مملكة الحيوان بأقلام عربية وليبية (1)
أحمد عمران بن سليم
قرأت منذ أيام خلت (في المنارة) نصّا قصصيّا للأستاذ سعيد العريبي عنوانه (قد يرقص الجمل.. إذا غنـّى الحمار)، وأودّ في البداية أن أسجّل استمتاعي بهذا العمل، فقد حقق عندي واحداً من أهم أهداف العمل الإبداعي، لأن الإمتاع الفني محرّك قويّ لإثارة التفاعل مع النصّ، ومن ثمّ لاختراق مكنوناته التي تتكشّف بدرجات متفاوتة للمتلقّين.. ولا أريد أن أعرض في هذه المقاربة لتحليل الرّمز ودواعيه.. أو الخوض في تقنيات السّرد، وإنما أريد نقل صدى من أصداء هذا النّص وتداعياته.
فقد زارني في مكتبي بالجامعة الإسلاميّة العالميّة في ماليزيا – حيث أعمل – بعضُ زملائي من أساتذة قسم اللّغة العربيّة، وكنت حينها أتصفّح (المنارة) فأطلعتهم على نصّ الأستاذ (سعيد العريبي) من باب التّباهي بالحركة الثقافيّة والأدبيّة في بلادي.. غير أنّ هذا قد فتح بابا من النّقاش والجدل، أطرفُ ما فيه توقّفهم عند جزء من الحوار أجراه الكاتب بالدّارجة، كقول الرّاوي على لسان الجمل : (بالله عليك شن دخل الموت والعار والجبن) و (زنت في راسي.. كيف ما زنت في راسك) و على لسان الحمار: (شن دخلك.. زنت في راسي..) و (واو.. والله ما نحسابك جبان يا اجموله..).
فرصدت فهم كلّ منهم لهذا الحوار ، وكانوا فريقين: عرب، وغير عرب، فأمّا غير العرب فلم يفهموا من الحوار شيئا، وأما الأساتذة العرب فقد تكهّنوا بمعان أسعفتهم بها لهجاتهم الدّارجة، بعدت عن الصّواب عند بعضهم وقاربته عن بعضهم الآخر. ثم اتّسعت دائرة الحوار والجدل حتى وصلت إلى الّلّغة الفصيحة وهدم الدّارجة لها، وتشعّب الحديث فوصل إلى الحداثة والحداثيّين.. وأهداف السّاعين إلى تقويض الأمّة الإسلاميّة عبر تقويض أهم أسٍّ تـُبنى عليه وهو لغة القرآن الحكيم.
وبعد انصراف الزّائرين خلوت إلى نفسي ـ والنّفس أمّارة بالسّوء أحيانا ـ فقلت : لو أنّي تجاذبت أطراف هذا الحديث مع زملائي في جامعتي الأم (قاريونس) أكان الحوار يتمّ باللّغة الفصيحة كما حدث هنا.. ؟ (*) أم ستغشاه اللّهجة الدّارجة.. ؟ وربما لن يثير حديثُ اللّهجة الدّارجة ما أثاره هنا من استنكار، وفي أحسن حالاته من استفسار !!
وسرعان ما طردت هذا الهاجس الفطير، لأنتقل إلى هاجسٍ آخر وهو التّساؤل عما أضافه حوار الدّارجة إلى السّرد في هذا النّص.. ؟
وهذا بدوره يُحيل على تساؤل آخر، وهو : هل عجزت العربيّة الفصيحة عن أداء مقصود الكاتب.. ؟ أم هل عجز الكاتب عن شحن مفرداته بما يريد إيصاله للمتلقّي.. ؟ !!!
وهنا يمكنني أن أجيب بأن كلّ ذلك لم يكن..؛ فاللّغة العربيّة الفصيحة غنيـّة بجذورها المليونيّة الّتي يقصر باعنا عن الإحاطة بها، أما الكاتب فلغته ثرّة ينهل فيها من مخزون وافر يُبعد عنه شائبة القصور، وسنابل قلمه تشهد بذلك.. وتنفي عنه أن يكون ممّن يجارون الرّياح وإن اشتدّ عصفها..!
فما الدّاعي إذا لأن يلجأ الكاتب إلى إجراء الحوار بالدّارجة في نصّ يحمل بعداً رمزياّ يتطلب نوعاً خاصّا من المتلقين.. ؟!
أحسب أن التّفسير الأقرب هو أن الأستاذ (سعيدا) يكتب إبداعه وقد استغرقه المحيط المحلّي، وربّما جرّه مكنون الرّمز إلى ارتياد اللّهجة الدّارجة حتى يعطي قارئه بعض المفاتيح التي تؤذن بالولوج إلى غاية النصّ.
وأيّا كان الأمر فإن الكتابة مهمّة شاقّة ومسؤوليّة عظيمة، على الكاتبين إدراك أثرها سلبا أو إيجابا.. وكم اتُّخِذت اللّهجاتُ الدّارجة سلاحـاً يُشهر في وجه الفصيحـة، وأداة لتمرير غايات خبيـثة، وما حديث (لويـس عـوض) و (سعيد عقل) وأضرابهما عنّـا ببعيد.
وعلى الرّغم من أن بعض النّقاد يعلّلون قبولهم لإقحام الدّارجة في النّصوص الأدبيّة، بأنّها تؤدّي ما لا تؤدّيه اللّغة الفصيحة من دلالات اكتسبت خصوصيّتها من حياة المجتمع اليوميّة، فإنّي أرى أنّ هذا باب يتقحمه المغرضون من ذوي (الأيديولوجيات) البعيدة عن مجتمعنا المسلم ممّن يجاهرون ـ أو لا يجاهرون ـ بأهدافهم، فضلا عن مثلبة حصر جزء من النّص في لهجة محليّة قد يُشكِل فهمُها حتى على أبناء القطر الواحد.
في ختام تداعيات هذا الحوار أسأل الله تعالى أن يزيد الأستاذ (سعيدا العريبي) ألقاً كي يمتعنا بأدبه الرائق، وأن ينزّه قلمه عن الشّبهات.
(*) ــــ اللغة العربية في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا لغة رسمية مع اللغة الإنجليزية ولا يسمح بغيرهما إداريا.. والعادة أن يدور الحديث بين الناطقين بالعربية باللغة الفصيحة.