قصة

الوسعاية

من أعمال التشكيلي العراقي سعد علي
من أعمال التشكيلي العراقي سعد علي

أخيرًا، نطقها عبّود، ساكن الطابق السابع بصعوبة مع أوّل تقلّصات بدأتها معدته:

“يا شعب الوسعاية المسكين….”

لم يعُد الأمر يُطاق، ولكن ثمة ضرورة مُلحّة لوضع نظام ما، أيّ نظام، قبل أن يلتهموا بعضهم جوعًا، وغيظُا.

مستسلمًا للمغص، جلس مواصلًا خطابه، إنّما بنبرة صوت واهنة، والعيون شاخصةً من حوله نحوه هو تحديدًا، الشاب الوحيد، الذي لم يفقد ذراعه أو قدمه أو لسانه أو عقله، إثر الكارثة التي حلّت بالوسعاية:

“لقد هربوا جميعًا… هربوا وتركوا لنا هذه التركة”

والتفت مُشيرًا نحو الأنقاض من خلفه، سبعة طوابق سوّيتْ بالأرض…

قاطعه أحد قاطني الدور الثاني:

–        مُنذ قُتِل ذاك الرجل المبارك، حدست أننا سننتهي هنا.. لولا…

نهض أحد قاطني الدور الأول منتفضًا:

–        هُراء.. رَجُلَك المبارك هذا هو السبب! ولو اهتمّ بإصلاح عمارتنا طيلة سنوات إقامته الأربعين في الدور الأرضي، متحكّمًا في مدخل العمارة الرئيسي، متحكّمًا في ما يدرّه علينا نبع المياه في الباحة الخلفية، لو التفت قليلًا إلى احتياجاتنا ونحن نزيد عامًا بعد آخر ونرتفع طابقًا بعد الآخر، عوضًا عن اهتمامه بالعمارات المجاورة، والأراضي الواقعة خلف ضفة النهر المقابل، لولا كل هذه الفوضى، لما جرى ما جرى…

اختلطت أصوات من تبقى من سًكان العمارة المنهارة، وكاد أن ينشب عراك جديد، عراك آخر، تُسال فيه الدماء وتُشجّ الرؤوس، تُفقأ فيه الأعين وتُكسر الضلوع، وتُكسر القلوب.

كاد أن يحدث ما اعتادوه، حتى ضحكة “مُنذر” جلجلتْ كعادتها مطلع كل عراك، مُنذر الذي لا يعرف أحد إلى أي طابق ينتمي، ما يعرفونه عنه أنه يمضي جُلّ وقته فوق السطح، حيث لاقطات القنوات الفضائية، القديمة التي تُدعى أنتينات، والحديثة التي يسمونها صحونًا، لا يفعل شيئًا سوى محاولة إصلاح الأنتينات القديمة، ومراقبة كل خيط كهرباء يتلف، وكل جديد يُركّب، كل أنبوب غاز ومياه يسرّب الماء، وكل جديد يُثبّت، كانت لديه محاولات جادّة قبل أن يعرف السخرية، محاولات تنبههم قبل “خراب مالطا” او خراب العمارة، يتحدث عن بنية تحتية متهالكة، يتحدث عن حاجتهم لعمليات ترميم واسعة، وعن ضرورة أن يعرف كل منهم أين يلقي بقمامته بدل إلقائها من النوافذ، يتحدث عن رداءة كل عملية إصلاحية يعلن عنها سُكان الدور الأرضي، لم يكن يضحك، كان يحذّر فقط، حتى جاء اليوم الذي حذّر فيه من خطورة نبع المياه على أساسات العمارة، يومها أخرسته العائلة القاطنة في الدور الأرضي، تمّ حبسه في عليّة الصبح، وتناوب عليه بعض أفراد العائلة، لا أحد يدري ما جرى بالتحديد، حتى خرج بعد أيام لم يعدّها أحد، ومن يومها لم تُسمع منه إلا الضحكات المجلجلة الساخرة، حتى بعد مقتل وليّ العائلة القاطنة بالدور الأرضي ورحيل أفرادها، حين اعتقد الجميع أن مُنذر سيتعافى، وسكنتْ في الدور الأرضي عائلتان، لا عائلة واحدة، حتى بعد ذلك، بل بسبب ذلك، ازدادت هستيريا سخريته وصار مصدر إزعاج لا يتحمله أحد من سُكان العمارة، لا أنصار عائلة “الرجل المبارك”، ولا أنصار العائلتين “المباركتين” إياهما، عائلة الحاج التي سكنت في جانب الواجهة الأمامية حيث بوابة الوسعاية ومفاتيحها، وعائلة الباشا التي سكنت في جانب الواجهة الخلفية، حيث عين النبع.

رغم ذلك، حاول عبّود ساكن الطابق السابع، من جديد -رغم وهنه- السيطرة على الهرج، فالتقط أحد الأنابيب الصدئة المكوّمة في الركن الخلفي حيث يجتمعون، غير مبالٍ بتلوث جراحه بالصدأ الذي صبغ كفّيه، ضرب به جانب خزان مياه حديدي، انتهتْ صلاحيته منذ زمن لا يتذكره أحد من بين الموجودين، فانضمّ إلى بقية الخردة التي لم يتنازل أي من سُكّان الطوابق السبعة يومًا لإزالتها، أو إزالة ما تسبب به منها على الأقل.

–        “ألم تملّوا!

ألم تتعلّموا شيئًا مما جرى!؟

اسمعوا…

لم أكن موجودًا حين وُضع حجر الأساس، وأنا الآن غير واثق أنه كان ثمة حجر أساس من الأساس!”

سمع همهمات بعضها ضاحك، والآخر معترض، لم يضحك مُنذر، فواصل عبّود قبل أن يُقاطَع مجدّدًا:

“لا أعرف لِمَ كان لكل طابق من طوابق عمارتنا واجهات تختلف عن البقية، ولِمَ كان لكلّ طابق شبكة كهرباء لا تماثل الطابق السابق واللاحق له، ولِمَ كان لكلّ طابق شبكة مياه وصرف صحي مختلفة تماما، ولِمَ كانت تلفّ عمارتنا كالكفن؛ كل تلك الأنابيب الحديدية والبلاستيكية وخيوط الكهرباء المعزولة وغير المعزولة.

لا أعرف لِمَ كان الطابق الأرضي هو الأجمل؟ لِمَ زيّنته الأعمدة الدائرية الفخمة بتيجانها المذهّبة، فيما تراجعتْ الفخامة تدريجيًّا طابقًا بعد الاخر؟ ومن الذي قال بأن ساكن الطابق الأرضي هو من يتحكّم بمواعيد دخولنا وخروجنا وما نبيع وما نشتري وما نملك؟

ولا أعرف، ما الذي كان يفعله أجدادنا الذين بنوها قبل أن تتفجّر في الباحة الخلفية عين النبع؟

ومن الذي اكتشف أن مياه النبع تملك قدرات علاجية لا يملكها النهر الذي يمتد أمام الواجهة، ويعيش على سفحه جيراننا قانعين به حتى كشفنا لهم سحر عين نبعنا.

ثمّ لِمَ لّمْ نعالج أمراضنا بمياه النبع واكتفينا ببيعه للجيران في الضفة الأخرى من النهر!؟

بل أكثر من هذا، فأنا لم أفهم يومًا، لِمَ كنَّا نعيد شراء مياه نبعنا في قناني مياه بلاستيكية فاخرة!؟”

جلجلتْ ضحكة مُنذر في الخلف مجدّدًا، واصل عبّود رغم هذا، تحوّلت تلك الضحكة إلى خلفية صوتية لما يجري منذ سنوات طويلة:

“ولم يعُد مُهمًّا الآن بعد أن اختفت عين النبع، وتحوّل كل شيء إلى أنقاض، أن أعرف أي شيء… ما أعرفه يا سُكان هذه الوسعاية.. الطيّبين…”

هنا شرق مُنذر لشدة الضحك، حتى سقط مغشيًّا عليه، فتنهّد الجميع:

“ما أعرفه، أنّ خلافاتنا حيال أحقية عائلتي الحاج والباشا في امتلاك مفاتيح العمارة كانت البداية…

وأنّ عائلة الباشا أرادت أرباحًا أكبر من مبيعات مياه النبع، وأنه حين رفض الحاج ذلك، قرّر الباشا الحجز على عين النبع.

أخبرنا الحاج بأن الباشا يحرمنا من قوتنا ودعانا لطرده كما فعلنا مع السابق. فيما حاول الباشا إقناعنا بأن الحاجّ يسرق قوتنا بالفعل منذ سنوات، بصورة أسوا من تلك التي كان يفعلها السابق!

وبينما كنّا منشغلين بالتحاور، مستخدمين في ذلك مناجل أجدادنا الصدئة، وما جاد به جيراننا من أدوات الحوار كالسيوف والنبال لدعمنا وتشجيعنا، بينما كنّا كذلك، قرر الحاجّ أن يصل إلى مصدر نبع المياه تحت الأرض فيقطعها على جاره، فأزاح بضعة أعمدة، وبدأ الحفر في منتصف الطابق الأرضي، وبنى على إثره كلٌّ من الحاج والباشا سورًا يقسم الدور الأرضي إلى قسمين، حتى صار سُمك الحائط سُمكيْن، وصار محتّمًا على قاطني الأدوار العلوية من الجهة الخلفية القفز بين السلالم للوصول إلى الواجهة الأمامية، سيّما بعد تعطّل المصعد وانعدام الأمل في إصلاحه، منذ زمن نسيناه هو الآخر، فبعضكم يقول منذ تأسيس العمارة، وبعضكم يقول منذ حُكم ذلك الرجل، والبعض الآخر يقول منذ قُتل.

المهمّ، أنّ أحدًا منا لم يفطن، أن إزالة الأعمدة قد يكون القشة التي ستقصم ظهر عمارتنا المُتعب أصلا، لا أحد”

“بلى.. أنا فطنتُ لذلك”

نسي المستمعون ذاك الصوت، فالتفتوا جميعًا نحوه، كان صوت مُنذر لا غير، الصوت الذي ظنّوا أنه فقده…

“لقد عرفتُ أنها ستكون آخر مرحلة من مراحل الانهيار، الذي بدأ منذ زمن بعيد، أطول من زمن بناء تلك الخربة التي تسمونها عمارة”

في غمرة المفاجأة، لم يجرؤ أحد على مقاطعته، وتوجّسوا حين ابتسم:

“عرفتُ ذلك، ولكنني تعلمتُ ما يكفي لأعرف ألا جدوى من تحذير أحد…

بل أكثر من ذلك، كم انتظرتُ لحظة الانهيار، وللأمانة، لم أتوقع أن يخرج أي منكم على قيد الحياة، كان ينبغي أن أخمن هذا أيضًا، فالأشقياء يشبهون القطط…

لكن كان ينبغي أن تختفوا معها…

هربوا.. متفاجئون أنهم هربوا!؟ يا لكم من حمقى مدّعين… ولو أتيحت لكم من الأموال ما امتلكوا لفعلتم مثلهم، ربما حتى قبل انهيار أول سقف.

طبعا يهربون.. طبعًا.. لم يعد ثمة عمارة، لم يعد ثمة نبع مياه سحرية، لم يعد ثمة ما يصلح للعيش فوقها، أمست مجرد وسعاية…

هل عادت لأصلها؟ لا.. فالأرملة لا تعود بِكرًا…

هل تبحث عن الحلّ يا عبّود؟ للأسف ليس ثمة خيارات متاحة، والحل الوحيد يعرفه الجميع هنا.. انتهى زمن الخطب”

هل إغماءته هي ما أعادت عليه عقله؟ لم يتساءل أحد، إذ اكتفوا بمراقبته، خُيّل إليهم في البدء أنه يبحث عن شيء ما تحت الركام، ثم اتضح أنه يحاول -بشكل يدعو هذه المرة بالفعل إلى الضحك- أن يزيح الركام، وينقله بعربة صغيرة عرجاء إلى خارج الوسعاية.

عاد كلّ من القلّة الذين لم يكن بوسعهم البحث عن مقر جديد إلى خيمهم المنصوبة مؤقتا، مثل كل شيء مؤقت كان في العمارة. ما عدا عبّود، الذي قرر مجاراة مُنذر منذ توقف عن الضحك وقرر العمل، الغريب أن منذر كان سعيدًا بالفعل أثناء عمله، كان مبتهجًا بشكل لم تكن لتعبر عنه كل ضحكاته التي عُرف بها مجتمعة.

“لِمَ لّمْ تكن تعمل من قبل يا مُنذر؟ لِمَ كنت مكتفيًا بالسخرية”

“كنت كلّما أصلحتُ عطبًا أو حذرت بشأنه، عوقبت.. راح الجلادون الآن”

يومًا بعد آخر، بدأ ينضمّ إليهم الآخرون، إذ لم يكن ثمة بالفعل، أي حلّ آخر، وصار من المحتّم لهم أن يشغّلوا عضلة خاملة في أدمغتهم، كي يكتشفوا مصدر قوتٍ جديد.

وبينما هم منهمكون بمسح آخر ركن من أركان الوسعاية، هتف عبّود:

“النبع!… النبع!”

وحين اقترب مُنذر، وجد ما خشي منه، إذ تفجرت عين النبع من جديد.. أطبق كفّيه على فم عبّود، التفت ينظر إن كان قد لاحظهم او سمع عبّود أيّ من البقية، فانتزعها عنه عبّود:

“هل جننت!؟”

“بل أنت من جننت”

كانت تلك الجملة الأخيرة التي سمعها عبّود قبل أن يغيب، بضربة المعوَل الذي غُرِس في رأسه…

وقف مُنذر للحظات، وسأل نفسه، إن كان في غمرة خوفه من ضياع حلم بدأت تتضح معالمه، قد تحوّل إلى “رجل مبارك”، أو حاج، أو باشا.


كوثر سعيد الدين الجهمي، كاتبة ليبية حائزة على بكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة طرابلس. بدأت الكتابة علناً عام 2012 عبر مدونتها “سيدة عادية”، وفازت بجائزة مي غصوب للرواية عن روايتها “عايدون” في دورتها الأولى عام 2018. تقلدت منصب رئيس التحرير في منصة “فاصلة” الثقافية، وساهمت في عدة مشاريع أدبية من بينها “ألبوم ليبيا” ومنشورات دار الفرجاني. لديها إصدارات بارزة تشمل روايات مثل “العقيد” و”ولد بلاد”، ومجموعة قصصية بعنوان “حي القطط السمان”. تعمل على دعم الأدب الليبي من خلال كتابتها ومشاركتها في الفعاليات الثقافية.

مقالات ذات علاقة

حدث ذات عمر

مقبولة ارقيق

زوج للبـيـع

عائشة إبراهيم

قطرون .. مدينة قلبي

زمزم كوري

اترك تعليق