مشى مسافة إلى خارج القرية حتى توارت عنه كل البيوت ولم يبقى سوى مئذنة الجامع وخزان المياه العالي حين وقف وأدار لفتة، ثم زاد وتعدى كل النخيل وخلَف وراءه كل الحقول وتوارى رأس المئذنة والخزان العالي وما عاد يظهر شيء، ومشى أكثر حتى وصل ربوة تُشرف على قوس الأفق البعيد والذي ظنه يحيط بكل ليبيا، واستقام على طوله، ورفع يديه وشكلهما على شكل بوق، ووضعهما أمام فمه ونادى بأعلى صوته في البوق يا ليبيااااااااا، فارتد صدى صوته من الأفق ليقول له ” أسكت ولا تناديني مرة أخرى فأنا لا أحبك وأكرهك كما كرهتُ الذي قبلك”. صمت، وصدى الصوت الذي يقول كلاماً آخر يمضي في المدى البعيد خلفه وعلى يمينه وعلى شماله حين ظلت أمواجه تتردد لوقت اطول من العادة كما لو أن مَن أرسلها تعمد أن يُبقيها لمدة أطول، في حين بقيَّ هو ينصت لآخر تلك الموجات البعيدة. لم يتصور قبلها أن هناك وراء الأفق مَن يجلس ويمكنه تغيير وإرسال أصداء أخرى، ولا تصور مطلقاً أن من حق أي كان أن يأخذ الكلام ويستبدل صداه بصدى آخر، فهو لطالما خرج من القرية ومشى مسافة ووقف على ربوته ونادى بصوت خافت في زمن مضى حتى لا يسمعه أحد، ومع ذلك كان الأفق يعيد له صداه خافتاً ولم يحدث مرة أن بدلَ منه شيئاً، لذلك لم يقبل هذا الارتداد الذي وصله من وراء دور الجبال البعيد، ووقف حائراً بعد أن عاود ونادى في بوق يديه ثلاثة مرات متتالية، ليتأكد من سماع الصوت الراجع الذي كان يأتيه، وإن كان هذا الصوت هو صوته أم هو صوت رجل آخر يقوم بعملية تزوير من وراء الجبال، لكن في كل هذه المرات الثلاثة ما كان يأتيه سوى صوته هو دون غيره، وإن كان لابد من وجود أحد وراء الجبال يقوم بعملية ما فهو يقوم بعملية حذف النداء برمته وإرسال كلام آخر مكانه.
وقف لدقائق صامتاً يتابع آخر موجات الصدى الذي يعيد كلاماً آخر، وشعر وهو يدور ويعطي ظهره الربوة ويعود إلى بيتهم أن كل شيء قد تغير، وقال في نفسه أنه ما كان للأفق الذي كان يجاوبه قبل سنوات قليلة ويعيد له نداءه خافتاً لكنه كاملاً وملوناً بألوان وردية كتلك التي يحلم أن يراها يوماً تلون الخريطة، أن يتدخل اليوم ويرسل كلاماً آخر غير متوقع على الإطلاق لو لم يكن كل شيء قد تغير. وفي الطريق غرق في تفكير بعيد وصل به إلى مطارح لم يصلها تفكيره من قبل، حتى أنه لم ينتبه للفلاحين الذين مر بهم، ولم ينتبه عند باب بيته حتى إلى أطفاله الذين يلعبون تحت ظل شجرة كانت تقف عند الباب.
فكرة الخروج والنداء على الربوة لم تخطر عليه في الصباح، بل في الليل أخبر زوجته قبل أن ينام أنه يفكر في العودة وزيارة ربوته التي لم يزرها منذ فترة، وأخبرها أنه سوف يعيد سُنته القديمة وينادي من فوقها يا ليبيااااااا، ذلك أن في إحياء السُنن الحميدة يتكرر دائماً ميلاد أشياء حميدة، لكنه ما إن نادى هذه المرة وعاد له نداءه بصدى آخر من وراء الجبال حتى شعر كما لو أن شيئاً جوهرياً تبدل في السُنة وبدل معه جوهر النداء، أو أن شيئاً جوهرياً تبدل في النداء وبدل معه جوهر السُنة.
في تلك الليلة وهو يُطلع زوجته على فكرة العودة وزيارة والوقوف فوق الربوة، نصحته زوجته أن لا يفعل، وحين حاول أن يُبرر لها ويُخبرها عن حنينه للربوة أعطته ظهرها ونامت عنه، وحين سمع أنفاس نومها تعالت على الوسادة سكت وتمدد هو الآخر وسحب عليه غطاءه ونام، وفي اللحظة التي طفق يتسلل له النوم رأى نفسه كما لو أنه يقف على الربوة وينادي يا ليبيا لكن صدى صوته ارتد من الأفق ليقول له “أسكت” (وكلاماً آخر) وفي الصباح تذكر كما لو أنه رأى حلماً لم تتبين معالمه، لكنه ما وقف على الربوة وأسكته الأفق بهذه الطريقة حتى تذكر كل منامه.
وحين عاد إلى بيته ودخل ودخل خلفه أطفاله مشدهوين من منظر والدهم الذي بدى شاحباً كما لو ان نجمة قد وقعت عليه خارج القرية، وجد زوجته في المطبخ، وقبل أن ينطق لها بكلمة، وقبل أن تُدير وجهها له، وقبل أن يتقدم من باب المطبخ حتى قالت له أسكت ولا تناديني مرة أخرى فأنا لا أحبك وأكرهك كما كرهتُ الذي قبلك.
_______________
شر بموقع ليبيا المستقبل