جلستُ في البيت، أترقب عودة الدكتور لويس وكأن الزمن قد توقف. أمامي تراكمت الوثائق والدراسات، كأنها شواهد صامتة على مأساة عجز البشرية عن التكاثر. كل الأدلة تشير بأصابع الاتهام إلى الحرب التي اشتعلت بين روسيا وأوكرانيا، وإلى تلك الأسلحة البيولوجية التي حوت مواد مشعة بقدرة فائقة على الفتك بالدوبامين. لكنّ السؤال الذي ظل يلحّ في ذهني: ما الرابط بين الدوبامين والإنجاب؟ ولماذا تُلقي التهم على هذا الهرمون بالذات، وكأنه مذنب بريء يصرخ: “أنا لا علاقة لي بالأمر، كبراءة الذئب من دم يوسف!” كلما غصت أكثر، زاد يقيني بأن الأمور ليست كما تبدو. هناك دراسة تعود إلى عام 2070 تشير إلى أن نقص الدوبامين يؤدي إلى الصداع المزمن، والإرهاق المفرط، والأرق، والضجر، وعدم التركيز. فكرة الربط بين هذا النقص والعقم بدأت تتضح، لكنها لا تزال تبدو كخيط واهٍ في شبكة أكبر. في المقابل، وجدت دراسة أخرى تتحدث عن زيادة هرمون الذكورة لدى النساء كسبب رئيس. بل وصل الأمر إلى إجراء استبيان لعشرة ملايين امرأة حول العالم. أسئلة الاستبيان كانت تدور حول الدورة الشهرية، وكانت الإجابات صادمة؛ جميع النساء أكدن انقطاعها فجأة دون مبرر.
كانت أعمار المشاركات تتراوح بين الخامسة والعشرين والأربعين، ومع ذلك، شعرت أن هناك فجوة في هذه النتائج. كيف يُعقل أن يُبنى استنتاج بهذه الخطورة على عينة، مهما كانت كبيرة، من تسعة مليارات إنسان؟ وبالفعل، وجدت دراسات تنفي مصداقية هذا الادعاء.
لكن الشغف بالمعرفة وقرأت مابين السطورجرّني إلى ماضٍ أبعد. وجدت دراسة قديمة جدًا تعود إلى عام 2023، تقول إن الإفراط في امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الجو قد يؤدي إلى انخفاض درجات الحرارة، مما قد يسبب عواقب وخيمة على البشرية. بحثت عن صاحب هذه الدراسة، ووجدته برفسور من جامعة طبرق يدعى “أرحومة”، قدم ورقته في المؤتمر العالمي للاحتباس الحراري في كندا. هل يمكن أن يكون انخفاض درجات الحرارة سببًا للعقم؟ سؤال آخر أضيف إلى طابور الأسئلة التي لا تنتهي.
بدأت أبحث عن ردود الفعل حول هذه الدراسة، لأجد دراسة أخرى لبروفسور “المبروك”، من الجامعة نفسها، تتحدث عن انخفاض حرارة نواة الأرض وما قد يترتب عليه من أضرار على صحة الإنسان. شعرت كأنني أستمع إلى همسات عابرة من الماضي، همسات لم يستمع إليها أحد.
تساءلت: لماذا لم يهتم العالم بهذه الدراسات في حينها؟ عرفت الإجابة عندما قرأت مقالاً كتبه “مستر برون دولند”، قال فيه إن الجامعة كانت وليدة وتقع في دولة من دول العالم الثالث. لقد نُظر إلى هذه الدراسات نظرة استعلاء، حتى أن بعض الأفكار التي طرحت في المؤتمر قوبلت بالسخرية.
ظهر عالم آخر، هو سليمان، الذي قدم دراسة تقلب الطاولة على نظرية الاحتباس الحراري التي كان العالم يتمسك بها كحقيقة مطلقة. كان سليمان أشبه بالنجم الذي سطع فجأة ليشق ظلام القاعة. لكن هذا النجم لم يحظ بالتصفيق، بل واجه غضبًا عاصفًا. سليمان، بشجاعته، هدم ما كان يعتبر حقيقة علمية لا تقبل النقاش. واجه هجومًا شرسًا من العلماء المدعومين من شركات الطاقة الكبرى، حتى أن الجدل تطور إلى شجار بالأيدي. الغريب أن اسمه اختفى تمامًا بعد ذلك. هل انسحب بملء إرادته؟ أم أُجبر على الصمت؟ ربما كان يدرك أن أفكاره تحتاج وقتًا أطول لتُفهم.
الفضول آه من الفضول كان هو سيد الموقف حيث قادني بدون إرادتي للبحث مجدداحتى عثرت على دراسة غريبة تحذر من نوع من البكتيريا جلبها أحد العلماء من كوكب المريخ، لكنّها اختفت بشكل غامض من مختبرات وكالة “ناسا”. والأغرب أن هذا العالم قُتل بطريقة مريبة بعد عودته بأسبوع. كان تقريره يحذر من قدرة هذه البكتيريا على التكاثر بشكل مفرط في وجود الرطوبة، وكأنها شبح جديد جاء ليزيد تعقيد الحياة على الأرض.
عندما هممتُ بالنهوض والذهاب إلى المطعم، إذ حان موعد عودة الدكتور لويس، وقعت عيناي على ورقة أخرى. كانت تحمل عنوانًا مثيرًا: “تفاعل النفايات النووية مع الغلاف الحيوي”. كانت الدراسة تربط بين هذا التفاعل وازدياد سرطان الأوعية الدموية، مرض ليس قاتلًا لكنه يقضي على الكروموسومات البشرية، كأنه سهم خفي يصيب جوهر الإنسان. كانت الورقة موقعة من البروفيسور “أبريك” والبروفيسور “المهدي”. عندها، لم أستطع الانتظار. اتصلت بأرشيف قاعة المؤتمرات الكبرى في كندا، وطلبت موعدًا عاجلًا. كان عليّ أن أرى بنفسي ما الذي حدث في ذلك المؤتمر؟ هل تعامل العالم مع هذه الأوراق بجدية، أم أنها بقيت حبيسة الأدراج؟وهكذا، وجدت نفسي على أعتاب رحلة جديدة، رحلة للغوص في عمق أحداث جرت قبل مئة عام، وما زالت أصداؤها تضرب في واقعنا كأنها تنبؤات منسية تتحدى الزمن.