المقالة

الأعرابي المجهول

الأديب خليفة التليسي.
الأديب خليفة التليسي. | الصورة: عن الشبكة.

شاركنا صديقنا علي يونس منشورا لشاب مصري يعلق فيه على اشتعال مواقع التواصل في مصر بالنكات و”الميمز” والإسقاطات السياسية التي تبدأ بعبارة “مر أعرابي”، وظهور استغراب عام مفاجئ من “مرور الأعرابي الدائم” في كتب التراث.

ذكرني هذا بموضوع محاضرة للأستاذ خليفة التليسي في الثمانينيات كان قد أهداني تسجيلا لها على شريط كاسيت الأخ الأكبر والصديق الفاضل الأستاذ محمد عموش.

لقد راقب – إن جاز هذا التعبير – التليسي شخصية الأعرابي المجهول خلال رحلته الطويلة مع النص الأدبي العربي، فتنبه إلى أنها على بروزها وسيطرتها على الروح العربية لم تلق من العناية ما ينبغي أن يكون لها، وانتهى إلى رأيه الذي كانت خلاصته أن شخصية الأعرابي المجهول هي أنموذج اخترعه الوجدان العربي ليقول من خلاله أشياء لم يستطع أن يقولها مباشرة، لاسيما موقفه من الحاكم ومن العقيدة، معتمدا في ذلك على ما ينسب إلى الأعراب من رقة في الدين ورد ذكرها في القرآن.

ويرى التليسي أن الأعرابي المجهول – تمييزا له من الأعرابي المعروف باسمه ونسبته – هو الذي مثل جوهر الشخصية العربية تمثيلا حقيقيا.

فالتليسي يستغرب من تعريفات كلمة “أعرابي”؛ تلك التي غالى أصحابها في الفصل بين العرب والأعراب حتى كادوا أن يجعلوهما قوميتين مختلفتين لا فئتين اجتماعيتين، ولاسيما الزبيدي صاحب تاج العروس.

وبعد هذه المحاضرة بسنوات سوف يصدر التليسي قاموسه “النفيس” الذي اختصر فيه تاج العروس.

كما استغرب التليسي دفاع ساطع الحصري عن العرب إزاء هجوم ابن خلدون عليهم بفصلهم عن الأعراب، وأكد أن جوهر “الروحية” العربية – حسب وصفه – أعرابي، وأن خير ما عند العرب من شعر وحكم وأقوال أعرابي، وأصدر حكمه الخطير بأن الرصيد الأدبي الذي خلفه سكان الأمصار لا يمثل شيئا كثيرا إذا ما قورن برصيد البادية.

يدعو التليسي إلى تتبع مصادر الثقافة العربية، ويستدل على ماسبق بالأصمعي والجاحظ وأبي حيان التوحيدي، ويجزم بأن هذه التراث المنسوب إلى الأعراب كان قاعدة أساسية في تكوين رصيدهم اللغوي وأساليبهم، بل وتكوين وجدانهم وشعورهم نحو أمتهم.

ذلك بعد أن يتساءل عن معنى أن ينفق الأصمعي – وهو من هو بحسب تعبير التليسي – حياته في الرحيل بالبادية يجمع اللغة وأقوال العرب، ومعنى أن يؤسس الجاحظ – وهو من هو – كتاب الحيوان على شعر الأعراب، ومعنى اصطياد التوحيدي – وهو من هو – لأقوالهم وعباراتهم واستشهاده بها وإثباتها وعدم الوقوف منها موقف اللامبالاة، خصوصا في كتابه البصائر والذخائر.

ويستدل التليسي كذلك بالحركة الشعوبية فيقول إنها إنما هاجمت العرب في أعرابيتهم، وهو ما يثبت أنها الخصيصة المميزة لهم، ويورد مثالا لذلك قصيدة [دع الأطلال] لأبي نواس.

ويبلغ التليسي ذروة تجليه حين يقول إن موقف المتنبي القومي الذي يرى البعض أنه حسم ببيته:

وإنما الناس بالملوك ولا * تفلح عُرب ملوكها عجمُ.

ينبغي البحث عنه في قصيدته [مِن الجآذر في زي الأعاريب] التي يصف فيها المرأة الأعرابية فيقول مثلا:

أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها

مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

ويقف وقفة حميمية عند بيت من قصيدته نفسها هو:

ومِن هوى كل من ليست مُموهةً

 تركتُ لون مشيبي غير مخضوب.

ويقول إن تعبير المتنبي عن هوى المرأة التي ليست مموهة، أو كما نقول اليوم ذات الجمال الطبيعي، وصلِته بترك لون شعره دون تغيير، ليس نزوة عابرة، وإنما هو لحظة اكتشاف لجوهر الشخصية العربية، و“أعرابية” هذه الشخصية.

لسنا بصدد مناقشة نصيب هذا الآراء من مطابقة الحقيقة، إلا أن هذه المحاضرة كانت كاشفة لجانب كبير الأهمية من فكر الأستاذ التليسي، جدير بالوقوف عنده عند التعامل مع آثاره.

مقالات ذات علاقة

اللغة العربية هي الفعل القرأني في المجتمع

المشرف العام

عثرات المطيع

محمد دربي

سُؤالُ السلامِ النسوي

فاطمة غندور

اترك تعليق