الذكرى العاشرة لرحيل الكاتبة والباحثة الليبية شريفة القيادي
شريفة القيادى
كانت المرة الألف فيما يخيل إلى التي أتعرض فيها لنفس الإحساس بالضآلة والضعة والصغار، مشاعري في الداخل تموج صخباً، وعذابي صار يكاد يبين لكنني أبدو طبيعية وكأن لا شيء حدث، كأنني لم أتعرض لذات المهزلة، وكأن هذا الرجل لم يجرح إحساساتي يوماً ما، وهو الذى ما فتئ يطعنني المرة تلو الأخرى، يشتمني، يسبني، يقلل من شأني ومع ذلك فإن هدوئي الظاهري كان يستر جميع مظاهر غضبى وثورتي، تساؤلاتي نفسها صارت تتبعها إشارات استفهام كبيرة..
لماذا… لماذا… لماذا؟!
لم أجد إجابة، شريط حياتي منذ وطئت هذا المنزل واضح، ليس أمامي عقبات، لم أتغير يوماً في شيء، كنت دائما الزوجة المطيعة العاملة النشيطة، وهو منذ اليوم الأول ظهر بما هو عليه الآن، ما أن انفضت أيام العرس وصرت المسئولة الأولى عن حاجياته وهو بهذه الصورة، في البداية فوجئت بمعاملته لأخواته وزوجات إخوته في البيت، لكنني سرعان ما صرت واحدة منهن أتلقى السب والشتم، أحتمل ثورات الغضب التي تستبد به، ولم أجد تفسيراً لذلك منذ البداية، إذ منذ البداية صار واضحاً لدى بأن هذا هو مكاني، وهذا هو رجل، وأن هذا بالتالي هو مصيري الذى ليس لي الحق في الخلاص منه، أو المحاولة لإصلاحه…
كنت في المرحلة الثانوية عندما طرقت أسرته باب بيتنا تطلبني زوجة لهذا الرجل، ولم يكن لي رأى فيما يخصني، حتى دراستي التي استمرت إلى تلك المرحلة لم يكن لي فيها فضل، إذ لا سؤال من أحد، لا تفاهم، لا رغبة في معرفة نوع طموحاتي التي تئن في داخلي، كما لم تكن عندي القدرة على التحدي بل لم أعرف ماهية التحدي حتى أتخذه موقفاً، وصلت المرحلة الإعدادية… حصلت على الشهادة الإعدادية، أعد لي أبى أوراقي ثم سجلني في المدرسة الثانوية وأنا لا أفعل شيئا أكثر من تلفى المى، بدأ العام الدراسي فحملني والدى في سيارته إلى باب المدرسة، وسارت بي الأيام اتخطى عاماً وآخر وأنا سعيدة بما وصلت إليه بدأت أحلامي تتخذ مناحي أخرى، أستمر في التحصيل، نجاح مستمر، عضو في الجامعة ثم أتخرج أؤدى دوري وأقوم بواجبي وأعيش حياتي كما أريد.
الصور تتراءى أمامي، أحلامي كانت مجرد أحلام، ظننت يومها بأنها سنتحقق لا محالة، في بيت جميل وزوج محب، وأسرة صغيرة العدد، وعاملة نشيطة ناجحة تعيش حياة طيبة.. لكن عتمة الأيام خيبت إشراقة الاحلام وأطفأتها، كنت في بداية العام الدراسي من السنة الأخيرة عندما جاءت أسرة هذا الرجل تطلبني لابنها، زوجة ورفيقة حياة، لم يجل بخاطري أن أسرتي ستوافق، لكن أبى وافق، وفى سرعة ارتفعت اشارة قف أمام طموحات عمرى لا مدرسة بعد اليوم، بقاء في البيت منذ ذلك الوقت وإعداد زاحم للعرس، ثياب وأشياء واحتياجات كدست أمامي لآخذها معي إلى بيت الزوجية، لكنني لم أصمت تماماً في البداية حاولت الكثير، حاولت استدرار عواطف إخوتي، حاولت إفهام أمي، حاولت مراراً التصدي لأبي ومخاطبته بالعقل، صممت أن أقول له بأنها مجرد أشهر وانتهي من هذا العام الدراسي، بعدها أنا راضية بالذي سيحدث…. لكنني لم أقدر، لم أجد الجرأة على قول (لا) واضحة ولم أجد الجرأة على الرفض المباشر… فلجأت للرفض غير المباشر، رفضت التعامل مع الخياطة التي أعدت لي ثيابي، ورفضت مرات كثيرة مقابلة الأسرة التي سأعيش معها، لكن ذلك لم يجد نفعاً ولم أستفد من ذلك إلا مزيداً من التجاهل لي ولمشاعري، وأغلقت أمامي الأبواب.. صرت وحيدة لا يستمع لي أحد ولا ينتبهون إلى، ثم تعلقت بسبب اعتبرته منطقياً، رفضت قائلة لأمي في صراحة :
– لا أريد أن أعيش مع أسرته الكبيرة العدد، إخوة متزوجون، وأخوات وجدة طاعنة في السن، وعدد كبير من الأطفال يثيرون ولا ريب ضوضاء مستمرة لا يخف أوارها ليلاً ونهاراً… أريد أن أبدأ حياتي في بيت يخصني، أن ابدأ علاقة طبيعية لا تكبلها القيود ولا يحد من حريتها الانغماس في أعمال جماعية تشمل الجميع فتأخذ جهدي، وتذهب بنضارة شبابي، وتحيلني لمجرد آلة لا تحس ولا تشعر، وكأن ليس لها حياة…
لكن المحاولة باءت بالفشل، فلا أمي بالقادرة على فعل شيء، ولا هي فهمت الذى أعنيه فيما قلت… صرت في نظرها مجرد شبح غريب يفكر بطريقة عجيبة، المدرسة قلبت المفاهيم التقليدية، وعقلي يوشك أن يفسد… لكنها لم تقل فيما يبدو لأبى، ولم تفه بحرف لأى أحد، خبأت الأمر كما لو كان عاراً يجب ألا يعرف به انسان، وهكذا سارت أيام الإعداد مملة متعبة ومزعجة، كلما اقترب الموعد، أحسست بذلك الانقباض في داخل، وكلما رأيت فتاة تتأبط كتباً تغذّ السير صباحا صوب المدرسة أحسست بالنهاية، وبأن العالم كله قد صار حفرة ضيقة لا تسعني أنا بهيكلي الصغير الذى صار ضامراً…
ولم يمض وقت طويل حتى انتفلت عبر مناحة سموها عرساً الى بيت هذا الرجل، طلوا وجهى، ألبسوني ثوباً أبيض طويلاً، وطرحة كبيرة وجعلوني أمسك في يدى باقة من الزهور الصناعية، ارتديت قفازاً أبيض وحذاء من الساتان ورفعوا شعرى عالياً، في تلك الليلة صرت مجرد دمية، أداة للهو أعدت اعداداً متكاملاً وغنوا من حولي، صفقوا ورقصوا وألقوا بنكات سخيفة وزغردوا كثيراً، تمنيت لو أن تلك الحناجر القوية تصمت، لو أنني لا أسمع، لو أن العالم تحيق به مصيبة، لكن لا شيء من ذلك طرأ، واقتادوني في ضجيجٍ وصخب الى البيت الذى سأعيش فيه بقية عمرى، ورأساً ساروا بي إلى حجرتي التي صارت منذ تلك الليلة عالمي الذى أهفو فى ساعات تعبى الى الركون إليه وآخذ قسطي من الراحة فيه…
لكن أيام الفرح لم تستمر طويلاً، إذ سرعان ما انفض العرس، وصرت فرداً من العائلة الكبيرة، أؤدى دوري في الطاحونة الضخمة، لا أتكلم كثيراً، لا أشكو أبداً، لا أرفع صوتي، عند الغذاء اجتمع مع نساء الأسرة نأخذ نصيبنا من العلف وفى العشاء نفعل ذات الشيء ثم يجلسن في فترة ما بعد الظهيرة وأجلس معهن نشرب شاياً، وأستمع إليهن يتحدثن فأنصت واتطلع واجتر أحلامي التي تلاشت مع النسمات التي مرت منذ شهور…
كان يمكن أن يستمر الحال طبيعياً حسبما هو بلا تغير، وأقنع بنصيبي وقدري ولا أفكر فيما أنا فيه، لكن هذا الرجل يأبى أن يدعني أهدأ وأرتاح، إذ ما فتئ يعاملني بذات الأسلوب السمج الذى تعود عليه مع أفراد أسرته من النساء، حديثه صراخ، طلباته أوامر رغباته لا بد وأن تتحقق ولو انطبقت سماء الدنيا على الأرض، كان امبراطوراً حقيقياً، لا… بل كان في نظري لا يزيد عن كونه رجلاً وكنت أنا لا أزيد عن كونى امرأة حقيقية بجبني وسلبيتي وموت إرادتي…
كان يمكن أن أستمر مجرد زوجة كما أراد لي أبى وكما أرادت لي أسرتي، لكنني بعد أشهر من الزواج صرت أنفر من هذه الصفة، مجرد زوجة، لا شيء أكثر من حيوان يعمل النهار بطوله يخدم شخصاً لا يرعى شعوراً ولا يحس بالآلام والعذاب داخل النفس الإنسانية المتعبة.
أحسست أنها المرة الألف التي يدعوني فيها – فيما يبدو – بهذه اللفظة القبيحة، يا حمارة، والمرة المليون التي يشتمني فيها ويسبني ويضفى على من الألقاب ما يخطر بباله المريض، في الماضي كنت أسكت، أبتلع ضيقي وأسكت، إلا أنني الآن لست بقادرة على الصمت ولست بقادرة على التغاضي، إذ أن في قلبي تتأجج ثورة، وفى حياتي بوادر عاصفة، وفى عقلي إشارات الاستفهام الكبيرة صارت دامية، لماذا… لماذا… لماذا… لماذا يعاملني بهذه الصورة وأنا التي كنت كما يجب أن أكون، الزوجة الأنثى التي لم تهمل لحظة واحدة واجبها تجاه زوجها، ولطالما قضيت الليل ساهرة انتظر قدومه من عند أصحابه، أنضو ثيابه، أساعده في ارتداء ثوبه الليلى، أحضر له من المطبخ ما يريد أن يأكل، أحضر له شراباً، أو أعد له شاياً وأكون له عندما يريد ثم أنزوى في ركني من الفراش عندما يستغرق في التوم، لا أطلب ولا أشكو ولا أتفوه بحرف واحد قد يبين ما في داخلي من ضيق أو نفور.
لكنني الآن لم أعد بقادرة على الصمت، هذه الصرخات صارت تطرق جدار محى، وأنا لست بقادرة على الاستمرار في الصمت ذلك أن الصمت ليس موقفاً، لم أعد بقادرة حقيقة على الصمت والثورة في داخلي، عذابي يغذى ثورتي، قلقي يغذى ثورتي، إحساساتي النارية الملتهبة تغذى ثورتي…
وثرت… ثرت بطريقة هادئة، خاطبته بالعقل متسائلة عن سبب ثورة أعصابه الدائمة، ورد على بأسلوبه المعتاد، صراخاً وضجيجاً ملأ جو البيت في هدوء الليل، قال لي عبر أسنانه الصفراء الكئيبة بأن ليس من حقي الشكوى من أي شيء لأن كل شيء يتوفر لدى، الثياب، الطعام الرفقة… و… عدت أقول في هدوء أكثر :
– لكنني أريدك أنت، فأنت زوجي وكلانا معاً يجب أن نصنع الحياة الملائمة… و…. وصرخ في وقد قفز واقفاً: أنت وقحة تنقصك التربية… و… ولم أسمع أكثر، لم أحب أن أسمع أكثر، بل وفى انفعال واضح جمعت بعض حاجياتي ووضعتها جانباً حتى الغد، كان قراري التوجه الى بيت أسرتي وليحدث ما يحدث فلن أهتم…
سألني في اندهاش ماذا تفعلين… ؟ أجبته في انفعال:
– سأترك هذا الجحر، لن أبقى بعد الليلة لحظة واحدة، هذه ليست هي الحياة التي حلمت بها، وأنت لست بالزوج الذى يمكن أن أقضى معه بقية عمرى، لحسن الحظ ليس لدينا أبناء، غدا أو بعد غد قد تجد المرأة التي تفهمك جيداً وترضى بك كما أنت، أما أنا فلا أقدر، أنا لست بالغبية ولا بالبهيمة ولا بالناقصة عقل أو تربية. يجب أن تصلح من نفسك، كان عليك حقيقة أن تفعل هذا قبل أن تتزوج لأنه كما يبدو قد فات الأوان على إصلاح أي شيء، أنا لن أبقى ولو وهبت كنوز قارون. سأصنع الحياة في ناحية أخرى، سأعود للعالم الذى جئت منه، لحسن الحظ لم يضع منى الكثير، وغداً قد تسمع عنى، ربما جمعتنا الظروف ولكن في حياة لا تشبه هذه لا من قريب ولا من بعيد، شيء واحد أنصحك به هو أن تحاول اصلاح نفسك لأنه أنسب عمل تقوم به، وأنسب مشروع إن نفذته عاد عليك بالخير وعمك النفع…
وانهمرت دموعي، بينما تطأطأ رأسي الى الأرض، وجلس هو كمن سلبت منه الإرادة يتطلع الى في قنوط واندهاش، لكن لم يكن في قلبي نحوه بادرة عطف أو رغبة في البدء من جديد…
10 /6/ 1974 م