كنت ألتقي تلك السيدة دائمًا عندما أذهب للتسوّق في (السوبر ماركت) القريب من بيتنا، وأحيانًا كثيرة أراها تنتظر في محطّة الحافلة، وعندما أجدها هناك أعود أدراجي إلى البيت في أحايين كثيرة، إذ أشعر أنّ وجهها ينمّ عن حقد ونظرات شرسة.
بدت لي في منتصف الأربعين، ولها بشرة بيضاء قد أخفاها النمش من كثرته وشعر أصفر أشعث، يتقدّمها كلبان أسودان تحاول التحكّم بهما بطوق وسلاسل طويلة، وكان شكلها مع كلبيْها يثيرون فيّ الرّعب، وغالبًا ما أتحاشى أن أتواجد في مكان يضمّني معهم، فقد كنت أخاف نظراتها وصوتها الأجش وهي تنهر كلبيْها عندما يقتربان منّي، وأجفل بدوري مبتعدةً حيث أصبح لدي تصور أنّها ذات ميول عنصريّة، وأنّها تكره الأجانب، ودائمًا ما أخبر زوجي عنها، وأننا لابدّ أن نغيّر مكان سكننا؛ لأنّني كرهت المكان بسببها، واخترت لها اسم النازيّة فهي ترتدي دائماً ملابس تشبه الملابس العسكرية، ولها قامة طويلة عريضة كجنود هتلر.
ذلك اليوم ذهبت في زيارة لإحدى صديقاتي، وعند عودتي كنت سأنتظر الحافلة، فلم يكن هناك سوى حافلة واحدة بعد السّادسة مساءً؛ للصّعود إلى منطقتنا في أعلى الجبل. بدأ الظلام يزحف والوقت خريف وهدوء، ولا يُسمع سوى حفيف الشجر وصوت بعض السيارات المتقطّع، وبَانَ لي شاب يبدو في العشرين من عمره، ويضع قبّعةً صوفيّة سوداء، ويستمع إلى شيء ما بحركات راقصة متشنّجة، ويضرب الأرض عنيفًا بكلتا قدميه، اعتقدت أنّه ينتظر حافلةً أخرى؛ لكنّه ركب معي في الحافلة نفسها، وانطلقت بنا نحو الجبل…
كان بين المحطة وبيتي مسافة عشر دقائق مشيًا، وعندما نزلت وأنا في كامل أناقتي؛ وقف تاركًا مكانه في آخر الحافلة ونزل مسرعًا خلفي.. الشّارع
بدا هادئًا جدًّا وصوت حذائي ذو الكعب العالي يخرق أذني.. احتضنت
حقيبتي وبدأت أسرع وقلبي يكاد يقفز من صدري، فشرع يقترب منّي أكثر وينقّ بأصوات البوم يريد إخافتي، عندها ندمت على رفضي قبول دعوة زوجي عندما هاتفني ليعود بي.
وللحظة، فكّرت أن أخلع حذائي وأنطلق ركضًا.. فلو توقّفت ربّما سينقضّ عليّ، ثمّ دار في خلدي أن أستدير وأرمي له حقيبتي وكل ما معي؛ ولكن قد لا يريد سرقتي وله هدف آخر، أو يكون معتوهًا ساقه القدر لي في هذا الوقت.
وعندما شعرت بيده تحطّ على كتفي؛ كنت قد اقتربت من البيت وبدأت أصرخ، وزاد صراخي عندما رأيتها قادمة مع كلبيْها… ترى هل ستتركني فريسةً لهذا المعتوه، وتتلذّذ بمشاهدتي وأنا في هذا الوضع؟ لكنّها دفعت بكلبيْها نحوه، وفي لمح البصر اختفى بين الأشجار. وأتت جريًا ثمّ أخذتني بين ذراعيها، ومن دون وعي منّي دخلت في نوبة من البكاء، وأنا أدفن وجهي في صدرها.. قالت لي وهي تحاول تهدئتي: “أنتِ محظوظة فهذا موعد خروجي من البيت لآخذ سيجارتي” ولأوّل مرّة أرى جمال ابتسامتها وهي تنظر إليّ بكل حنان، وقد اختفت تلك القسوة التي كنت أراها على وجهها.
أخذتني إلى البيت وقالت لي:
– غدًا سنذهب معًا إلى مركز الشرطة لنشتكي. شعرت بالخجل من مشاعري والصّورة التي كوّنتها عنها، وعندما عاد زوجي أخبرته بما حدث وأن النازية هي من أنقذتني؛ فعلّق قائلًا:
– إذًا لم يعد هناك داعٍ لنغيّر مكان إقامتنا…!
2 تعليقات
سلسة بشكل لافت .. الاحداث تشدك بتتابعها .. اللغة معبرة عن الحدث بشكل متقن .. هناك عمق في المعنى الذي هو في متناول الجميع هل يمكنني وصف قصة بأنها طفلة ؟ لا ادري .الطفلة كل ما تراه هو في حوزتها ولها .
نشكر مرورك الكريم أستاذنا…