بدعوة كريمة من صديقي الفنان الموسيقي رضا ادريس القايد قمت في عام 2012 بعد أكثر من أربعين عاما بزيارة إلى جبل نفوسه. زيارتي الأولى للجبل الأ شم كانت في صيف عام 1968 لحضور دورة في اللغة الانجليزية بمدينة جادو تحت اشراف وزارة التربية والتعليم بالتعاون مع بعثة السلام الأمريكية استمرت طيلة شهور الصيف وجمعتني بطلاب من كل معاهد المعلمين في ليبيا.
استقلينا سيارة رضا ذات ضحى ربيعي وأنطلقنا باتجاه العزيزية قاصدين مدينة يفرن مرفوقين بما توفر لدى رضا من أشرطة موسيقية عالية الجودة ومفعمة كدفء صحبتنا وأحاديثنا وشمس ذلك النهار وصحوه. كان رضا يقود السيارة بدون تعجل وبمزاج من يود الاستمتاع بجمال الطبيعة من حولنا والاسترخاء خاصة وان حركة مرور السيارات على الطريق المعبد كانت خفيفة ولا تستدعي حذراً.
في نقطة ما من الطريق أطل عليّ نفوسه بقامته المهيبة شامخا كإله أسطوري، مهيباً وباعثاً على الدهشة والخوف في آن معا. أحسست بنبضات قلبي في صدري تتسارع من شدة الاستثارة وأنا أتهياً متشوقاً لصعود جبل كان عبر التاريخ حصناً حمى كل من لجأ إليه سعياً لأمن من خوف أو من جوع، وأمام قسوة صخوره وأحجاره و صعوبة مسالكه وشدة مراس أهله توقفت خيول الغزاة حائرة وعاجزة. سلسلة أطلس الجبالية العظيمة التي تبدأ من أقصى المغرب ضامة في صدرها الجزائر وتونس تتوقف في نفوسه بعد عناء رحلة طويلة لتستريح ولتستنعم بتألق التين والزيتون، وفواح الزعتر والاكليل.
شعرت لدى دخولنا سالمين هانئين إلى يفرن،وكأن المدينة كانت في انتظارنا. أو بمعنى آخر شعرت وكأن الأرواح السرّية التي تحرس نفوسه منذ آلاف السنين كانت في حالة من نشوة مفرحة ذلك اليوم. نشوةٌ تحسها كزائر تتخلل مسامات روحك وشغاف قلبك على جرعات. نشوةٌ لا أعرف مصدرها اومبعثها ولا قدرة لي على التكهن بهما ولكني استشعرتها وأحسستها من خلال ما تدفق في استثارة روحي من صفاء ، وما تسلل إلى قلبي من أمان جعلني أسلم قيادي طواعية إلى شوارع ومسالك ودروب وأبنية وجوامع ومعابد وصلوات وابتهالات وأدعية وزغاريد ودقات طبول ودندنات مزامير وتاريخ كجرح عميق وغائر في الزمن بتفاصيل مؤلمة لمدينة عتيقة أحبها وأزورها للمرة الأولى بعد عقود أربعة وما زلتُ غير قادر على اجادة بلاغة لسانها.
كانت زيارة ممتعة استمرت لصباح اليوم التالي وتوجت بلقائي وتعرّفي على أحمد والياس نجليّ صديقي الكاتب الصحفي الشهيد محمد سليمان القايد احد ضحايا مجزرة سجن ابوسليم عام 1996 .
في طريق عودتنا إلى طرابلس توقفنا قليلا لدى بائع أواني فخار على الطريق وكان البائع شاباً لا يتجاوز السادسة عشر من عمره ودار بيني وبينه حديث وأذكر أني سألته عما أستجد من تطورات في نزاع مسلح نشب مؤخراً في احدى مناطق مدنة غريان بين تشكيلين مسلحين ورد الشاب على سؤالي قائلاً: ” صَبّت وسَحّتْ” وابتسم.
الأحداث الدامية الأخيرة في طرابلس التي استمرت قرابة شهر وسببت الكثير من الآلم والمعاناة لمدينة منهكة ومتعبة ومنهوبة ومحكوم عليها بالأمل قد تستغرق وقتاً قبل ان يقرر الناس رميها في بحر نسيانهم. وحتى إن فعلوا لن يكون بامكانهم بعدها لسوء حظهم الادعاء كما قال ذلك الولد الجبلي بأنها ” صَبّتْ وسَحّتْ ” لأنهم يدركون تماما أن السلاح في أيدي خارجة عن نطاق سيطرة مركزية سيظل مهدداً لاستقرار كل البلاد وليس مدينتهم فقط، وأن قادة الميليشيات المسلحة “زي قفة جريوات اللي اتقيمه منها يطلع كلب” ولا يهمهم الا استمرار الوضع الراهن لأنه يضمن استمرار حلبهم لأموال البلاد بدون حق، وهم كما قال الشاعر الوطني المرحوم محمد الشلطامي لا يختلفون “عن الذئب الذي افترس قاطع الدرب ثم عاد ليفترس العابرين”.
_________________________________