أحمد بن عمران | القائمة القصيرة – جائزة كامل المقهور للقصة القصيرة
نعتذر من حضراتكم عن التأخر في الدخول لقاعة المسافرين وذلك لانشغالنا في أمورٍ أخرى، لقد وصلت في رحلتي الأولى قبل ثلاثة أيام، حطت بنا الطائرة في مطار بنغازي يوم الخميس ليلاً، بعد مدة في الطائرة وسط الظلام ظهرت بنغازي بأنوارها لتستحضر في ذاكرتنا مطلع بانت سعاد وجلت الظلام الذي كان على مد البصر وملء القلب، بنغازي من أعلى بتلك الأضواء كانت النجوم والقمر معاً، ولكن كما النجوم والقمر، هي أجمل من بعيد فقط، الشوارع التي كانت واسعةً وسع أحلامنا، مليئة بضجيجنا، صارت ولسببٍ ما ضيقةً ضيق صدورنا و مهجورة كقلوبنا، لا أدري اذا ما كان ذلك لضيق الشوارع بعد التوسع العمراني، أو لسببٍ أخر، وأين ذهبت الشمس التي كانت تغطي الشارع؟ هل رحلت هي الأخرى كما رحل من رحل عن شارعنا هذا؟
السادة المسافرون، لم أتأخر بسبب ازدحام مروري، لقد صارت الطرقات أقل ازدحاماً ولكنها باتت أقبح بشكلٍ ما، أو ربما هي كانت دوماً بهذا الشوارع … شوارعنا بكل سياراتها ومحلاتها واضوائها تبدو باهتة قاتمة ينقصها شيء، لا حب فيها، لا تظهر فيها ملامح الحياة، هي ذات الاسطوانة التي أعيدت وتكررت حتى مللتم سماعها ربما، ويؤسفني تذكيركم بذلك صراحةً، ولكن… ألا ترون أن كل هذا التغيير وكل هذا التوسع جعلنا نبتعد عن بعضنا بطريقةٍ ما، الا ترون أن هذه التُربة تحتاج لجُرعة حب تُلونها؟، ألا ترون ذلك؟ ولا نطلب منكم تفسيراً فكل شيء بالسيف الا حبني يا بني ادم، لا نُجبر حضراتكم على أن تُحبوا بعضكم البعض فهذا أمرٌ متروكٌ لكم، ولا أدعي هنا أنني أفضل منكم حالاً، ولا أحد أفضل منكم حالاً، لكن الحب هو ما ينقصنا حتى تصير شوارعنا أوسع.
السادة المسافرون الكرام على متن الطائرة، بعد أن حصلت على كرت الصعود ذهبت خارجاً طلباً لبعض الهواء ولاجئاً لسيجارتي، جلست في الخارج أسمع الأغاني وانفث الدخان في الهواء، اقترب مني أحدهم يسأل عن الطائرة التي حطت للتو وهل خرج كل رُكابها بعد، ثم جلس جانبي، أخرج سيجارته لكنه لم يدخنها، جعل يقلبها بين أصابعه قبل أن يثني رجليه فوق الكرسي، من باب الأدب أزحت سماعتي من أذني عندما بدأ في الحديث معي كما خلعت نظارتي الشمسية ولا أعرف لماذا أخبركم بهذا؟، المهم أنه بدأ حديثه عن فيلا للبيع بمليون دينار وربع المليون، ثم قال بينما يُبعد هاتفه من أمامي بعد أن أراني العرض:
“أنا الربع مليون هذي نأمن بيها مستقبلي”
قالها والسيجارة في يده ماتزال تتقلب تنظر مصيرها في صبر، ثم ألحق بجملته الأولى
“ربي يزيده كان حلال”
ليبعد عن نفسه شُبهة الحسد وأتبعت أنا دعاءه هذا بكلمةٍ واحدة
“أجمعين”
صحيح أنني لم أسأله عن عمله، لكنه كان كريماً بما يكفي ليحدثني عن ذلك، ذكر وظيفته الحكومية والتي لا تستحق أن أُخبركم بها، فهي ليست ذات أهمية لا في السياق ولا في حياته هو شخصياً -والا لما بحث عن عملٍ أخر غيرها- حدثني قليلاً عن حاجته للمال -كما حاجتنا كلنا في هذا الزمان- لكنه لم يستطع أن يعمل في قريته
“تعرف الناس أنت تشوفك تنقل في بلوك بناء ولا تسوق في تاكسي”
ولم يكن هناك داعٍ ليكمل جملته فأنا حقاً كما قال أعرف الناس في مثل هذه المواقف، وأعرف حبهم للص اذا ما صار مسؤولاً، واحتقارهم لأي عملٍ أخر، حكى لي سائق التاكسي عن أنه يأتي هنا كل يوم، لم يكن هكذا دوماً، في بداية الأمر كان يأتي للعمل عندما يحتاج مالاً فقط، يعمل يوماً، يجمع فيه خمسون دينار أو يزيد، ثم يعود لمنزلهم ولا يعود للعمل حتى لا يتبقى من الخمسون ديناراً الا خمسة دنانير، أما اليوم، فهو يقول بأنه يأتي للمطار حتى لو جمع في اليوم السابق مئة ديناراً كاملة، يعلل سبب تغيره هذا إلى نصيحة من صهره، ثم يردف قائلاً بأن هذا هو الفارق بين عقلية البدوي و الحضري، فالبدوي يعيش اليوم بيومه على حد قوله.
لا أعرف مستوى تعليم سائق التاكسي ذلك، لكن هو حتما اختصر اطروحاتٍ عديدة بتفريقه هذا، ولم أعلق على ما قاله فلا تعليق لي هنا، نهض هو واقفاً والسيجارة ما تزال بين أصابعه لم يُشعلها بعد.
“تعرف يا… شن سماك الله؟”
أجيبه
“بالجودة، تعرف يا فلان، الفلوس مش كل حاجة راه، نعم ربي واجد غير الناس ما يعرفوش”
ثم أسهب يُعدد النِعم الأخرى، يقارن بين نفسه وبين أحد المليونيرات فرضاً، يرى نفسه في نعمة أكثر من ملايين البشر كونه ينام فور أن يضع رأسه على الوسادة ليلاً، ربما لا يعرف ذلك الثري معنى النوم، أو معنى راحة البال، ثم زاد مضيفاً
“صوت الحاجة في الحوش وهرجة العيال جنبك خير منهن الفلوس، غير الوقت خلا الناس تفكر في المادة بس”
ثم أردف بمزيدٍ من الأمثلة عن عديد الأشياء التي لا تُرى بالعين ولكنها راحة للقلب والبال لا تُشترى بثمن بل وليس لها ثمنٌ أيضاً.
مرةً أخرى، لا اعرف مستوى تعليم صاحبي هذا، لكنه قطعاً يشارك كارل ماركس افكاره في انتقاد الرأسمالية ولكن من منظورٍ أخر، من منظورٍ انساني لم يذكره كارل ماركس، فسبق سائق التاكسي هذا ماركس في ذكره ونقده دون أن يدري.
“تعرف يا فلان!”
ولا أعرف هنا سبب أن يناديني بالمدينة التي هجرها أجدادي منذ قرون وانقطعت علاقاتنا به، ولكن ذلك عادة حينا.
خطرت ببال سائق التاكسي هذا فكرة قرر طرحها على الفور مُضيفاً على عدد النِعم التي ذكرها منذ قليل، أنه يرى في قلة ماله نعمةً أحيانا، فمن يدري، ربما إذا كان غنياً لعاقر الخمر وصاحب النساء – لم يقلها هكذا طبعاً ولكن للحياء العام أحكام- ويزداد بذلك قناعته بأنه في نعمة.
يناديني أحد العاملين بالمطار بعد أن خرج من الباب ليعلمني بضرورة توجهي للبوابة، أحمل حقيبتي وأودع صاحب التاكسي بينما قرر هو اشعال السيجارة أخيراً.
السادة المسافرون، لم يسعفنا الوقت ولا الفُرصة لنلتقي جميعاً، لكننا كلنا كنا هناك، كلنا صرنا مجموعةً واحدة حتى لو لم ندرك ذلك، صرنا مجتمعاً صغيراً لبضعة ساعات، هو ربما من أقل المجتمعات انسانية في العالم، تواصلنا محدودٌ جداً بل يكاد لا يُذكر، يجلس كلٌ منا بمفرده لا يعرف شيئاً عن الجالس بجانبه، تُحركهم أصواتٌ لأشخاصٍ لا يعرفونهم، بل وربما حتى لا يرونهم، فصوتٌ مجهول يجعلهم يقفون في خط في انتظار ركوبهم الطائرة، صوتٌ أخر يجعلهم يجلسون ويربطون حزام الأمان، ذات الصوت يسمح لهم بالحركة بعد هبوط الطائرة مجتمعٌ يسير ويجلس ويأكل بناء على تعليماتٍ من صوتٍ غير مريء، مجتمعٌ لا يعرف الأفراد فيه بعضهم البعض، يتحركون معاً يشبهون القطعان في ذلك.
وبطبيعة المجتمعات عموماً، يخرج من المجتمع الكبير مجموعةٌ صغيرة يجمعها شيء فتتحد تحت راية جامعة ولو لقليلٍ من الوقت، المجتمع الصغير المُبتعد عن المجموعة الكبيرة في غُرفٍ صغيرة تحتاج اشتراك عضوية حتى تدخلها، وليس الاشتراك فيها بالصعب، كل ما تحتاجه هو سيجارة، سيجارة واحدة ستسمح لك بدخول غرفة المدخنين في المطار والانضمام لمجتمعهم، سيجارة يُمكنك أن تستعيرها من أحد المدخنين في الغرفة أصلا، يواجه المدخنون في مطارنا دوماً نفس المشكلة، تأخذ سلطات المطار الولاعات من جيوب المدخنين وحقائبهم قبل الدخول لسببٍ ما -لا تذكر الأخبار أن عملية اختطاف طائرة حدثت يوماً بسبب ولاعة-، ودائماً ما تكون الحلول واحدة، إما أن أحد المسافرين استطاع خداع سلطات المطار وادخل معه ولاعة غفلت عنها أعينهم أو أجهزتهم، آو مُدخنٌ يملك سيجارة مُشتعلة لا يعرف أحدٌ كيف اشعلها يمررها لمدخنٍ أخر ليشعل بجمرتها سيجارته ثم تمضي السيجارة وهكذا في دائرةٍ مُغلقة من الجمرات والسجائر يكسرها فقط نداء ركوب الطائرة فيخرج المدخنون وتنطفئ أخر سيجارة، حينها، تكون الجمرة الأولى التي لا يعرف أحدٌ من أشعلها، تكون تلك الجمرة قد تناقلها الناس من سيجارة إلى سيجارة ومن يدٍ إلى يد حتى أشعلت مائة سيجارة أو يزيد دون أن يسأل أحدٌ من المدخنين صاحبه عن كيف أشعلها أو يشكو أحد المدخنين أو يرفض اشعال سيجارته المارلبورو السويسري بجمرة سيجارة رياضي محلية، هم يتناقلونها ويحافظون عليها حية، يرفض أحد المدخنين اللحاق بصاحبه بينما يرى مدخناً أخر قادماً فينتظره حتى يدخل ليعطيه سيجارته ويستخدم جمرتها، الجمرة هنا رسالة يجب أن يُسلمها الواحد للأخر حتى لا يأت مدخنٌ فلا يجد ما يُشعل به سيجارته.
السادة المسافرون، ترك أحد المسافرين هنا ولاعته، وانا لا أقول لكم هذا حتى تبحثوا عمن نسي ولاعته، بلا أُخبركم بهذا حتى تعرفوا فقط، فالواضح ان صاحب الولاعة تركها عمداً وقصداً لإخوانه المدخنين، ضارباً بذلك أبهى أمثلة الإيثار والتكافل الاجتماعي، هو تكافلٌ غفلتم عنه أنتم في الخارج بعد أن انشغل كلٌ منكم بهاتفه أو بكتابه ولم تشعروا حتى بجلوس انسانٍ آخر بجانبكم، فكيف لكم أن تعرفوا معنى التكافل؟
في داخل الغرفة تنوعت القصص، يقول المسافر الذي يرتدي قميصاً أصفر، بأنه ذاهبٌ لهناك حتى يأتي بورقة تسمح لراتبه النزول بعد أن حُبس -الراتب- في أحد المكاتب وتاه وسط ضباب البيروقراطية والنظام الذي صُمِّم عندنا حتى لا يعمل، نحن أكثر شعوب العالم إبداعاً واختراعاً لمنظوماتٍ عاطلة، نخترع آلة سحب نقود لا تسحب النقود، وسيارةً تحتاج لسيارةٍ أخرى حتى تتحرك، ومنظومة تكون مهمتها فقط أن يتوظف عشرة أشخاصٍ فيها حتى يضغطوا زراً فيها بينما يراقبها عشرون أخرون حتى يتأكدوا من ان الزر يعمل جيداً… أو لا يعمل اطلاقاً.
يقول المسافر ذو الحقيبة الصغيرة بأنه انتقل الى هناك بحثاً عن العمل وجاء هنا لقضاء العطلة فقط، يشتكي ذات المسافر من أن هناك صار مكان شديد الازدحام لكثرة القادمين من كل مكانٍ الى هناك بحثاً عن العمل، ويرجو ان تسعى الحكومة لتوفير فرص عمل في كل مكان حتى يعود القادمون إلى كل مكان ويُصبح هناك أقل ازدحامًا، لا أدري إذا ما نسي هذا المسافر أنه هو أيضاً من كل مكان، أو أن حمله حقيبةً صغيرة فقط في سفره هذا جعله كطائرٍ مهاجر، لا موطن له ولا مكان.
يقف المسافر الأصلع يراقب طفله يلعب متبسماً بينما ينظر نحوه المسافر العجوز متبسماً هو الأخر، لم يقل أيٌ منهما شيئاً، لكن ابتسامتهما قالت كل شيء.
السادة المسافرون، خرجنا كلنا من الغرفة متجهين لركوب الطائرة، لا يعرف أيٌ منا اسم الأخر، لكننا نعرف قصص بعضنا البعض، عرف أحد المدخنون قصتي وعملي ومكان سكني وسبب سفري، وعرفت أنا أيضاً ذلك عنه، لكننا نسينا الاسماء، أو تناسينها، أو لم تكن هي ذات أهمية أصلا، المهم كان قصة الانسان لا اسمه.
السادة المسافرون،
حمداً لله على سلامة الوصول، قال لكم قائد الطائرة عن التوقيت المحلي ودرجة الحرارة، غفل أن يُخبركم بأنه فور خروجنا من هنا سنذوب جميعاً وسط مجتمعٍ آخر من الواصلين، ثم يخرج كلٌ منا من المطار ويذوب وسط المجتمع، ونمضي وكأن هذه الرحلة لم تكن، ربما سيقابل بعضكم الأخر في ظرفٍ غير هذا الظرف ولكنه لن يعرفه وسيمر بجانبه كأنه لم يره في حياته، وسينسى مضيف الطائرة وجوهكم وطلباتكم رغم أنكم ستذكرون وجهه ربما، وستذكرون ربما اسم قائد الطائرة بينما لن يكترث بكم هو فهو لم يرى وجوهكم أصلا، وستنسى المضيفة نظراتكم الحارقة نحوها فلستم وحدكم من طالعها هكذا…أما أنا فسأذكركم جميعاً، وسأسبكم وأحبكم في ذات الوقت.
أحمد بن عمران كما تقول الوثائق (هكسي)، كما يقول الناس، كاتب بدون تخصص، يكتب في مواضيع مختلفة منذ عام 2015 على مدونة تهريس ويحاول التركيز على القصص القصيرة. كاتب سابق في مجلة حبكة للقصص المصورة، ووصل للقائمة القصيرة في مسابقات بحر الكلمات (2021)، تلك القصص (2022)، ومتحف الكلمة للقصة القصيرة جدًا. يسعى أحمد لتوثيق الثقافة المحلية من خلال كتاباته.