مفتاح العلواني | القائمة القصيرة – جائزة كامل المقهور للقصة القصيرة
أنيس رجل بهواجس كثيرة.. يفكر بإفراط في أمور قد لا توجد لها إجابة.. غريبة أحيانا.. يفكر في خلق الكون.. في وجود كائن آخر في الفضاء الشاسع.. في جدوى السعي إذا كان كل شيء مقدراً مسبقا.. في عدم قدرة الإنسان على الوصول للسماء رغم وصوله للقمر، إنه يفكر أيضا في فائدة هذا الوجود برمته.
– فيم تفكر الآن؟
سأل خالد أنيساً.. بينما هما جالسان في الشرفة.
– صمت أنيس قليلاً.. سحب نفسا مرتعشا من سيجارته التي تتآكل ببطء.. ثم قال:
أفكر في الموت حقيقةً.. إنه يصيبني بالحيرة.. الموت هو أغرب شيء أعرفه في حياتي.. أو ربما لا أعرفه مطلقاً من ناحية أخرى.. إنني أستغرب من مسألة اختلاف طريقته.. رغم أن فقدان الحياة هي النهاية على كل حال.. لكن لماذا يموت أحدهم مقتولا؟ ويموت آخر في حادثة سير مرورية.. وثالث بمرض ما.. ويموت آخرون جوعا.. أو بسكتة قلبية مفاجئة.. وهكذا.. لماذا كل هذا العناء في منح كل واحد طريقة خاصة لموته إذا كان سيلحق بأخيه في نهاية الأمر؟ لم لا يموتون كلهم بنفس الطريقة؟
سحب أنيس نفساً أخر من السيجارة بشكل يبدو غاضباً نوعاً ما.. مركزاً نظره على طول الشارع المقابل للشرفة كأنما يبحث عن أحدهم هناك.. ثم عاد لصمته.
– بصراحة لا أعرف إجابة لأسئلتك يا صديقي.. قال خالد وهو يعطي ظهره لأنيس.. ثم أكمل:
سأخبرك بحكاية سمعتها في صغري.. حدثتني بها أمي.. تقول الحكاية أن فارسا وجد في طريق عودته للبيت من إحدى الغزوات جمجمة إنسانٍ ملقاةً على جانب الطريق.. فترجل عن فرسه وأخذها ليدفنها عند وصوله.. لكنه وعندما تفحصها وجد مكتوباً عليها: “يا راس ياما ريتي.. ومازال ياما تبي تحقي”.. فقال في نفسه: “ما الذي ستراه جمجمة أكثر من كونها قد صارت عظاما يابسة ؟”.. ثم لفها في قطعة قماش ودسها في سرج فرسه.. وعندما وصل لبيته.. بدأت زوجته في إنزال متاعه من على الفرس.. ثم وجدت قطعة القماش مربوطة في السرج.. وعندما فتحتها ورأت الجمجمة فزعت.. ثم قالت في نفسها: “لابد أن هذا رأس زوجته السابقة التي ماتت منذ سنوات.. وقد اشتاق إليها فذهب وأخرجه وعاد به”.. ثم أخذت الجمجمة وتوارت عن زوجها وبدأت بطحنها بالحجر حتى صارت دقيقاً.. ثم ذرتها مع الريح إلى الأبد.. وفي المساء وعندما تذكر الفارس أمر الجمجمة سأل زوجته عنها.. فأخبرته بما فعلته بها.. فحزن حزنا شديداً.. ثم قال لها: صدق من كتب على الجمجمة “يا راس ياما ريتي ومازال ياما تبي تحقي”.
– لم تخبرني بهذه القصة؟ سأل أنيس.
– قال خالد: لقد تذكرتها فجأة عندما وجهت لي كل الأسئلة السابقة.. وخطر ببالي أن أرويها لك.. لأنني أردتك أن تعرف أن الموت ربما لا يكون نهاية المرء.. وأن المعاناة قد ترافقه حتى وإن كان مجرد عظام.. وأن الناس سيطحنون رأسه إن عاجلاً أو أجلاً.. ثم واصل خالد حديثه:
دعك من هذا واسمع إجابتي عن أسئلتك لربما تجد فيها عزاءً ما.. صحيح أن اختلاف طريقة الموت قد يبدو أمراً زائداً.. وأن نهاية الحياة هي النتيجة الحتمية له مهما اختلفت طرائقه.. لكن يا صديقي ماذا لو توحدت طريقة موت الناس كلهم؟ ماذا لو عرف الناس في الغالب كيفية موتهم؟ إن ذلك مخيف حقاً.. إذا عرفوا مواعيد موتهم فإن ذلك سيكون مدعاة للارتباك بين الذين تقترب مواعيدهم.. وربما أحدث ذلك خللاً في موازين الحياة.. ولخاف أكثرهم كلما اقتربت مواعيدهم.. وتوقفوا عن الحياة في انتظار موتهم الوشيك.. هل توافقني الرأي؟
لم يجب أنيس الذي حاول سحب نفس أخير فاكتشف أن سيجارته تآكلت دون أن ينتبه.
سأله خالد مجدداً لكنه تشبث بصمته كأنه يقاوم شهوة الكلام.
– أنمت مع جثة قبل ذلك؟ سأل أنيس خالداً ثم أردف:
أنا فعلت.. نمت مع رجل مات غرقاً.. ظل يتحدث إليّ الليل كله.. بينما مارست أنا الاستماع بشكل مفرط.. وبعينين مركزتين في اتجاه واحد.. تحدث عن كل شيء.. بكى.. ضحك.. تنهد.. تذكر أياما سيئة وأخرى جيدة.. تنفس ملحاً كثيراً وموجاً.. أطلق استغاثات لازالت طازجة.. والكثير الكثير من الفقاعات.. وفي الصباح قام بوجلٍ كبير.. قال بأن ذاكرة القشة مليئة بصراخ الغرقى رغم أنها لم تنقذ غريقا واحداً.. غطاني.. ثم همس بأذني: “أنت غارق أكثر مني”.
لكنني سأسألك عن شيء آخر.
لماذا ينتحر البعض إذاً؟ قال أنيس من دون أن ينظر لخالد وواصل: لماذا يقتلون أنفسهم بهذه الطريقة البسيطة والساذجة جدا؟ يقفزون من فوق بناء شاهق.. ينامون في حوض الاستحمام ويقطعون أوردتهم وينزفون حتى الموت.. يتناولون أكبر عدد من أقراص الدواء.. وأحيانا يخطون خطوةً واحدةً وأخيرةً ليقفوا أمام قطار سريع أو سيارة.
كل تلك الطرق للموت تافهة.. وأكمل:
إذا كنت تريد الانتحار فانتحر بطريقة أكثر صخباً.. دع الآخرين يرونك وأنت تفعلها.. حيث لا أحد منهم قادر على إيقافك رغم محاولاتهم.. انظر لوجوههم نظرة أخيرة تخبرهم من خلالها أن هذا هو الجواب عن كل شيء.
لكن.. لكن ما الفائدة من ذلك أيضاً؟ ما الذي سيجنيه المنتحر من هذه الضجة لانتحاره إذا كان في الحقيقة يموت برغبته لأنه لم يعد يعبأ بشيء.. ولم تعد تعنيه مواساتهم السخيفة لآلامه.
سرح أنيس قليلاً.. ثم عاد لتركيزه سريعاً.. تناول كوب ماء صغير كان بجانبه وشرب منه.. ورجع برأسه متكئاً على حافة الكرسي.. ابتسم بهدوء للهدوء الذي اقتحمه.. تأمل الشارع الطويل آخر مرة.. ثم استسلم للسم وهو يسري بجسده النحيل.
كان خالد يبحث عن إجابات تليق بهذه الفوضى المنطقية.. لكنه واصل توجيه سؤاله: “هل توافقني الرأي فيما قلته عن طريقة الموت؟”.. دون رد من أنيس.
ظل خالد متكئاً معطياً ظهره لأنيس.. ينتظره أن يتكلم.. أو أن يواصل طرح أسئلته على الأقل.. لكن الصمت طال هذه المرة.. التفت خالد لينظر في وجه أنيس كدعوة لمواصلة الحديث.. ارتبك.. لم يتحرك.. منح نفسه لحظة تأمل محاولاً طرد الفكرة التي اقتحمت رأسه.. نادى ثلاث مرات: أنيس.. أنيس.. أنيس.. لكن أنيساً كان قد فارق الحياة في تلك اللحظة.
في اليوم التالي.. سأل أحد المشيعين خالداً في طابور الجنازة: هل كان أنيس يعاني من مشكلة صحية ما؟
– نعم.. قال خالد.. كان يعاني من ورم في الأسئلة.
في المساء.. وبعد انتهاء مراسم الجنازة.. عاد خالد لشقته حاملاً نفسه بصعوبة.. جلس في ذات الشرفة وعلى ذات الكرسي الذي كان قد جلس عليه أنيس.. تأمل الشارع الطويل أيضاً.. لازالت بقايا السجائر في المطفأة.. ولازال الكوب الذي شرب منه به ما يكفي لرشفةٍ أخيرة.. تدافعت بذاكرته كل الأسئلة التي سألها أنيس.. تذكر وجهه الأخير عندما كان صبياً يافعاً من دون كل هذا الأسى.. تذكر ابتساماته عندما كان يرسم لوحاته بشغف فنان عظيم.. بكى كثيراً كأنه لم يبك يوماً.. ضحك فجأة.. همس لنفسه: “مازال بدري يا رفقة”.. هدأ.. اتكأ برأسه على الكرسي.. رفع الكوب الصغير.. بدأ بتحريكه بشكل دائري.. قربه من أنفه محاولا استنشاق رائحة السم فيه.. ثم سأل نفسه أيضاً:
“لماذا ينتحر البعض؟”.
مفتاح سعد يوسف العلواني، قاضٍ ليبي من مدينة البيضاء، حاصل على ليسانس في القانون من جامعة عمر المختار عام 2006 وماجستير في القانون العام. شغل عدة مناصب قانونية، منها معاون نيابة ووكيل نيابة استئناف البيضاء، حتى تعيينه قاضياً بمحكمة البيضاء الابتدائية عام 2022. إلى جانب مسيرته المهنية، له إسهامات أدبية، منها ديوان شعري بعنوان “تلويحة عالقة في الهواء” صدر عن دار الجابر للطباعة والنشر عام 2019، وديوان آخر بعنوان “خطوة أولى لطمأنة الحقل”.