عزالدين عبدالكريم
مهما امتلك الإنسان نواصي بعض المعارف متوغلاً فيها، مسهلاً لاكتساب مفاتيح مغاليقها، فإن أمراً أو أموراً قد تبرز، لتشعره بمحدودية إدراك الإنسان لما قد يبدو أتفه الأشياء.
سيبويه على سبيل المثال، عالم ضليع، جابهه الموقف، فبما عُرف عنه كان ينوي التخصص في مجال الحديث، لكن عقدة أصابته في درس مع شيخه، جعله يحس بعدم جدوى استمراره، فانتقل إلى التبحر في علوم اللغة وكان له «الكبير» ذلك المرجع الذي يُعد بحر علوم اللغة، وحتى لا يبدو الطرح هنا وكأنه تسويق لضلوعي اللغوي، فإنني أُلفت عنايتكم بأنني ما زلت أتعارك مع الذاكرة عند اضطلاعي بمهام تقترب من موظف «السجل المدني»، وأخلط أخوات «كان» مع «إن» لعله لرغبة في إزالة الفوارق وتوحيد العائلات، لكن سيبويه قال «أموت وفي نفسي شيء من حتى».
كثيرة هي الأمور التي لا يمكن استيعاب مآلاتها على المستوى الإنساني، بل لعل أكثرها غير مُستوعب، شيء من هذا يتأتَّى عبر القصور المعرفي، وشيء آخر فرضته مخالفة القوم لبديهات الأمور التي لا يتناطح حولها كبشان.
«البغلة» أكرمكم الله، في أمرها مع أمر حالتنا نحن الشعب الليبي شيء فرض علىَّ التوقف، فتركت الشعب ومسكت بالبغلة، تلك التي لا تدري من أمرها شيئاً، لغياب العقل عندها وفق ما علمونا، لكنها أصبحت مرتكزاً في العودة إلى طبيعة الأحكام الإنسانية والدينية، بل محددةً لواحد من أهم شروط الحكم، وحاسمة لأهم شروط الحاكم.
تلك الجملة التي قالها سيدنا عمر بن الخطاب (ر) و التي هزت أركان العقول بهزها لثوابت المفاهيم عنما خاطب نفسه قائلاً:
«ويلك يا عمر، لو أن بغلةً تعثرت في العراق لسُئل عنها عمر لِمَ لَمْ تمهد لها الطريق؟».
هذه الجملة، أصبحت وفق التعاطي الفكري – السمج – على مرّ العصور بعد زمن بن الخطاب، مؤطرة ضمن مكتسبات المتحف الفكري، فبقت كتحفة يزورها العقل الحاضر للتفرج، مثلها مثل التفرج على بقايا الديناصورات في متاحف التاريخ الطبيعي، هكذا للمتعة، وفي أحيانٍ قليلة للاستدلال العابر الذي لا يغير قيد أنملة في رؤى ومفاهيم المسلم بما يجب أن تحدثه فيه، ولعلني لا أبالغ في رؤيتي، بأنه لابد لهذه الجملة من أن تزعزع مفاهيم أي مسلم وحتى غير المسلم.
إذا كانت «البغلة» هذا أمرها وشأنها وموقعها في مخيلة الحاكم، والتعامل معها مرتبط بمصير واحدٍ من أبرز صحابة رسول الله (ص) بما له من دور شامل في الإسلام، وما شكله من أهمية قصوى في رجحان كفة كلمة الله بما ارتضاه الله، فإذا به تقلق راحته بغلة، وقد تهز أركان قيمته عند الله بكل ما فيها من تفاصيل ارتكازية في الدعوة المحمدية، فما بالك فيمن ليس لديه من رصيد عمر شيئاً؟
«العدل أساس الحكم» هكذا بلور ابن خلدون الأمر، واعتمد القول محمد الفاتح في نهجه، مما يقودنا إلى أنه بانتفاء العدل تنتفي مشروعية من يبقى في سدة الحكم، ويُعتبر بقاؤه ظلماً وزوراً وعدواناً، ومع ذلك عندما يلتقي الجمع من المسؤولين والحكام الليبيين كلّ يوم يتساءل أحدهم، فيما إذا كان صوت الحق قد ارتفع بالآذان ليقوموا يؤدون الصلاة، لكن أغلبهم لا يستحضرون صوت الحق في نفوسهم، ولا يتداركون مصائرهم من هول ما هم فيه من قصورٍ في تتبع أمر الرعية، فيصبح الليبي عاجزاً عن تحصيل ماله غير المتصدق به عليه، بل هو ملكه الخالص المتمثل في المرتبات البسيطة الهزيلة، وإذا تجرع المرارة مغلوباً على أمره و استلف أو باع أغراض بيته ليطعم عياله، يجد السوق وقد تحول إلى درك من أسفل أدراك النار، فيعجز حتى عن توفير الخضار، ولا نتطرق إلى أمر الاحتياج للعلاج من المرض داخل البلاد أو خارجها فالأدوية داخلياً تقتل أسعارها كمداً قبل أن تحقق تركيباتها الكيميائية أي شفاء، والسفر للخارج بات غاية لا تدرك عبر التلاعب بأسعار العملات الأجنبية، ومع ذلك ماذا نجد ؟
بدلاً من الحاكم ثلاثة أو يزيد، وبدلاً من الوزارة لقطاع اثنين أو يزيد، وبدلاً من جيش جيوشاً يجب ملء جيبوهم بما يرضون، والتنافس على كرسي الحكم يُستجدى من الغريب الذي يقترب من العدو، متجاوزين أمر رضاهم المتخيل والذي قرره الله.
وما دمنا في مقام «البغال» أكرمكم الله ومع وافر الاحترام، لا بأس أن نعرج على باقي القطيع، إذ قال علي بن أبي طالب: ما رأيت عمر بن الخطاب يغدو على قتل، فقلت: يا أمير المؤمنين، إلى أين؟ فقال: بعير ند من الصدقة أطلبه. فقلت: لقد ذللت الخلفاء بعدك يا أمير المؤمنين. فقال: لا تلمني يا أبا الحسن، فوالذي بعث محمداً بالنبوَّة لو أن سخلة ذهبت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة إنه لا حرمة لوالٍ ضيع المسلمين.
هل يدرك المسؤول الليبي في أي درك هو؟! هل يعلم حجم العذاب الذي سيلاقيه من آهات من لا يسمعون آهاتهم، وهنا نستحضر للاعتبار وليس لسرد الحكايا قصة تلك المرأة المشهورة التي كانت تغلي الماء لتوهم عيالها بأكلٍ يُطبخ في حين لا يوجد غير الماء، فلما اكتشفها عمر وعاد مع سيدنا علي بن أبي طالب لبيت الدقيق، طلب سيدنا عمر من علي أن يعينه على حمل الكيس على ظهره، فعرض سيدنا علي حمله بدلاً عنه، فإذا بسيدنا عمر يصرخ : «أأنت تحمل وزري يوم القيامه لا أم لك!»!
فالقصة يا سادة يا كرام، يا مسؤولين وحكام في ليبيا المتشظية وفي حكوماتكم المنهارة الواهية، ليست في سكب الحبر على الأوراق لتخدعوا أنفسكم بإنشاء القرارات التي تتحول إلى صكوك إذن للسرقات، لتعتقدون بأن أدواركم قد بلغت الاستيفاء، بل واقع الحال وحجم المآسي تحتم عليكم التتبع المباشر لحال من سكبتم الحبر من أجلهم – هذا إن فعلتم – وتتأكدوا بأن الحقوق قد بلغت أهاليها.
رؤساء الوزراء، رؤساء الحكومات، مدراء البنوك وعلى رأسهم المركزيان، الوزراء، عمداء البلديات، هل تدركون أي شؤم يتكاثف فوق رؤوسكم لن يغادركم حتى في القبور؟
أما نواب الشعب، لعل مصائرهم أكثر غوراً في قيعان العذاب، لائتمانهم على المصائر الحياتية، بسبب بؤس نفوس أكثرهم.
دعوني أذكركم بموقف آخر قد لا تعرفونه، وإن عرفتموه لا بد وأنه غار في قاع النسيان، مرتبط بحالة ما يعيشه الوزراء والحكام والنواب من طيب العيش في الفنادق والدور والمنتجعات:
إذ جاء ذات يوم رسول من أذربيجان لعمر بن الخطاب فسأله عمر: ما الذي جاء بك إلينا فقال له هدية بعث بها أمير أذربيجان، فتح هذه الهدية فوضع لقمةً في فمه فإذا هي طعام نفيس، قال: يا هذا أيأكل عندكم عامة المسلمين هذا الطعام؟ قال: لا إنه طعام الخاصة، يعني طعام الأغنياء، فأخرجها من فمه، وقال: حرام على بطن عمر أن يذوق طعاماً لا يطعمه فقراء المسلمين، وأرسل كتاباً إلى واليه على أذربيجان يعنفه ويقول له كيف يعنيك أمر المسلمين إن لم تأكل مما يأكلون؟
أما الخطاب الديني للبعض، وخاصة أولئك الذين قلدوا أنفسهم وقرروا بأنهم وحدهم الحريصين على الدين، فلي معكم شأن بعد حين – إن أذن الله بذلك – لكنني أهمس لكم اتركوا كل السلف وامسكوا فقط بواحدٍ منهم سيدنا عمر بن الخطاب ولا تختاروا منه ما يلائم نفوسكم في السيطرة بالتحجج ببعض مواقفه الحازمة، فلا تنسوا ماضيه الذي غفره الله له بإذنه تعالى، وأذكركم بأنه يوم إسلامه كان متوجهاً لاغتيال رسول الله، لكن العبرة بالمآلات، اتخذوا من رحمته وحرصه بالرعية منطلقاً وانظروا إلى من حولكم من حكام على مختلف درجاتهم وتسمياتهم، ووجهوا لهم الدعوة بالتصحيح، واتركوا من يتبرج أو يرقص، فهؤلاء لن يهزوا عرش الرحمن، فتصرفاتهم وقتيه لأحكام متغيرة وغير ثابتة، لكن تذكروا بأن عرش الرحمن الذي تريدون مناصرته يهتز للجوعى واليتامي والمحرومين والمرضى والنازحين والمشردين ومنهم أولئك: «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ» (40 الحج).
من كل السلف توقفوا فقط عند عمر، علماً بأن ليس كل السلف صالحاً، والعيش في وقت الرسول لا يمنح صفة النزاهة أو العصمة، وأحياناً حتى الإيمان الحقيقي بما كشفته المواقف لاحقاً، نعلم التاريخ نحن أيضاً، و«اللكلكة مع الجعجعة»، لا تحدث أي أثر، فعودوا إلى ما ينفع العباد حتى تكونوا قد أضفتم شيئاً إلى حاجات العباد الحقيقية في هذا الزمن الموبوء بالكفر الحقيقي الذي لا تريدون رؤيته.
وللحديث بقايا بإذنه تعالى إن قدَّر ذلك.
مع ملاحظة أن السطور ليست غايتها استفزاز التحسر عند القارئ، بل استفزاز معرفة جوهر ولاة أمورنا.
____________
نشر بموقع المستقل