الذكرى العاشرة لرحيل الكاتبة والباحثة الليبية شريفة القيادي
شربفة القيادي
من المهم جداً أن يتوخى الباحث التدقيق في عمله، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بموضوع مهم من الموضوعات الحيوية، فالدراسة الجيدة هي الدراسة الكاملة، والمتكاملة، والباحث الجيد هو الذي لا یُخرج عملاً للناس إلا بعد تفحص وتمحیص كبيرين للمادة المجموعة، وللإنتاج الخاص الذي تم إعداده.
ما يدفعني للخوض في هذا الموضوع، هذا الخضم الذي يحيطني وأنا أعمل بجهدي في عدد من الموضوعات، مما يدفع بي إلى النظر في عدد من المراجع والمصادر الأمر الذي يجعل مثل هذه المعلومات تتوفر معاً، وتجعلني أشك في بعضها، بينما أرفض البعض الآخر.
ومن المؤسف حقاً أن يأتي مثل هذه الأخطاء أناس نعتمد عليهم في الكثير من إعداداتنا لدراساتنا ومحاضراتنا وأبحاثنا، وهو أمر يدعو إلى الشعور بالألم، لأن المعلومة الخطأ تجر إلى ارتكاب، لا أخطاء بسيطة، بل جرائم في حق العلم.
والباحث ما هو إلا واسطة بين القارئ الذي يبحث عن موضوع متكامل بمعلومات وافية لقراءته في فترة وجيزة، وبين المعلومات الموزعة في مظانها الوفيرة والتي تتالت في النشر في بعض الحالات على مدى سنوات عديدة، وهذه الواسطة يجب أن تتوخى الصدق والدقة والتثبت قبل الإتیان بأي قرار نهائي عند رصد أي موضوع، وعند نشر أي دراسة. وما يدفع للشك في نقطة، يدفع للشك من نقاط تتلى، ومن مؤلفات تتلى، ويدفع للشك أخيراً في أهمية نتاج الباحث لأنه يدفع لاستبعاد أمثال تلك الكتابات المنشورة.
في كتاب (الفنون الأدبية وأعلامها في النهضة العربية الحديثة) من تأليف الأستاذ أنيس المقدسي، والذي نشرته دار العلم للملايين، والنسخة التي لدي هي الطبعة الثالثة الصادرة في آب/ أغسطس 1980 نجد واحدة من تلك الأخطاء التي لا تغتفر فعلاً، وهي هذه الفقرات الخاصة بالكاتبة مي زيادة، وذلك في صحفة 475، حيث يذكر المؤلف أن ميَّ (لم تندفع في التيار الذي يندفع فيه الذين إذا ألموا بلغة أجنبية، أو درسوا في مدارس أجنبية تنصلوا من كل ما هو شرقي وتعلقوا بكل ما هو غربي. وقد شهد لها بذلك كل من عرفها. ويكفي أن نثبت هنا شهادة سيدة من أرقى سيدات مصر هي عائشة التيمورية – قالت: (لقد وجدت في ميّ من الاعتصام بالشرقية والحفاظ على الشرقية ما يجعلني أذكر مع الفخر أنها كانت المثل الأعلى للفتاة الشرقية الراقية المثقفة. لقد نهلت مي حقاً من موارد الغرب، ووردت حياضه، وأخذت كثيراً من طرائقه واتجاهاته. ولكن ذلك لم ينسها حق أهلها، ولا احتقرت تقاليد قومها، ولا فنيت في الغرب كما يفنى فيه المستضعفون. لقد كانت مي معتزة بقوميتها، مفتخرة بنسبتها، متمكنة من لغتها العربية. وكانت محافظة كل الحفاظ على شخصيتها الشرقية).
كما نجد في الصفحة التي تلي، فقرة أخرى تؤكد الكلام الأول، وتورد على لسان الشاعرة عائشة التيمورية، حيث يكتب المؤلف في صفحتي 477,476: (ولنترك لعائشة التيمورية وهي من هي، أن تصف لنا جهاد مي في هذا السبيل قالت: (لقد انضمت مي إلينا عاملة مجاهدة تسبق الصفوف، وفي يدها قلمها، وبين حناياها قلبها، وفي القمة منها رأسها وتفكيرها. ولكن أفقنا المحدود ضاق أمام عينيها البعيدتين في مراميهما وفي مداهما. وعالمنا المحدود عجز عن أن يتسع لإصلاحها وآمالها وأدبها وشاعريتها، فاتجهت إلى ميادين الأدب والاجتماع يدفعها نبوغ خاص وعبقرية نادرة … فاهتزت لها المنابر خطيبة ومحاضرة لبقة).
ثم يؤكد في أسفل الصفحة 477 الكلام السالف، بهذه العبارة الواضحة وكلام كاتب آخر، فيضيف (وقوله هذا يفسر ما نقلناه آنفاً من شهادة عائشة التيمورية فيها التي يفهم منها أن مي لم تكن تحصر مراميها في عالمنا المحدود)، تقصد عالم السياسة وما إليها، بل انصرفت في جهادها في سبيل المرأة إلى الكتابة والخطابة، وغايتها تمزيق الحجب عن حياتها وانعاش نفسها بالعلم والحرية لتبلغ أنثويتها مدى جمالها الحقيقي، إلى آخر الفقرات الخاصة بمي زيادة كأديبة مبدعة عاشت في العصر الحدیث.
هذه الملاحظات التي ذكرت والفقرات التي نقلت لا يمكن أن تكون بحال قد صدرت عن الشاعرة الكبيرة عائشة التيمورية، فالشاعرة المصرية كانت قد ماتت في سنة 1902، بينما مي زيادة جاءت مصر في عام 1908، وقد كانت وقتها صبية صغيرة لم تدخل مجال الكتابة بعد، بل إنها ما إن وصلت مصر حتى بدأت تعمل لمساعدة والدها في توفير المال اللازم الذي يكفل لهم جميعاً حياة كريمة، إذ (أخذت مي تقوم بإعطاء دروس خصوصية لبنات إدريس غالب وهو أحد وجهاء وأثرياء مصر). (من صفحة 49 من كتاب فن المراسلة عند مي زيادة لأمل داعوق سعد والصادر عن دار الآفاق الجديدة عام 1982)، كما أنها نشرت في سنة 1910 ديوانها (أزاهير حلم) باللغة الفرنسية، وكان باکورة إنتاجها .
معنى هذا أن ميَّ كانت في السادسة عشرة من عمرها عندما توفيت الشاعرة الكبيرة عائشة التيمورية وعمرها يناهز الثامنة والخمسين، إذ كان ميلادها في العام 1840 حسبما تذكره المصادر ومنها بحث الكاتبة مي زيادة عن الشاعرة التيمورية والمسمى (البارق في الظلام)، والمنشور ضمن الأعمال الكاملة لمي زيادة، حيث تقول في صفحتي 35 و36 محاولة استكناه شكل الشاعرة الراحلة (إن الشخص الوحيد الذي في وسعه أن يطلعنا على تفاصيل معيشتها، أعني شقيقها الجليل أحمد تيمور باشا يفوته من حياتها قسط وافر. لأنه ولد قبل وفاة والده بسنة 1871 يوم كانت عائشة في الحادية والثلاثين، تعيش زوجة وأماً في منزلها بعيداً عن دار والدها. لذلك رغم كل ما نقلناه عن أحمد باشا من الاستعداد لتلبية السائل، فإنك لتراه أحيان يتوقف عن الجواب ريثما يراجع تذكاراته، ثم يقول ببسمة الأسف: والله ما أعرفش).
بيد أني فزت منه بهذا الوصف الظريف في إبهامه (كانت لا طويلة ولا قصيرة، لا بيضاء ولا سمراء، لا سمينة ولا نحيفة)، (انتهى حديث مي زيادة)، فكيف يمكن بعد هذا أن نتأكد مما يذكره الأستاذ أنيس المقدسي في كتابه من المعرفة الجيدة التي كانت بين الشاعرة عائشة التيمورية والكاتبة مي زيادة؟ .. إن في هذا بطبيعة الحال إخلالا واضحاً وقاسياً ومؤلماً بأبسط شروط البحث الأدبي السليم، لأنه وعلى مدى السنوات الماضية قرأ القراء كتاب (الفنون الأدبية وأعلامها في النهضة العربية الحديثة) ودرسه الطلاب في مختلف الجامعات، وتناوله الباحثون في الكثير جداً من المناسبات والإعدادات لشتى الكتابات، من مثل المحاضرات والدراسات والأعمال الأدبية، والذي يؤلم أكثر حقاً هو تتالي الطبعات دون أن ينتبه الأستاذ المؤلف، أو ينبهه أي أحد إلى خطأ هذه المعلومات، مما يدفع بالنفس للأسف جداً خصوصاً إذا ما كانت هناك أخطاء أخرى، ومع تأكدي لحسن النية ورود مثل هذا الخطأ إلا أنني لا أخلي الأستاذ المؤلف المقدسي من المسؤولية، فعندما نعد بحثاً، تعلمنا أموراً بسيطة لا تدفع بنا إلى التوهان في مسالك الخطأ وارتكاب الخطأ، وهذه الأمور تتلخص في جمع المعلومات ثم التأكد جيداً عند جمع المعلومات، ثم مراجعة ما نكتب من معلومات اخترنا، لتكون دليل الجميع في البحث المقدم للقراءة سواء كان مطبوعاً أو مذاعاً.
الملاحظة الأخرى تخص كتاباً آخر هو (أدب المرأة العربية) الصادر عن مطبعة الرسالة ضمن سلسلة موسوعة الأدب العربي المعاصر، إذ يورد الكاتب أنور الجندي عند كتابته عن سلمى صايغ، وفي صفحة 105 بالتحديد، هذه العبارة، (وقد أصدرت ابنتها أميلي فارس إبراهيم، كتاباً عن (سلمى صايغ) بعنوان آهة من بلادي – بيروت 1954)، وهذه الملاحظة غير صحيحة، خاصة إذا ما تصفحنا كتاباً متخصصاً يروي (تاريخ تطور الحركة النسائية في لبنان وارتباطها بالعالم العربي) من 1800 إلى 1985 لمؤلفته د.حنيفة الخطيب، والذي نشرته دار الحداثة في سنة 1984، فإننا عندها سنجد في الصفحة 86، وفي القسم الخاص بالكاتبة الأديبة سلمى صايغ، وفي الهامش ملاحظات توضح أن ابنتها هي عائدة لبكي، وأنها في مقابلة شخصية معها قد بينت تاريخ ميلاد الكاتبة الصحيح، والمقابلة قد تمت في 10/10 / 1974، وقد تكررت هذه الاشارة على كون عائدة لبكي ابنة سلمى صايغ مرات ثلاث في نفس الصفحة، ويرد كذلك اسم إملي فارس إبراهيم في نفس الصفحة ولكن لتوضيح الكتب التي استقت منها الدكتورة حنيفة الخطيب معلوماتها الخاصة بهذه الكاتبة، وهما كتاب (أديبات لبنانيات) الذي نشرته مطبعة سميا، وكتاب (الحركة النسائية اللبنانية) الصادر عن دار الريحاني للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى. وفي صفحتي 88 و89 ، ومن بحث للسيدة عائدة لبكي عن الأديبة سلمى صايغ نقرأ (أنا شخصياً لا أريد أن يحصر نشاط أمي في الحقل النسائي فحسب فالمرأة التي كتبت: (أعطوني وطناً وإلا أموت). والمرأة التي قالت: (لا تقوم الأوطان إلا على أكتاف الرجال وقلوب النساء). والمرأة التي كتبت: (إن المنهاج الحالي للتعليم لا يتفق وأمانينا الوطنية، فهو كثير المواد ثقيل على الطلبة وهو لا يجبر أولادنا على تعلم لغتهم الوطنية … هذا المنهاج يقضي على اللغة العربية قضاءه المبرم … ففي البلاد اليوم عدد من الشبان والشابات يجهلون لغتهم، هم فئة غريبة يعيشون بيننا ولا يحسون بحسَ الأمة، ولا يقرأون صحافتها ولا يعرفون شيئاً من آمالها القومية. تريد أن تكون اللغة العربية إجبارية لكل طالب لبناني، وطالبت بتقرير التعليم الإجباري للصبيان والبنات). فالمرأة التي دعت إلى بعث الصناعة الوطنية، والتي قالت: (كلوا وطني! والبسوا وطني! المال دعامة الاستقلال). هذه المرأة هل عملت للقضية النسائية فحسب! لا بربكم لا تحصروا نشاط أمي بهذا الإطار الضيق).
هذا ما تقوله السيدة عائدة لبكي عن أمها الأديبة سلمى صايغ، وهذه الملاحظات إنما نوردها لتوكيد الحقيقة التي كنا خلصنا إليها، وهي أن الكاتب يجب أن يستوفي جميع أدواته ليخرج إلينا إنتاجاً جيداً، والانتاج الجيد هو الإنتاج الصادق والذي ورد من عين واضحة وصادقة، ولا يكون هذا إلا بالإصرار على مراجعة نصوصنا التي نستخدمها والتي سيعتمد عليها الآخرون عند النقل عنا أو اعتمادهم على ما نقلناه نحن في سابق عمل.
وهنا لا يفوتني الخوض في معلومة خاطئة أخرى في كتاب الأستاذ أنور الجندي (أدب المرأة العربية) حيث يذكر في الصفحة الثامنة هذه العبارة، (غير أن كتابات باحثة البادية كان لها طابعها النسوي الواضح، في معالجة قضية المرأة ومشاكل الأسرة والبيت على نحو متحفظ صادق الجرأة في مهاجمة أخطاء الرجال والإيمان بمكان المرأة في البيت، وقد غلب عليها الاتجاه الصحفي منذ 1925 حيث أخذت تنشر فصولاً مترادفة في الأهرام -شبه أسبوعية- تتناول فيها عديداً من المسائل العامة حتى توقفت عام 1935 بعد اضطراب أعصابها)، وقد يكون قصد بالعبارة الأخيرة الكاتبة مي زيادة، على أنه هنا قد لا تنفع مع من لا يعرف المعلومات الواضحة، وليست لديه المعلومات الكاملة عن الشخصيات التي يكتب عنها الكاتب، فالخلط والتشوش وعدم التركيز، والعجلة كلها واضحة في هذا الكتاب (أدب المرأة العربية)، إذ من المعلوم أن باحثة البادية ملك حفني ناصف قد توفيت في القاهرة في عام1918، وهو ما يذكره كتاب الأعمال الكاملة، لمي زيادة في بحثها المعنون بباحثة البادية، دراسة نقدية، وبالتحديد في صفحة19، كما بان واضحاً طغيان شعور المؤلف في كتاباته عن بعض هذه الشخصيات، من مثل جميلة العلايلي، ومي زيادة، حيث يقول عن الأولى في صفحة9 (وإنا لنعجب أن تظل جميلة العلايلي – الآن أكثر من عشر سنوات – وهي بعيدة عن الأضواء، وكان حرياً أن تكتب في أمهات الصحف العربية وتتصدر مكانها كأستاذة ورائدة. وإن كانت كتاباتها في مجلتها (الأهداف) خلال هذه الفترة تشبع رغبتها وإن لم تقدمها على نطاق واسع). ويقول في الصفحة الثامنة (وجميلة العلايلي أصدق الكاتبات إحساساً بالمشاعر الأنثوية بعد (مي)، بل لعلها أصدق من (مي)، فهي لم توجه قلمها أي اتجاه وعبرت عن مشاعرها عن طريق الشعر ثم عن طريق القصة).
ويقول في صفحة9، عن نفس الكاتبة إنها (تمتاز عن (مي) أنها حافظت على فكرها من الاتجاه الموجه إلى هدف من أهداف الصحف في فترة صراع المذاهب والنزعات التغريبية ومحاولة تغليب الثقافة الغربية)». وهذا كله غير ما يتوزع في نفس الكتاب من عبارات تدفع بالقارئ للتساؤل، مع أن الدراسة وهي خاصة بأدب المرأة العربية كان من الممكن أن تكون أكثر نضجاً، وأكثر عمقاً، ونرجو أن يكون المؤلف قد اختط لنفسه مسيرة أخرى أكثر وعياً وثباتاً.
وهكذا يتضح لنا أن المؤلف لعمل أدبي قيم، يجب مع الاحترام الشديد أن يكون متمكناً فعلاً من أدواته التي يتناول بها هذا العمل، وأن تكتمل لديه كافة المعلومات الواضحة والمؤكدة التي يعتمد عليها، وهذا لن يتأتى إلا بالبحث الجاد، والتنقيب الجاد، بعيداً عن كل ما يدفع بنا إلى ارتكاب ما أسميه عن قناعة بالجريمة في حق الابداع والمبدعين.
الناشر العربي | رقم العدد: 11، 1 يناير 1988م.