طيوب عالمية

بلد العميان.. the country of the blind

من أعمال الفنان محمد الشريف.

ــ 1 ــ

بلد العميان.. the country of the blind، قصة للكاتب الانجليزي / هربرت جورج ويلز، ” 1866م ــ 1946م. فرغتُ من قراءتها مترجمة قبل أيام، انطوى النص على دلالات ومعانٍ، قريبة وبعيدة، ومع هذه وتلك متعة عشتها كقارئ وإعجابٌ بما تمحورت عليه القصة، ما يوفر الحافز للقراءة والتمعن في دلالتها المتنوعة، رأيت رغم توفرها على الصفحات الإلكترونية، وتناولها من أكثر من منظور، أن ألخصها للقارئ، مؤملا أن تروق له إذا ما وفقت.

 القصة تمحورت حول أسطورة تقول: إن مجموعة من الفارين من الظلم، حُوصروا إثر تقلبات جوية عنيفة مفاجئة تسببت في انهيارات ثلجية كبيرة، في وادٍ يقع في جبال الانديز، تحف به جبال شاهقة، يصعبُ تسلقها، ومن ثم التفكير في اجتيازها.. عاش هؤلاء الناس معزولين، بشكل تام ونهائي، وانقطعت أخبارهم والأحاديث عنهم، وما عاد يوجد من يذكرهم، وتحول ما جرى لهم، إلى أسطورة تُروى وتتناقلها الألسن، وتتدبرها العقول. الأيام تتعاقب و تمضي، و هم يعيشون واقعهم الجديد محاصرين بين جنبات ذاك الوادي، في الأثناء، حدث لهم ما لم يستطيعوا حياله شيئا، إذ   أخذت قوة الإبصار لديهم   جميعا كبارا و صغارا تتراجع، شيئا فشيئا حتى اختفت و تلاشت تماماً، تم هذا ببطء شديد، حتى بدا و كأنه أمر طبيعي، فلم ينزعجوا له، و عاشوا في ظلام دامس، ليس بينهم مبصراً واحداً، و مع كرِّ الأيام ما كان بالنسبة لهم دامسا،  تكيفوا مع واقعهم الجديد و بشكل كامل ،  حتى بلغوا مرحلة   اليقين  بأن  ما عدا هذه الحياة التي يعيشونها  خطأ و باطل ، و ظهر بينهم عباقرة ، و نجباء ، و كبار و مشايخ يفقهون أسرار الحياة  ، مثلوا مرجعاً لهم . وأوضحت القصة باقتدار كيف صاغوا أساليب عيشهم، وبلغوا عبر الأجيال مرحلة عيش لا تشوبها شائبة، لا شعور بالنقص، ولا هناك مرحلة عليهم السعي من أجل بلوغها، غير تطوير ما يعيشونه وتنميته والمحافظة عليه، والوقوف في وجه من يحاول أو يسعى إلى إفساده..  بالنسبة لهم ما عاد هناك شمس أو قمر، تلاشت السماء واختفت البحار، طمست الجبال وجُهلت الألوان، ما عاد هناك أصفر أو أحمر أو أبيض، باختصار تلاشى ما يعتمد في إدراكه واستيعابه البصر …. وحلت حواس اللمس والشم والسمع …  كل شيء خضع في إدراكه واستيعابه لهذه الحواس، من إيقاد نار التدفئة، والطبخ، إلى اشتعال نار الحب وخفقان القلوب، من بناء البيوت ورصف الطرق، إلى إقامة الأرصفة، من طلاء الجدران وتزيينها..

ــ 2 ــ

من حياكة الملابس إلى توفير جميع حاجات البيت، من الزراعة إلى رعي حيوان اللاما وهو الحيوان الوحيد عندهم، كل شيء، كل شيء.. عاشوا هذه الحياة بكل أبعادها.  جميع أحاسيسهم سالبة وموجبة تخضع لقدراتهم ونشاطهم وهمتهم، وهكذا …  لم يرون في غياب البصر وفقدانه، عجزاً يُحملونَه.. إخفاقاتهم، فإذا كان هناك من لوم … يوجه إلى ذواتهم وليس إلى سوء حظهم …  مضت حياتهم هكذا سعداء قانعين مجتهدين للرقي بها وتحسين مستوى عيشهم … ثم حدث ذات يوم أن وقع أحد أعضاء فريق هواة تسلق الجبال، كان يمر بالقرب من ذاك الوادي، وتدحرج من منحدرٍ إلى منحدر، حتى وصل مغمى عليه إلى مكان غير بعيد عن بلد العميان، عند ما استرد وعيه، أبصر أولئك القوم، تعجب لهذا الذي أبصره.. صعد على ربوة.. وقف مواجهاً لهم لا أحد اهتم به.. بعد أن تأملهم طويلا، لوح لهم.. لكن لا استجابة تأتي منهم، تأكد له أنهم عميان، أطلق صرخات حادة، توقف منهم من سمع صراخه ومال بإذنيه صوب مكان الصرخة، اقترب منهم، رأى أنهم حسّوا بوجوده، ورأى أيضا محاجر عيونهم مغلقة وغائرة، تحدث معهم، لم يستسيغوا حديثه وما جاء به عن الإبصار، تذكر المثل القائل: ” العور في بلاد العميان ملكاً ” لكنه لم يصبح ملكا.. قبضوا عليه قدموه لكبارهم وأطبائهم.. أخذوا يتحسسونه بأناملهم، وصلوا إلى عينيه، أدركوا أنه لا شيء فيه شاذ، سوى هذا العضو البارز بجفنيه الرَّافين، وإنه إنسان بدائي متوحش يعود إلى العصور القديمة، واضطر في النهاية أن يرضخ لهم وعاش معهم وبدأ يستأنس بهم، وحدث أن أحب إحدى بناتهم وأحبته هي الأخرى، واطمأن أحدهم للأخر، وحس بحاجته إليه، تقدم لخطبتها، رفض الأب والأخ.. كيف يقبلون بكائن متخلف أن يقترن بابنتهم، وأمام إصرارها، وإلحاحه، وبعد مشورة حكمائهم، كان أن ربطوا القبول به زوجاً، بقبوله الخضوع لإجراء عملية تخلصه من البروز الشاذ في وجهه “يقصدون عينية” فهي في نظرهم سبب ضلالاته وتخلفه وإتلاف مخه.. توسلت إليه حبيبته أن يقبل ليصبح مثلهم، ومن ثم يفوز كلٌ منهما بالأخر …  وهكذا رضخ الحبيب لمطلب حبيبته، وحُدّد موعد إجراء العملية.. ليتخلص من سبب تخلفه وبدائيته ويصبح مثلهم، طارت حبيبته من الفرح وتأكدتْ من حبه لها …  في اليوم السابق لأجراء العملية كان يتجول بمفرده في الأنحاء، تطلع إلى السماء رأى كم هي ساحرة، التفت إلى الجبال المغطاة بالثلوج، تطلع إلى الأشجار.. بهاء ما بعده بهاء..  إبداع ما بعده إبداع، أدرك أنه لا يستطيع أن يعيش بدون بصره.. بدون ما ولد به.. لم يطول به التفكير قرر الهروب.. وهرب لينجوا ببصره. انتهت القصة. بعد هذا وقد دون الكاتب هربرت جورج ويلز، عام 1904م قصته هذه “بلد العميان”

ــ 3 ــ         

وهي من أشهر قصصه، وأودع بها فكرته، يأتي دور القارئ ليستخلص ما يراه ومع هذا   سيضل في النهاية رهين الفكرة يدور في فلكها. لعل أبرز ما جاءت به القصة، واللافت بقوة وتمحورها حوله، ما كان من عيش هؤلاء دونما إحساس بنقيصة أو عجز.. تصالحوا مع الظلمة مع العمى تكيفوا وكيفوا حياتهم معه، مضوا يعيشون حياة لها خصوصيتها رأوا أنها كريمة وطيبة، أو هم توهمهم هذا فانبروا يحافظون عليها ويحمون حياضها، كانوا على استعداد أن يموتون من اجلها.. اقتنعوا أن ما عدا حياتهم هذه باطل وخطأ.. وحتى حين جاءهم الأمل وما يمكن أن يكون سبباً في خروجهم من الظلمات إلى النور.. أبوا إلا أن يستمروا فيما وقر في أذهانهم عن عيشهم الطيب والأمثل.. رافضين أن يتزحزحوا عما هم فيه قيد أنملة كما يقولون … فهرب الضوء وتراجع أمام الظلمة، بعد أن وصفوه بالبدائية والتخلف والتوحش، ويمكن أن نستبين من النص ــ إلى جانب أي إسقاط أخر قد يراه القارئ ــ مدى قدرة البعض من بني البشر على إبداع حياة وسبل عيش، وكيفما كانت، وإقناع أنفسهم بأنها الأفضل كما كان الحال مع أهل بلد العميان، ويستشف من القصة أيضا أن الركون إلى التخلف والعيش فيه أمد طويل يُنتج ومع كرّ الأيام ضلالات وأوهامٍ التخلص منها لا يكون إلا بثمن باهظٍ باهظٍ …

8/2/2022م / طرابلس.

مقالات ذات علاقة

ماريو يوسا يعتزل الأدب

المشرف العام

بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة 2019

المشرف العام

فيلم “متاهة بان”.. التفاعل الدرامي بين الأسطورة والواقع

المشرف العام

اترك تعليق