي في تشكيل الفجوة التصويرية التي ترسم الموصوفة بقامة عالية وارفة في فضاء النص.

يأتي التناص في هذا الجزء ليرفع النص الى مستوى أعلى” تعرف جوليا كريسيفا التناص بأنه: “ترحال النص لنص سابق وتداخل نص في فضاء نص معين تتقاطع وتتنافى فيه ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى”، حيث جاء التناص مع النص المقدس في علاقة توافقية مع النص الحاضر وهو ما ورد في القرآن الكريم من حادثة رفع المسيح الى الله وما شبه لهم، هذا التناص يتابع فيه القارئ النص الحاضر والغائب بالمخيلة وهي الطاقة التي توسع المرجعية لتلاحق النص الغائب في القرآن وتسعى لبناء يضفي الجلال على الشخصية استمدادا من قدسية النص القرآني ويصل المعنى إلى أغلب القراء لارتباطهم معرفيا بهذا النص الذي يسكن المخيلة، فالتناص المحكم ركيزة من ركائز الإبداع، فيسهل رسم الشخصية رغم الدهشة التي يخلقها التناص “بما شبه لهم انه صلب” حسب الآية في ورد ” وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم” سورة النساء، آية 157. ويرسم الصورة الشفافة للمقدس وعدم وضوحه بلفظ “من ظلالك” فالظل غير واضح وهذا يتناغم في المعنى الخفي مع فكرة التشبه وعدم اليقين وهذا يعطي النص طابعا ثقافيا مختلفا على النصوص المغلقة على ذواتها. بعودة اسلوب المخاطب للفقرة الموالية عادت الحيوية والقرب للموصوفة فالصورة انتقلت من المحسوس الى الملموس بواسطة خيال الشاعر الغني.

ثم ينتقل الى صيغة سردية ليعبر عن نفسه بعد أن رسم لنا صورة الموصوفة المقدسة. القصيدة تتحول من مستوى الى آخر تلك الحركيّة القائمة على الالتحام باللغة والولوج فيها كما يبدو في هذا المقطع الشعري “لأعذب وحدي وراء حقيقة بعثك” لذا جاء مرتبطا سرديا مع الجزء السابق فبعد صورة الغموض يقول:

مرت قطعان لا حصر لها من الغفلة
عن نبوتك
بما شبه لهم من ظلالك
لأعذب وحدي وراء حقيقة بعثك
إذ لا نصرة في انتظار ظهوري

تتتابع الصور المكثفة لنبوة الموصوفة وتتحول العلاقة إلى إشكالية تخص الشاعر بالبحث عن حقيقة نبوتها والذي جسده بلفظ “بعثك” فهل هو البعث للصورة الشعرية؟ أو للخلق في قصيدة يكتبها عنها فتبعث كيانا له وجوده وكينونته؟

وقد تكون هي المعنية لان لفظ “البعث” يأخذ تأويلات مختلفة ولكن مها اختلفت تظل في ضلال التقديس. فهو يكتب بالصور المكثفة، “والكتابة بالصور هي القانون المحوري الذي قامت عليه القصيدة الحديثة“. لام التعليل بينت لنا السبب وراء عذابه وهو جهل الآخرين الغافلين عن نبوتها وقد سبق تحليل هذا المقطع في الجزء السابق من هذا التحليل.

يعلن في نهاية النص انه وحيدا يواجه العذاب في البحث عن حقيقة بعثها، وهذا التردد يعطي احتمالين الاحتمال الأول يرتبط بصورة المتحدث وهو صوت الشاعر وهو يستعير مهمة الاله في الخلق، هل يكون هو الإله الذي سيبعثها نصا شعريا ويعيد خلقها، ويضفي صفة القداسة التي تؤكد هذا المنحى من الدلالة، يؤكد هذه الصورة لفظ لا “نصرة لي” أي لا نصير لديه ليعيد إلى الأذهان صورة النبي المسكين الذي يفتقر للنصير في بداية الدعوة، ويأتي لفظ ”التبليغ” ليؤكد انه تقمص مرتبة مقدسة ليبلغ عنها، من ارتباط المقطع السابق واللاحق يدرك القارئ نبوة كليهما، أي تعاليهما عن المستوى البشري.

والتبليغ يعطي معنيين المعنى الأول الذي يلتصق بتجسيدها نبية وغفلوا عنها ليقول تعالوا هنا هذه هي المخلوق الاستثناء الذي غفلتم عنه والذي ورد في المقطع السابق، والملاحظ هو التحام بناء النص ببعضه ويلتفت ليعلن انه في مهمته في والتبليغ أن في أن يرسمها قصيدة، وبهذا يكون قد بلغ التيه ويسألها أن تمنحه فرصة العودة الى نفسه بها، ولن يضل بعدها وسيكتفي بوحيها زاهدا في الأتباع. ويدرك القارئ في المقطع الأخير قدرة الشاعر في رسم الصورة المركبة بين إدراكه لنفسه ولقدرتها على منحه فرصة التبليغ حتى يصل صحراء الأزل ونغوص في الزمن اللامحدود بالمطلق ولكن في إكماله النص ” من القصيد” نعود الى فضاء الشعر الأبدي.

> الخاتمة

مما تقدم يبدو ان قصيدة الشاعر المهدي الحمروني تتميز بتوظيف اللغة على مستويات عميقة تسمو على التقليد والبناء السهل المباشر، ازدانت قصيدته بالصورة الشعرية المميزة المكونة من كل عناصر الشعرية من عناصر بلاغية وقوة الألفاظ والفجوة واضحة تلك التي تميز الشعرية في النص والتكرار الباني للمعنى مع التناص الذي يعتبر من الوسائل الفنية وجاء مبنيا باقتدار. الصورة الشعرية هي كينونة القصيدة وهي ليست حلية بل هي توحد بين أبنية العناصر الشعرية وتمنحها الحياة في قيمتها الجديدة. جسد صفات المرأة بصفات رمزية دالة على القدسية والقوة فهي المنقذة وهي الموحية وهي المبهرة، تميز التركيب اللغوي بالعمق ولا يسلم قياده بسهولة الا للقارئ المتأمل.

لا شك ان الشعر يملك رؤيا متجسدة في النص “وإن الرؤيا والنّص يبقيان، في تفاعل منتج لدلالات جديدة تتحوّل فيه المفردة إلى نص سريع الانشطار“..

تثير شعريّة قصيدة النثر “نحو ما يليق بتدوينك“ في قارئها متعة الاكتشاف والتساؤل ومتعة الابداع، فالانحراف والتركيب الجديد للغة ضرورة لخلق الشعريّة الحديثة في لغتها المتنكِرة عن المطابقة لهذه العلّة “جاءت الرؤيا لتخرج الألفاظ من دلالة القصد إلى صيرورة المعنى، وتؤسّس لبنية مفتوحة ومتحوّلة ترفض القراءة الأحاديّة لأنّها مشحونة بدلالات احتماليّة مضاعفة الاستخدام الشعري للغة ”.

وهذا التكرار وهذا الإيقاع الذي يتخلق من هذا التركيب. إنه هذا التكثيف للعبارة، وهذه التوازيات والصور النحوية، الجملة الشعرية للقصيدة بأكملها خلقت فضاء يتسم بالعمق في رمزيته، بين فلسفة الخلق، والتقديس وغموض الآلهة، مشقة البعث، غفلة الحضور عن السر الإلهي، والعودة إلى الذات، الزمن الشعري اللامحدود وتتبع الدلالة الكامنة في تعدد الأوجه لهذه العناصر رغم الصور الغارقة في الغموض الفني لكنها تؤدي لأكثر من معنى حسب ما ورد في التحليل لتجسد غنى النص لفظيا ودلاليا، وتمنح القصيدة للحياة بهذا التشكل قيمتها الجديدة في تجربة متفردة في الشعر الليبي الحديث.

> القصيدة:

“لا تجلسي قبالتي

كي لا أغرق في فلسفة الأسئلة

حول تأويل مدى استحقاق العروش لجلالك

مري وحدك بعيدة كالبدر على حيرة الرائي

لتمنحي من حولك شفافة العبور

عن تمامك

كلوحة خلفية سخية الكمال

فللكتابة عنك ينبغي للشعر تصحيح نظره في فلسفة الخلق

والعناصر

بأن يعيد اكتشافه بلغات عذراء

قبل تاريخ الأخيلة

لتحري مفهوما آخر في نصية الرؤيا

تحتاج الأبجديات أن تعود أدراجها

إلى منابتها في كهوف المراجعة

أن تنقي متون الأسفار والأساطير

لما يهيئ إهابا مقارنا

نحو ما يليق بتدوينك

مرت قطعان لا حصر لها من الغفلة

عن نبوتك

بما شبه لهم من ظلالك

لأعذب وحدي وراء حقيقة بعثك

إذ لا نصرة في انتظار ظهوري

فالهميني تجاوزا لمحنتي في التبليغ

كي أهتدي إلى نفسي ولا أضل بعدك عنها

منقطعا في زهدي عن الشيع والاتباع

إلى وحيك الغامر على صحراء الأزل

في القصيدة.


السقيفة الليبية، الخميس 20 يوليو 2023

مقالات ذات علاقة

قراءة نقدية في قصة العجوزان للقاص المبدع: محمد المسلاتي

إبتسام صفر

رؤيته الجمالية في المشهد الروائي العربي

المشرف العام

“محظية” بين الواقع والفنتازيا

إنتصار بوراوي

اترك تعليق