قصة

قشرة موز

من أعمال التشكيلية الليبية نسرين الحمر
من أعمال التشكيلية الليبية نسرين الحمر

يبدو أن هذا الكابوس لن ينتهي سريعًا يا أمي، مرّ وقتٌ طويلٌ ولم أستيقظ بعد!

سأنفذُ نصيحتك، لن أجزع، ولن أتفاعل مع أي شيء أراه في هذا المنام؛ حتى لا يطول النوم، وحتى لا أصحو مفزوعًا. لذا لا بد من أن أحافظ على هدوئي، وألا أصدق ما أراه.

قلتِ لي ذات مرة إن من يستيقظ مذعورًا تقفز في رأسه شعرةٌ بيضاء، وإن حدث هذا معي سيعرف أصدقائي في المدرسة أن الخوف صاحبني في ليلتي.. لن أسمح بأن يتنمروا عليّ بشيء إضافي بجانب السمنة.

أشتاق إليك يا أمي.. أريد أن أراك الآن أكثر من أي وقت مضى، وحاولت أن أستخدم هاتفي، لكنه نام مثلي وفقد مخزون الكهرباء سريعا.. الأضغاث تحول بيني وبينك، أعتقد أن الله يعاقبني بهذا الكابوس، لأنني كذبت عليك!

نعم، لم أخرج لألتقي صديقي “حسين” بجوار مدرسة “النصر” كما قلت لك، بل ابتعدت قدر الإمكان عن الوادي لأختلي بـ”بار شوكولاتة” من النوع الذي أحبه، بطعم البندق.. أممم بصراحة لم يكن مجرد “بار” واحد، فقد ابتعت حلوى وشوكولاتة بمصروف أسبوع كامل، سئمت الطعام الصحي، وأردت استراحة من الانضباط أكون فيها حرًا مع ما أشتهي.

أنت تعلمين أنني لا أستطيع تناول الشوكولا في المنزل، لأن أبي سيعنفني وسيحذرني من أن أصبح مادة للتنمر بين أصدقائي في المدرسة، وأنت ستحدثينني عن مخاطر مرض السكري، وستذكرينني بكل مرة عُدتُ فيها إلى البيت بعد يوم دراسي طويل وأنا أبكي بسبب كلام زملائي عني.

فكرت في البداية في أن أقف بجوار وادي درنة، كما أحب، وأجعل الشوكولا تذوب في فمي، فتسري مثل مياه الوادي العذبة على لساني، لكن هناك فرصة كبيرة لمقابلة زميل هناك، مصادفة، سيبتسم ابتسامة تعني أنه وجد قصة كوميدية جديدة سيحكيها لرفاق الفصل بمجرد اجتماعنا، يصف مدى قبح وبلاهة هذا السمين.

أعتقد أن عقبة الظهر الأحمر هو المكان المناسب، فهنا سأكون بمفردي، وسأرى البحر الذي أعشقه، كما سأرى تلك البنايات، المليئة بأُناسٍ لا يحبون الشوكولاتة مثلما أحبها.

كنت قلقا من أن يغلبني النوم وأنا أجلس وحيدًا مع الشوكولا.. أنا أحب النوم، لكن أبي دائمًا يوقظني إن رآني نائما في وقت غير الليل، يظن أنني مصاب بغيبوبة بسبب مرض السكري.. أتذكر دائمًا صوته الجهوري وهو يقول لي: “الغيبوبة تأتي فجأة مثل النوم.. وإن جاءتك وأنت وحدك فقد لا تستيقظ أبدًا”.

لكن لا أظن أنني في غيبوبة الآن.. هو حلم سيئ بلا شك، ففي الغيبوبة لن تتجسد كل مخاوفي أمامي بهذا الشكل الغريب.

أمي.. لم أستيقظ حتى الآن.. وللأسف ما يحيط بي من هلاوس أكبر من محاولاتي البائسة لتجاهله، لذا سأستمر في الحديث معك، حتى إن لم أتذكر أي شيء مما أراه الآن حينما أنهض صباحًا.

لن أنسى وقتما حدثنا الطبيب عن مشكلات مرض السكري، لم أقلق بشأن الداء نفسه، وكل ما شغلني هو كلمة “غيبوبة”.. كيف ينام الإنسان ولا يستطيع الاستيقاظ؟ ماذا إن صادفه كابوس في غيبوبته؟ هل سيظل مسجونًا داخله حتى ينجده أحد؟ ماذا إن لم يأت أحد؟

ضحك الطبيب حينها وطمأنني أمامك، وقال لي إن الغيبوبة ليست بها أحلام، ولا يشعر خلالها الإنسان بشيء، لكن يجب أن نتجنبها بالابتعاد عن السكريات.

سألته عن الأحلام.. ولماذا نرى الكوابيس؟ فربّت على كتفي وقال إن أحلامنا الجيدة والسيئة هي انعكاسٌ لتطلعاتنا ومخاوفنا، ومحاولة من العقل لترتيب المعلومات وتفادي الأخطاء.

حسنًا، أعتقد أن عقلي مليء بالشوكولاتة، وهذا قد يفسر كل ما أراه الآن.. أمممم قد لا يكون كابوسًا، من المرجح أن يكون دماغي يحذرني من مخاطر السكريات بهذه الطريقة!

سحقًا، كيف يراقب الإنسان عقله؟ لأفعل ذلك لا بد من أن أجعل عقلي يراقب نفسه.. يبدو هذا بالضبط ما حذرتني منه أمي، الاستغراق في تفاصيل الحلم هو ما يجعله كابوسًا، لذا قد يكون الحل سهلًا؛ أن أفسر كل شيء وفقًا لحقيقة أنني أحب الشوكولاتة، التي تضرني في نفس الوقت.

سأصف لك ما رأيت حتى الآن، في البداية ظننت أن الأعداء قصفوا مدينتنا الطيبة بأسلحة نووية.. انزلقت البيوت كأنها داست دون قصد على قشر موز، وابتلعها البحر دفعة واحدة.. وهطلت أمطار كثيفة، وأظلمت البلدة تدريجيًا.

سرت رعشة في جسدي، وسقطت الحلوى من يدي، ولم أتبين إن كنت أبكي من الخوف أم أن ما يسيل على وجهي هو ماء المطر فقط.. كنت خائفًا، بل مرعوبًا، ولم أجد ما أفعله سوى أن أنادي عليك يا أمي باسمك، حتى توقظيني من هذا الكابوس، لكن كنت أصرخ دون أن يخرج مني أي صوت.

حينها تأكدت من أنه كابوس، أما الآن بعدما فكرت في الأمر مجددًا، أعتقد أن هناك تفسيرًا لكل هذه الأضغاث.

عقلي الجائع رأى جميع البيوت تتحول لشوكولاتة.. وأصبحت الطوابق في كل منزل تشبه المكعبات اللذيذة في “بار” الشوكولا، وكان البحر فمًا واسعًا، جاهزًا لاستقبال الكثير من مكعبات الشوكولاتة والنوتيلا التي تجرفها، ولم تنطفئ الأضواء، بل سيطر اللون الداكن الحبيب على كل شيء.

نعم.. هكذا تصبح الأمور منطقية، حوّل عقلي المدينة بأكملها إلى حلوى، وجعل فمي كبيرًا مثل البحر.. أعتقد أن هذا الحلم كاف لإصابتي بالسكري مجددًا.

مر الوقت ولم أستيقظ، وسمعت صرخات عالية، وأصوات برق ورعد وانفجارات، وفكرت للحظة في مأساة “بار شوكولا” يتعذب داخل فمي.

حركت أطرافي، فوجدتها تستجيب لي! ما هذا الحلم العجيب؟ لكنني لن أترك مكاني بالطبع، فإن تحركت قد يسحبني الحلم داخله ولا أستطيع الاستيقاظ بسهولة.. عليّ أن أكون ثابتًا حتى أستيقظ.. كل ما في الأمر أن الطعام كان جميلًا، والجو كذلك، لذا غلبني النوم، وسرعان ما سأفوق وأعود للبيت، وسأخترع كذبة أقولها لأبي.

مر الوقت وأنا في مكاني.. وقت طويل لدرجة أن الشمس أشرقت داخل الحلم، ورأيت البلد كما لم أرها من قبل؛ فمياه البحر تحولت للون الأسود، ولم أعد أميز أي شيء أعرفه في بلدي، لكن الوضع في كابوسي كان مرتبكًا؛ لا شيء مرتب، ولا شيء منطقي.

حينها قررت التحرك.. لن يحدث شيء في هذا الكابوس أسوأ مما رأيت حتى الآن!

مشيت مسرعًا، وعيناي تحاولان تمييز أي شيء أعرفه في بلدي، شارع أو بيت أو مطعم.. لا شيء كان في مكانه.

بعد قليل صادفني شخص، في حلمي، رآني مندهشًا وشاخصا، فسألني: “كيف نجوت؟ وأين أهلك؟”، حينها تذكرت كلامك يا أمي، وتجاهلته، حتى لا يقودني إلى كابوس أعمق.. وأكملت طريقي إلى حيث لا أعلم.

هؤلاء موتى، من المستحيل أن يكونوا نيامًا، وغير وارد أن يكون عقلي له علاقة بما أراه الآن.. لا.. هذا بالتأكيد وهم عليّ تجاوزه، حتى أستيقظ وأرى أمي وأحكي لها.

ما اعتقدت أنه شوكولاتة قبل قليل اتضح أنه طين، لكن من أين جاء؟ وما علاقته بالحلوى أو بالكابوس؟

كيف لم يبحث أبي عني حتى الآن إن كنت تائهًا أو فاقدًا للوعي في مكان ما؟ كيف لا أجد شارعي أو مدرستي؟ هل خرجت من بيتي أمس بالفعل؟ هل كذبت على أمي؟


ريم البركي، أكاديمية وباحثة ليبية من مواليد بنغازي عام 1989، متخصصة في قضايا الأمن والهجرة. حاصلة على شهادات ماجستير متعددة، أبرزها في العلاقات الدولية والأمن العالمي من جامعة سابينسا الإيطالية، وأكملت درجة الدكتوراه عام 2022 بأطروحة عن دور مدينة سبها في أزمة الهجرة وتأثيرها على العلاقات الليبية الأوروبية. أسست منصة “أخبار ليبيا 24” عام 2014 لتغطية الشأن الليبي وقضايا ضحايا الإرهاب والإتجار بالبشر. تتقن الإنجليزية والإيطالية، وأصدرت كتابها “ليبيا: صندوق رمل أم بوابة المتوسط؟” الذي يستعرض الأبعاد الإنسانية والتاريخية للهجرة غير الشرعية في ليبيا.

مقالات ذات علاقة

صلاة لأجل الكسيانوس

محمد العريشية

تَـوَاطُـــؤ

أحمد يوسف عقيلة

خصوصيّة !!

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق