مثل الطفل الذي يعود في كل مرة لاحتضان رسمته التي أشادت بها المعلمة، وطلبت من زملائه أن يصفقوا له لأنه صنع شيئا جميلا، مثل الفتاة التي صنعت من خصلات شعرها سلسلة ناعمة تدلّت من جانب عنقها مسترسلة حتى منتصف قامتها فوقفت أمام المرآة وتأملت ما صنعته بكل إعجاب وحب، مثل قائد الطائرة الذي يتغلب على ظروف السماء ويهبط بهدوء صقر على أرض مطار قديم، يحدث هذا عندما يؤطر الشغف أعمالنا، يتساوى في هذا العامة والمشاهير، فالأم تحتفي بالطبق اللذيذ الذي تعده لأسرتها تماما كما تحتفي “ميريل ستريب” بالأوسكار.
لاعبو كرة القدم ليسوا استثناءً، فمن يملك شغف مطاردة الكرة على بساط أخضر أو حتى على مستطيل من تراب ويحوّل قدمه إلى مغناطيس يجذب الكرة تارة ويطلقها تارة أخرى بدهاء إلى حيث الهدف، لابد أن يحتفي بما يصنع، إنه أولى بهذا من أولئك الذين ينتظرون الفوز على المدرجات الباردة أو أمام الشاشات التي تكون محجا لكل العيون عندما يطلق الحكم صافرة البداية.
إن الذاكرة الجمعية لعشاق الكرة لا تنسى أبدا ما يصنعه النجوم، عندما يرسلون الكرة إلى شباك الخصم ويلحقون الصافرة التي تدشن هذا باحتفاء يليق بما أنجزوه، لكن بعض الصور ظلت أكثر التصاقا بالذاكرة من غيرها، خاصة في دورات كأس العالم المتلاحقة، ففي مونديال إيطاليا 1990 ظهرت الرقصة الشهيرة لنجم الكاميرون “روجيه ميلا” الذي شدّ انتباه العالم بطريقة احتفاله بأهدافه الأربعة التي سجلها في نهائيات المونديال، ما جعل الرقصة تضاهي لدى البعض طعم الهدف، ولعل المصور “باولو تكسيرا” لم يبالغ عندما قال في تصريح لشبكة “cnn” إن رقصة “ميلا” أمام راية الركنية صارت رمزا للفرح وللطاقة الإيجابية، وإن أهداف النجم الكاميروني وضعت كرة القدم الأفريقية على خارطة العالم وجعلت الملايين يتابعون الأجساد والأقدام السمراء في كل ملاعب العالم.
وفي رقصة أخرى لا تقل شهرة عن الأولى، إلا أنها هذه المرة بنكهة لاتينية في مونديال أميركا 1994، عندما احتفل النجم البرازيلي “بيبيتو” بأهدافه وأبوّته معا في الوقت ذاته، فكان بعد أن يرسل الكرة إلى مستقرها يتجه إلى خط الملعب ويبدأ في هدهدة طفله “ماتيو”، ليلحق به زميلاه روماريو ومازينهو، ويبدو أن مباركة النجوم الثلاثة لهذا الطفل منذ قدومه إلى العالم هي ما جعلت “ماتيو” اليوم لاعبا في “سبورتنغ لشبونة” البرتغالي.
وغير بعيد عن البرازيل، فإن من يتحدث عن كرة القدم لابد أن تتجلى أمامه القامة القصيرة الممتلئة للأسطورة “مارادونا”، فجالب كأس العالم 1986 إلى خزائن بوينس آيريس وصاحب مجد “نابولي” لعدة مواسم لم يكن احتفاؤه بأهدافه استثنائيا، حتى هدفه الذي منحه “الفيفا” لقب هدف القرن بعد أن سجله من مسافة 60 مترا وتجاوز ستة من لاعبي المنتخب الإنجليزي وقتها، وفي هدفه الثاني الشهير أيضا في المباراة نفسها الذي عرف بيد الإله، اكتفى مارادونا في كليهما بتقبيل قبضته وتوجيهها إلى المدرجات، والقفز مرارا مع الشد على القبضتين، حتى إن احتفاءه بهدف زميله “بورتشاغا” في مرمى ألمانيا الغربية كان أكبر، فبعد أن مرر له الكرة راقبه بهدوء وهو يضعها في الشباك ليجري بضع خطوات ثم يجثم على ركبتيه وعلامات الفرح ترتسم بجلاء على محيّاه.
إلى إيطاليا ونجمها الذي ظهر بهدوء وأفل بهدوء، لكنه لم يكف عن صنع الزوابع في كل الملاعب التي وطأتها قدماه، فرغم جمال أهداف النجم الوسيم “روبيرتو باجيو” إلا أن احتفاله بها لم يكن صاخبا، كان أقصى ما يقوم به الركض وإطلاق ركبتيه لتنزلق على العشب، أو أن يتيح لزملائه احتضان قامته القصيرة، أعطى “باجيو” الإيطاليين كل شيء، وكان ساحرا على الدوام، لكن كل ما صنعه تلاشى أو يكاد أمام وقفته اليائسة بعد إهداره ركلة الجزاء الشهيرة في نهائي مونديال أميركا 1994، ليشعل أزقة “ريودي جينيرو” فرحا ويسكب بحرا من الدموع في شوارع “روما”.
في أوروبا أيضا نجوم خلدتهم الملاعب، فقد رسموا على ذاكرة العشب مجدا لا يذبل، ففي بلغاريا سطع نجم الهداف “خريستو ستويتشكوف” الذي رغم نيله الحذاء الذهبي والكرة الذهبية إلا أن احتفاله بأهدافه لم يتجاوز الركض مع التلويح بقبضته في الهواء أو رفع سبابته أو بسط ذراعيه للاحتفال مع زملائه.
لا يختلف عنه الإسباني “راؤول” كثيرا
فهو أيضا يفرد ذراعيه كجناحين، يقبل يده اليسرى ثم يشير إلى أحدهم أو
إحداهن في المدرجات القريبة.
إلى البرازيل و”الظاهرة” اللقب الذي عُرف
به النجم “رونالدو”، أصغر لاعب يحصل على جائزة “فيفا” لأحسن لاعب في
العالم عام 1996، ولم يكن عمره يومها تجاوز العشرين، عدا الألقاب التي كلل
بها تاريخه في آيندهوفن وفي برشلونة وفي إنتر ميلان وفي ريال مدريد، رغم أن
الحظ سلط عليه الإصابة لتلازمه طويلا، لكنها لم تطفئ جذوة الإبداع في ساقي
وقدمي هذا النجم الكبير، تتوه قدماه في مداعبة الكرة حتى يختلط الأمر على
عيوننا، ولا نستعيد التركيز إلا والكرة في الشباك ورونالدو يركض شاهرا
سبابته وكأنه يقول أنا واحدٌ أحد، وإياكم أن تنسوا هذه المتعة التي أقدمها
لكم.
وإلى نجمَي العالم اليوم، واحتفائهما بما يصنعان، أما البرغوث الأرجنتيني “ليونيل ميسي” فلا يحتفل، هو يترك هذه المهمة لعشاقه من أقصى الأرض إلى أقصاها، إنه يسجل فقط، ينام ملء جفونه عن شوارد مراوغاته وأهدافه ويسهر الخلق جرّاها ويختصم.
أما الدون البرتغالي “كريستيانو رونالدو” فيجيد صناعة المتعة هو الآخر، إنه يعرف ذلك حدّ فتح ذراعيه على اتساعهما فيما يشبه تحية الفنان الذي انتهى لتوه من تقديم عرض بالغ الروعة، أو كأنه يقول أنا هنا أدكّ مرماكم بضرباتي التي لا تصد ولا ترد، فأروني ما أنتم فاعلون.
هذه هي كرة القدم، فهي عالم من البهجة والمتعة، تخلد الفاشل أحيانا ولا تتجاهل الفنان الذي يجيد مغازلة الكرة، تنصف من ظلمته الظروف، لكنها أيضا قد تظلم المجتهد الذي يتعثر مرة واحدة فقط لتكون “غلطة الشاطر”، لن تكف الملاعب عن إنجاب الحكايات، وكما يلمع نجم ترعاه “أديداس” قد يمسك آخر بزمام الحلم من ثقب جوربه القديم.