حين وصلني كتابان من كتب الكاتبة الجزائرية رحيل بن دحمان بعد أن اعتذرت عن قراءة نسخ الكترونية شعرت بالراحة أن أقرأ لكاتبة جزائرية لم تكن معروفة بالنسبة لي سابقا، وأن أخرج من خيمة العمالقة الذين قرأت لهم منذ سبعينات القرن الماضي لفضاء كتاب جدد، وإن استغربت أن الإهداء كان موقعا ممن أرسل الكتب من الأردن د. ابراهيم ملكاوي مع عبارة “وكيل أعمال الكاتبة رحيل العلي بن دحمان” وقد اعتدت أن تصلني كتب موقعة بكلمة “نيابة عن..”، والرواية صادرة عن دار مرسال الحديثة في الأردن في 295 صفحة من القطع المتوسط للعام الماضي 2021م وتحمل رقم إيداع المكتبة الوطنية الأردنية، والغلاف لوحة تشكيلية جميلة للفنانة التشكيلية خالدة حاتم تميل فيها للسريالية، وبدعم للرواية من رابطة مجموعات محمود درويش، وما لفت نظري أيضا أن الرواية تحمل اسمين للكاتبة هما رحيل بن دحمان ويتصدر الغلاف، وإسم نعيمة بن دحمان وموقع تحت الإهداء التقليدي للأم والأب والطفلات، باستثناء عبارة ضمن الاهداء تلفت النظر بقولها: “أهديك نوريّتي عملي هذا أينما كنت.. هل اسمك نورية أم نوال أم ماريا”.
الرواية تروي تبدأ بحديث نورية المحامية عن نفسها وكسبها قضية مهمة وتذكر جامعتها في العاصمة حيث تشجع ابنتها للتسجيل فيه، وتذكرها من خلال أوراقها التي ترجع إليها صديقة الجامعة منال التي باعدت بينهم الأمكنة والسنوات، فتقرر أن ترسل لها رسالة خطية عبر البريد على أمل ان تصلها ولا يكون عنوانها قد تغير، فتتفاجأ بوصول الجواب مع عتاب، فتبدأ الرواية من خلال هذه الرسائل التي تحمل بوح واعترافات من منال والتي تعاني من سرطان الثدي في مراحله الأخيرة وشعورها أن حياتها تقارب على الانتهاء ونراها فاقدة الأمل بالغد، فتعترف برسائلها بحبها للشاعر جواد الذي احبته وأحبها ولكنه غادر تاركا لها عنوانه وهاتفه في دمشق “ص20” وكل رسائله لها كان قصائد شعر يقول لها انها الهمته اياها إلا ما ندر بينما لم يرد مطلقا على اتصالاتها الهاتفية، بينما في “ص 25” تقول انها استلمت منه رسالة وحيدة من رام الله في فلسطين وهذه اول إشارة لجنسية الشاعر، وهي تراسله على عنوانه في دمشق ورسائله تصلها من أنحاء العالم، والغريب أن منال تؤكد أنها عاشت قصة حب معه بدون أمل فهو قد غادر بعد أن تعارفا، لكنها لاحقا تقول أن اهلها رفضوا مجرد اللقاء به ليطلبها للزواج تحت حجة أنه مشرقي ووطنه يستوطنه اليهود ولا تربطه بهم سوى العروبة، فمتى اتفقت معه على الزواج وهي لم تلتقيه سوى لقاءين قصيرين “ص 82″؟ فيزوجوها لرجل ذي كبرياء يهملها ويضربها ولا يمنحها الحنان الكافي، وفي ص 96 تستخدم على لسان جواد عبارة “تقبريني بنت عمي” وترد عليه “تقبرني ابن عمي” وهذه عبارة تستخدمها نساء الشام التقليديات وخاصة في المسلسلات ولا يستخدمها الفلسطينيون حتى من ولدوا وعاشوا بالشام.
نلاحظ أن الرواية قسمت الى قسمين فكانت الراوية منال برسائلها من ص 14 حتى ص 117 بحيث كان هذا الجزء محصورا بالرسائل من منال إلى نورية باستثناء ملاحظات عابرة او عبارات في مطلع كل رسالة من نورية، تحدثت فيها منال عبر رسائلها عن معاناة جنوب الجزائر رغم جماله وكرم أهله، فالطب كمثال متخلف ومتروك بين ايادي أطباء جدد، كما اشارت في أكثر من موقع انها أمازيغية الأب عربية الأم وإن لم تتعلم لغة الأميزاغ فوالدها كان يقول في ص 52: “نحن أمازيغ عربنا الاسلام” فخلق ذلك شرخا في داخلها بين العروبة والانشداد لأمازيغنيتها التي لا تعرف حتى ان تفهم لغتها أو تتكلمها بينما تجيد الفرنسية، وتشير لزواج اختها مجبرة لتقاليد المرابطين في الجنوب الجزائري الذين لا يمكن أن يزوجوا أحد ليس منهم، ويبقى حبها لجواد سرها ورسائله في خزانتها حتى تكتشفها ابنتها فتتهمها بخيانة ابيها وتقاطعها رغم مرضها، ولكنها تبقى تعيش بالخيال وتكتب بروايتها الرابعة التي لن تنشرها كما التي سبقها، وتتحدث عن ذكرياتها وطفولتها وأمها وبعض الشخصيات الأخرى.
القسم الثاني من ص 119 كان على لسان نورية التي قررت أخيرا أن تزور منال بعد غياب منذ انتهاء الدراسة بالجامعة ومرور الأعوام وعقدين من الزمن إن لم يكن أكثر، وهذا أيضا ملفت للنظر فما الذي يجعلها حريصة على زيارة منال ومراسلتها بعد هذا الانقطاع الطويل؟ وفي هذاالقسم من الرواية تبدأ الرواية تأخذ طابعا روائيا نوعا ما وليس سردا استذكاريا كما القسم الأول، فهنا يكون بعض من الحوار بين الصديقتين ويصبح هناك شخوص فاعلة في الرواية وكل لها دورها، فتعيش نورية هذه الأيام مع صديقتها التي تستعد للرحيل الى العالم الآخر وهي تسعى جهدها أن يكون لأواخر أيامها طعم خاص، فأخذتها في رحلة لمدينة كويكول الرومانية حيث تعبت ودخلت المشفى عدة أيام وتعايشت مع المريضات قبل أن تعودا الى بلدة منال ويقضيان ليلة في مقام الولي في المقبرة، وبعدها تغادر نورية عائدة لأسرتها مودعة صديقتها وحاملة معها كل رسائل جواد.
حين نتعامل مع فن الرواية لا بد أن نشير أنه يتكون من وحدة الفكرة واللغة والأسلوب وتقنياته والسرد والحوار بمستوياته، إضافة إلى المكان والزمان والشخوص الرئيسة والثانوية والصراع، مع ضرورة الاهتمام بالحبكة الروائية وصولا إلى الذروة فالنهاية والحل، مع التركيز على العلاقة بين الكاتب والمتلقي، والبناء الروائي العربي اعتمد أيضا نفس المفهوم التقليدي للرواية الغربية، فالروائي هو من يرسم الفكرة والحدث ويخلق الشخوص ويضع لكل منهم دوره في الرواية وتفاعلها مع الأحداث حتى الوصول لنهاية الرواية سواء كانت نهاية مفتوحة أو مغلقة، وحين نناقش رواية “أنام لأحلم” نجد أن الروائية ابتعدت كثيرا عن مفهوم الرواية وقواعدها، فهنا في الجزء الأول منها والذي زاد عن ثلث المساحة في الرواية كان عبارة عن رسائل من منال الى نورية، وهذا يدخلها في أدب المراسلات ويبعدها عن فن الرواية، والغريب اللجوء الى المراسلات الورقية رغم أن هذا النمط من المراسلات اندثر تقريبا في عهد الثورة الرقمية وتوفر الحواسيب وأجهزة “الفاكس” وأجهزة الاتصالات الخلوية، علما ان بدء العلاقة بين جواد ومنال كانت وسائل الاتصال متوفرة، فالأسهل التواصل من خلالها وليس من خلال المراسلات البريدية، فمنذ عام 1998م والانترنت متوفر في فلسطين رغم انها تحت الاحتلال فكيف بالبلاد الأخرى؟ ومن خلال المراسلات نجد الحديث العابر عن وبال الربيع العربي في سوريا حيث أصيب جواد برصاصة قناص وعن اتفاقية اوسلوا ونتائجها مما يشير أن الزمن حديث.
الفكرة كلها قامت على معاناة مرضى سرطان الثدي من خلال إصابة منال فيه فتمكنت الكاتبة من التركيز على ذلك وإن كان التكرار في الحديث والوصف أكثر من اللازم، فكان هناك وحدة بالفكرة رغم الخروج بالسرد عن المستوى الروائي، فالرواية من حيث الشخوص اعتمدت على منال ونورية وزكية شقيقة منال في الجزء الأخير من الرواية، وما عدا ذلك فكل الشخوص باستثناء والد منال كانت بعض من حديث الذاكرة للطفولة لمنال وزوجة عمها المنحرفة جنسيا التي تحاول اغتصابها وعن آدم المصاب بإعاقة وزواجه، وشخصيات أخرى كما الأستاذ كان الحديث عنها بعض من الحكايات التي كان يمكن اختصارها فلا تأثير لها على الأحداث إن غابت، كما افتقدت الرواية للصراع فيها باستثناء صراع منال مع المرض، والحوار كان محدود في الجزء الثاني من الرواية وبقيت الحكايات المتذكرة تحكم غالبية السرد.
نلاحظ أن المكان ومسرح الرواية الرئيس كان منطقة أهل منال في الجنوب الجزائري الجميل والمهمل، واشارات عابرة لسكن نورية في العاصمة وسكن جواد في دمشق، ومساحة محدودة منحتها للمدينة الرومانية، والكتاب افتقد الحبكة الروائية فقد اعتمد على سرد حكايات ووصف الآم منال والحديث عن قصة حبها لجواد، مع تداخل لأساطير وحكايات خيالية مثل باخوس وحوريات الصفصاف وكرامات الولي المدفون بالقرية اضافة لافتقاد الرواية للذروة للوصول بعدها للحلول أو النهاية، فهي كانت بمعظمها حكايات واستذكار شخوص على شكل حكايات.
لا يمكن أن نعطي الرواية صفة سياسية من خلال الحب بين جواد الفلسطيني ومنال الجزائرية، فالاشارات عابرة تجاه فلسطين، ولو لم يكن جواد فلسطينيا لما أثر ذلك على مجريات الكتاب والحكاية، والجانب الاجتماعي كان ضعيف بها من خلال اشارات عابرة كما الاشارة للأستاذ ولانحراف زوجة العم وتقاليد الزواج لدى الأمازيغ، فكانت الرواية عبارة عن حكايات مغرقة بالسرد كان يمكن تكثيفها واختصارها بأقل من النصف، وبذلك ومن خلال هذه الحكايات نجد أن الرواية افتقدت صفة الموضوعية أيضا رغم متعة السرد والأسلوب لولا الإغراق بالسرد والتذكر.
من حق الكاتب أن يختار أسلوبه الفني الخاص به على أن لا يخرج عن تقديم عمل فني مقنع للقارئ ويكون له مكانته في تصنيف الكتاب، وهنا كانت الكاتبة بحاجة لتقديم رواية تقوم على أسس الرواية ولا تشذ عنها كثيرا رغم موهبة الكاتبة وامتلاكها الخيال اللازم للكاتب، لكن بتقديري لو قامت الكاتبة بمراجعة الرواية قبل صدورها من حيث الاسلوب والتسلسل والسرد لكانت هناك رواية مختلفة وجميلة أكثر، فالأحداث من أهم مكونات السرد في الرواية كي يتم توصيلها للمتلقي، لكن هنا كانت هناك مشكلة في التعامل مع الاحداث التي ركزت على حب واهم ومرض في نهاياته وذروته، ففقدت الأحداث الروائية تماسكها وارتباطها في الزمان والمكان مما أضعف دور الشخصيات الرئيسة وجعلها تتداخل، وأفقد الشخصيات الثانوية دورها فتحولت إلى حكايات لن يؤثر غيابها بشيء على الرواية لو غابت، وجعلت السؤال يدور في ذهني حول المنطق الذي يتحكم بأحداث الرواية والإرتباط بينها وبين الزمان والمكان، فافتقدت الرواية للبناء “الدرامي” كما اختلط الهدف في مجريات الأحداث، فكتابة رواية فنية تتطلب دراسة دقيقة لكل حدث سيكون فيها وكل مكان وكل شخصية حتى يتم خلق المسرح والشخوص والفكرة والذروة والحلول في النهايات للهدف الذي اتجهت له الرواية منذ البداية فالرواية ليست مجرد حكايات وانثيال كلمات حتى لو كانت ممتعة، وفعليا تمتعت بقراءة الكتاب وجمالية اللغة والأسلوب الحكائي، لكن لا بد من الاشارة إلى نهاية الرواية التي لم تكن أكثر من حلم ورغبة، وقرار منال أن تنفصل عن زوجها وتشجيع الابناء لهذا القرار!! علما انها لم تشر الى موقف ابنتها التي قاطعتها منذ رأت رسائل جواد واتهمت أمها بالخيانة من موضوع الإنفصال، ومن في ظروف منال واقترابها من النهاية تكون بحاجة إلى الرعاية وليس ما بدأته من مشروع انساني غير متناسب مع الواقع ومع ظروفها، فزمن المعجزات انتهى ونحن نعيش الأحداث والواقع وليس السماح، وتبقى الرواية بنيان يتم الاعداد له بأسس متينة حتى لا ينهار فنحن ننام لنرتاح وليس لنحلم، ويبقى المهم هو ماذا بعد الحلم؟ .
“جيوس 4/2/2022”