المقالة

من كواليس عمر المختار

نقلاً عن ذاكرة الطفل حافظ علي بكار 1979

فاطمة علي البركي

الفنان أنطوني كوين في دور شيخ الشهداء عمر المخنار (الصورة: عن الشبكة)
الفنان أنطوني كوين في دور شيخ الشهداء عمر المخنار (الصورة: عن الشبكة)

كنت أنتظر بشغف طرقات جدتي زهرة علي باب بيتنا، كنت جاهزاً لرحلتي اليومية معها، كان ذلك في 1979، حيث كنّا نسكن بحي الخنساء بمدينة البيضاء.

كانت أمي تحرص على أن أكون جاهزاً في الموعد، جدتي ذات الخمس والستون عاماً، كانت تلبس الجرد، وتمسك بيدي ونبدأ المشي حتي نصل لمدرسة الخنساء، حيث يصطف الأطفال، أطفال من عامة الشعب من مدينتي البيضاء وضواحيها ولا أعرف إن كان هناك أطفال من مدن أخرى. نصعد الباصات بكل حماس انفعال، كنا في قمة السعادة، وكان ذلك مصدر بهجة ومتعة لا توصف.

كانت عطلة، ولكننا كنا في مهمة أخري غير الدراسة، ما إن نصل يقدمون لنا وجبة الإفطار وهي كيس يحتوي على قطعة زبدة ومربي وتفاحة وبيضة مسلوقة وقطعة خبز. بعد الانتهاء من وجبة الإفطار يأخذون ملابسنا والتي كان يشترط أن تكون ملابس محلية، ويمرغونها في التراب، لنلبسها من جديد، ويبدأ العمل، حيث يجب علينا أن نستمع لتوجيهات رجل أسمر اللون حتي نتحرك وننفذ مشاهد معينة، إلي أن يحين موعد الغذاء، وكانت وجبات محلية فاخرة، أتذكر الكسكسي باللحم في طبق معدني به تجويفات، كل تجويف يحتوي صنفا ما، بين السلطة والطبيخة واللحم والكسكسي أو الأرز، وأيضا توضع برتقالة، وأسمع صياح ذات الرجل اسمر اللون: من يريد المزيد.

بعد وجبة الغذاء نرجع لإكمال عملنا، بملابسنا المهترئة.

في نهاية اليوم، تعطى لنا مكافآت مجزية، تتراوح بين الدينارين إلي الأربعة، كانت تستلمها جدتي وتعطيها لي، وكنت عندما أرجع أسلمها لأمي، بالرغم من المكافأة المجزية، لكن اتساخ ملابسي بشكل يومي، كان يرهق أمي في الغسل بالإضافة إلي استحمامي.

أنام نوما عميقاً، حتى أنهض مبكراً وأنتظر طرقات جدتي علي الباب، أمسك يدها ونبدأ رحلتنا سوية، وكثيراً ما كنت أسبقها لركوب الباص، وكانت تعنفني.

في ذلك المكان حيث نصل، كنت أراقب كل شيء، الكثير من الأطفال والجدّات بذات الهيئة، الجميع يرتدي اللباس المحلي، ويتم وضعه في التراب حتى يظهر بمظهر القديم والمهترئ.

ذات يوم حدث تغيير في نظام العمل، لم يأخذوا ملابسنا، بل أعطونا ملابس مهترئة وتركوا ملابسنا نظيفة، نستلم الملابس المهترئة من شاحنات بهن فتيات إيطاليات، يسلمننا كيسا به رقم وأيضا اسم كل طفل منا، حيث أننا في نهاية اليوم نستلم ملابسنا النظيفة ونسلم الملابس المهترئة وهكذا. هذا الشيء أسعد أمي، التي كانت تعاني صعوبة تنظيف ملابسي المتسخة بشكل يومي.

كنت أصعد الباص، أمسك بيد جدتي ونعود لبيوتنا، ويأتي يوم آخر وأعمل ذات الشيء، في يوم كنت استرق النظر لذلك العجوز الذي تلتف حوله كاميرات التصوير، كان يحب أن يلعب معنا، ويمسك السلاحف حيث كانت تنتشر في المكان، منطقة الفائديه واشنيشن، كان يحبها أيضا، لن أنسي ابتسامته الجميلة لي حين يلاحظ أني أنظر إليه.  

نعم! كنا من عامة الناس، وكان لي مشهد تمثيلي مع امرأه غير جدتي، ورجل يمتطي حصانا أبيضاً، عندما طلبوا مني ان اقف بجانب المرأة، وعندما أرى الرجل قادماً على حصانه، وهم عائدون من الجهاد إلى القبيله أركض إليه وأحتضنه، كان يبدو عملا سهلاً.

كنت أقف متفرجاً علي الكثير من المشاهد، وكان هناك شخص يوجه الجميع، هو لا يتكلم معانا، بل يتكلم إلي الرجل الأسمر، والرجل الأسمر يقوم بتوجيهنا. وكان هناك شخص آخر يعلمنا نشيد:

أقدح يا زناد الثورة

وزيد في قلوبنا عناد والعزم حديد

والموت ما يطفي كفاحنا

محال يفني جيل وراه أجيال

وكنا نردده بحماس خلف هذا الرجل، رغم أننا كنا نخطيء أحيانا في لفظ بعض كلماته

ولكنه، كان مصمما على أن نقوله جميعا وفي ذات الوقت.

كنت أحيانا أقف مرتعبا من بعض المشاهد، فهم يستخدمون سلاحا حقيقيا، حيث الرصاص يخترق الجدران. أحد المشاهد كان قاسيا جدا، عندما صرخ رجلا قائلا: جوكم الطليان.

حيث قاموا بتخبئة رجل مصاب في رجله، عندما جاء الطليان أخذوا كل السلع رموها في الساحة وأضرموا النار فيها، ووجدوا الرجل المصاب وأخرجوه، وعندما رأه قائدهم مصابا برصاصة، أخرج مسدسه ليقتله فجاء أبوه وطلب منه أن يمهله وقتا ليصلي، فأمسك الإيطالي بلحية العجوز مستهزءا به، غضب العجوز ودفع الإيطالي فقام الإيطالي بضربه علي وجهه فوقع مغميا عليه، وقتلَ الرجل المصاب برصاصة في صدره، فهجمت أخته تصرخ وتبكي، فأخذوها سبيةـ وأحرقوا كل شيء ورحلوا، كان الخوف يسيطر علينا آنذاك، فهي أحداث قاسية جدا. رغم قسوتها، لكننا تعودنا على مشاهدتها، لأنها تكررت، ولكن الموقف الاكثر رعباً.  

حيث يجب أن نصطف في جموع كبيرة ونشهد شنق ذاك الرجل العجوز، كنت أغمض عيناي حتى لا أشاهد ذلك. كان ذلك مرعبا جدا، حيث أنني لأول مرة في حياتي أشاهد مثل ذلك المنظر، والأكثر رعباً، أنه تم تكراره، إذ أنه في كل مرة تولول وتصرخ العجائز (يا نعلي يا بوي). ومن جديد يحضر الرجل الأسمر ينبههن لعدم فعل ذلك. ولكنهن دون إرادة كن يصرخن، وكان ذلك سببا في تكرار المشهد.

كنت أردد أنا وكل الأولاد، كلمات النشيد بعد شنق العجوز:

أقدح يا زناد الثورة

وزيد في قلوبنا عناد والعزم حديد

والموت ما يطفي كفاحنا محال يفني جيل وراه أجيال.

مرت الايام وانتهي هذا العمل، ووجدتهم يعرضونه علي شاشات التلفزيون، كان ذلك عملا ضخما، به حروب وصراعات لم أشاهدها وقتها، ربما لم يحتاجوا إلينا في تلك المشاهد وأيضا مشهد ذلك العجوز الذي يعلم الأطفال، كنت حزينا لأنني لم أكن من ضمن الأطفال الذين تم اختيارهم في هذا المشهد، ولكنني لم أهتم كثيرا وقتها سوى بما حصلت عليه من مال.

بعد سنين طويلة، أدركت أنى كنت مشاركا بعمل سينمائي يمثل سيرة حياة البطل الأهم في القرن العشرين.

ذلك العجوز هو بطل الفيلم، وهو الممثل الشهير “أنطوني كوين”، رغم شهرته الكبيرة آنذاك إلا انه كان متواضعا جدا، والرجل الأسمر كان الأستاذ “علي أحمد سالم”، والرجل الذي علمنا النشيد هو الأستاذ “محمد نجم”، والرجل الذي كان يقود كل ذلك هو العبقري “مصطفي العقاد”، وكان الفيلم الكبير (أسد الصحراء – عمر المختار).

كنت أسعد بالدينارين، ولكن الآن سعادتي لا توصف، حتى وإن كانت مشاهد قليلة وسط جموع لا تظهر فيها ملامحي بشكل جلي، لكني كنت هناك، وشهدت أحداثا قد يتمني الكثيرين مشاهدتها عن قرب، ومشاهدة عمالقة يصنعون عملا يعد الأضخم وقتها.

الذكريات السعيدة تطفئ ذلك الشوق المتقد، وتحملك لأوقات تتمني من كل قلبك أن تعود من جديد، طفلا ترافق جدتك، وتنسجان ذكريات من خيوط الحب.

رحم الله جدتي، وأطال الله في عمر أمي.

مقالات ذات علاقة

لن أكون مثلكم…

غازي القبلاوي

غنّوا لنا.. وغنّى لهم قراءة في بعض أعمال الفنان أحمد فكرون

زياد العيساوي

فماذا تمطر سماء طرابلس؟

قيس خالد

اترك تعليق