أين ليبيا التي عرفت؟ (25)
محمد نجيب عبدالكافي
الأدب وأقلامه 1
ما كلّ ما يتمنّى المرء يُدركه ** تجري الرّياح بما لا تشتهي السُّفُن
وُلِعت منذ نعومة أظافري بالأدب. عشت وترعرعت وكبرت وعملت في بيئة وأجواء أدبية، وكان أملي أن أكون أديبا. عرفت وعاشرت وصادقت معظم الأدباء والشعراء بتونس، وغيرها، ليبيا خاصّة. كتبت القصّة ونظمت الشعر وألفت الأغاني فهبّت رياح القدر تغيّر السبيل. بقي الغرام والعشق، فواصلت في ليبيا التقرّب من حاملي القلم، فسعدت بصداقة الكثيرين منهم، فعرفت فيهم – أقولها بكلّ صدق وأمانة، إذ أكثرهم الآن في رحاب الله – العلم المتين، والمشاعر الفيّاضة، والإرادة الصادقة، في العمل لإعلاء ليبيا بالأدب الرفيع. ليس في وسعي الحديث عنهم جميعا، فلا إلمامي ولا ذاكرتي ولا المكان يمكّن من إعطائهم حقهم، فما هذه العجالة إذن، سوى تذكرة، لأن الذكرى تنفع المؤمنين، وسأكتفي بالتعرض لمن منهم عاشرت وصادقت أو جالست وتحاورت.
– مصطفى بعيّو: سأبدأ بأكبرهم، لا لضخامة جسمه ولا لعدد سنيّ عمره، بل لغزارة علمه وسعة أفق ثقافته. إنه الأستاذ حقّا، المعلّم بالمعنى العربي القديم، مؤسس أول جامعة ليبية بعد الاستقلال، المرحوم مصطفى بعيّو. عرفته فعرفت فيه النبل واللطف والمعارف المتعددة، وحب نقلها إلى الآخرين في هدوء وصبر وإخلاص. سأدع الأستاذ يستريح من ثرثرتي وأقفز إلى برقة كي أقول كلمة موجزة عن أديب آخر، عُرف عبر السياسة والنضال الوطني.
– صالح بويصير: عرفته في لقاء خاطف وهو متنكر في لباس امرأة فارا إلى تونس لأن نشاطه المعارض للسلطة ونقده عرّضاه لملاحقة سلطات الأمن التي قد تنتهي بالمحاكمة وتسليط العقاب فالنجاة أضمن. التقيته بعد ذلك بالقاهرة فالجزائر ثم في ألمانيا التي اسرع إليها ليلقاني ويلقى زوجة الشهيد صالح بن يوسف زعيم المعارضة التونسية، الذي اغتالته يد إرهاب الدولة بمدينة فرانكفورت، فجاء ليقدم التعازي والمساعدة إن دعت الحاجة. كانت مساعدة ثمينة تمثلت، ونحن ثلاثة واقفون على التابوت قبل إغلاقه، أنا والبشير القاضي – الذي أدار مكتب الثورة الجزائرية بطرابلس – وصالح بويصير الذي فاجأنا بإخراج مصحف صغير من جيبه، وتلا نصيبا من كلام الله على الفقيد، فكانت لي أكبر مساعدة. الغريب مع صالح مسعود بويصير هو أننا رغم انغماس كلانا حتى النخاع في متاهات النضال والمعارضة، لأوضاع لم نكن نستحسنها لأوطاننا، لم يدر قط بيننا، إذا اجتمعنا منفردين، أي حديث حول الحركات الوطنية، بل انكب دائما على الأدب والإنتاج الأدبي الهادف الذي امتازت به كتاباته التي نشرت هنا وهناك، وحبذا لو جمعها أحد من أهله في سفر واحد لقيمتها الأدبية والوطنية التاريخية.
– عبد الله القويري: أعود مغرّبا لأحتضن، ذهنيا، الكاتب الفيلسوف – كما أعتبره – المرحوم عبد الله القويري، رمز آخر من رموز العفة الفكرية، والمبادئ والمشاعر الإنسانية، والأحاسيس الوطنية والاجتماعية، يلمسها القارئ العارف في كلّ كلمة يكتبها، تنفجر، إذا قرأها عقل حصيف، بشتى المعاني والمقاصد الرامية إلى الإصلاح والتقدم.
قد تجدر، قبل الانصراف، وقفة مع لقب بعيّو فأحكي واقعا هو أقرب إلى الطرفة. عرفت اللقب وأنا طفل، كان يحمله شيخ اسمه الحاج عثمان بعيّو، الذي كان يزور جدّي من حين إلى حين، واستمرّ يزورنا بعد وفاة الجد، حتى عندما انتقلنا الى العاصمة وضاحية حمام الأنف حيث المسكن. زارنا هناك آخر مرة في الأربعينات، وأنا في عنفوان الشباب، فكانت خطاه ونحن نصعد الجبل قاصدين البيت أسرع من خطاي، علما بأنه آنذاك كان يكبرني ببضع سنوات – بعد طرح المائة – وزاد في تعجبي عندما توقف ونظر إلى المدينة المنبصتة بين الجبل والبحر وأشار بيده قائلا: أترى تلك الدار البيضاء قرب الشاطئ؟ قلت نعم. قال هي أول دار تبنى في هذه البلدة. ما شاء الله، سلامة بنية وثبات ذاكرة وقوة بصر. لا أزال أبحث عمن يعرف صاحب هذه الهبة الربّانية لأن تردّده على جدي لابد – حسب ظني – أنه كان من المجاهدين أو المناضلين بعد صمت السلاح.
يبدو أنني بلغت حدود الصفحة فلا أتعدّاها، فمن يتعدى حدود الصفحة فهم المخطئون أسال الله الحماية من كل خطأ وسوء.
بالذاكرة المزيد ولي عودة إن طال العمر…