ظل وجه الأنثى حاضراً في جميع أغلفة إصدارات محمد التليسي التي أبدعتها ريشة الفنانة التشكيلية الشابة أماني عبدالدايم في أعماله الثلاثة (فيرينا) و(أراك في كُلِّ مكان) و(تلاحمُ الحواس). وحتى إن اختلفت التفاصيل الدقيقة لكلِّ وجهٍ من تلك الوجوه المرسومة، فإنها تعكس العلاقة بين ريشة الفن التشكيلي وكلمات النصّ الأدبي في تعالقٍ يمنح الجنسين، النثري والتشكيلي، حضوراً وتفاعلاً مع المتلقي بأوجه متعددة، ويعزز الترابط الوثيق بين الأجناس الإبداعية.
ففي (فيرينا) يطلُ الوجهُ بشكلٍ بارزٍ وهو يستلقي وسط باقةِ وردٍ متعددةِ الألوان يحيطُ بها اللونُ الأبيض فيطوقها كبساطٍ ناصعٍ للغلاف، بينما في (أراك في كل مكان) نلمحُ العينين برَّاقتين تصوبان نظرتيهما بإصرار وتعمد مقصود رغم ما يظهر أمامهما من غشاوات وحواجز خفيفة في انسكابٍ عفويٍّ مبعثر بألوان متعددة، ولكنها في تناغم مع بساط الغلاف الوردي الهاديء لتؤسس تفاعلاً من خلال قراءة بصرية صريحة، ودعوة لتأمل هاتين العينين والابحار فيهما بحثاً عن رمزية معينة أو دلالات محددة. وعند مقاربة اللوحة مع العنوان نجد أن عيني اللوحة كأنهما تمارسان عملية المشاهدة والرأي والنظر التي صرّح بها العنوان (أراك) وتجعل الفضاء المنظور إليه براحاً مفتوحاً لذلك الفعل المادي ورحباً شاملاً وواسعاً (في كل مكان) وهذا بلا شك يبعث الكثير من الإثارة والتشويق لمحاولة اكتشاف الرائي والمرئي، والعلاقة بين اللوحة ومتن النصِّ الروائي، كما أنَّ عدم تحديد جنس المخاطب بضبط حرف الكاف نحوياً بالكسر (كِ) أو الفتح (كَ) تضع المتلقي بين مفترق طرق لإدارة محركات فكره وتحديد جنس المخاطب بنفسه وذلك من خلال تحفيزه على ولوج النصّ الروائي لاكتشاف ذلك ومعرفة إن كان مذكراً أم أنثوياً ينسجم مع اللوحة التشكيلية.
أما في رواية (تلاحم الحواس) فإن المشهد البصري يبدو مختلفاً تماماً عن جماليات الأوجه الأنثوية في العملين السابقين، حيث يطغى على بساط الغلاف اللون الفيروزي الذي ظهراً وسطياً بين الغامق الداكن والفاتح الهاديء ملطخاً بالأحمر القاني والغارق في السواد الكالح. وإن كان وجه الأنثى يظهر في العملين السابقين واضحاً وكاملاً بجميع عناصر أطرافه، فإنه في لوحة (تلاحم الحواس) يظهر ناقصاً عيناً وخداً وبعضاً من الأنف والشفاه اللذين تم تغييبهما في اللوحة خلف السواد، وربما دلالات هذا التقسيم النصفي والقص الطولي للوجه يشي بأن هناك جانباً من النص الروائي محجوباً ومغيباً عن الظهور بشكل متعمد، ولا تمنح اللوحة أية مفاتيح أو إشارات حول أسباب ذلك، إلاّ أن ألوانها تلمح إلى أنها غارقة في القلق والحزن والغموض وانصباغها بهذا اللون من الكتابة يحمل الكثير من الإثارة والتشويق لمعرفة كنهه وفك بعض مغاليقه.
وتظل هذه اللوحة الرمزية الغامضة في غلاف (تلاحم الحواس) تبعث الكثير من اليقين بالاضطراب والقلق وانعدام اليقين الذي ربما ينعكس على موضوع النص الروائي ذاته، وهي حتى وإن بقيت صامتة في تكويناتها وكيانها إلاّ أننا نكاد نسمع من خلالها، وبكلِّ وضوح، هدير الأمواج المتلاطمة والمتكسرة على صخور البحر عند الغوص في ثنايا فصول الرواية، وكأنها تلاحمٌ متنوع بجميع أشكاله مع النص الروائي الذي تضمه بين طياتها، وتداخل جذاب بين عناصره، وهو ما يمنح العمل الإبداعي خاصية أخرى تتمثل في تعالق العتبة الأولى مع مضمون الرواية.
إن اللوحات التشكيلية في أغلفة أعمال محمد التليسي تبدو وكأن لها دلالة ارتباطية مع النصوص المستلقية خلفها وتخبيء الكثير من الجماليات التي تبحث عن قنَّاص أو غوّاص ماهر يلتقطها فيسبح في فضاءاتها ويستنطق مضامينها الفكرية فتحفزه على إطلاق العديد من الأسئلة للاتكاء عليها بحثاً عن بعض اطمئنان أو تفسير، لعله يحظى به عبر أحداثها وبين ثنايا سطورها، لأنه كما يبدو فإن هذه الأغلفة الأنثوية تمثل شرارة الدهشة الأولى وحبكة الغواية لإيقاع المتلقي في شباك النصوص وجره لمطالعتها ومن ثم الإبحار والغوص في ثنايا سطورها ومضامينها، وكل هذا هو ما يرسخ جمالها ودلالاتها.
إنّ الأغلفة التي تمارس عملية لفت الانتباه والجذب والغواية انطلاقاً من النطرة الأولى التي تتوالد معها فيوض من الدهشة والغواية قد نجد لها ارتباطاً بالنصّ الذي يتوارى خلفها، وربما لا تمت له بصلة لتظل مجردة وبعيدة عن التعالق معه بأي شكل من الأشكال، فهل هي كذلك في إصدارات محمد التليسي؟