المقالة

تناص مع صادق النيهوم

إلى ذكرى صديقي فتحي العريبي

الفنان فنحي العريبي، بريشة الفنان مصطفى عبدالرحمن
الفنان فنحي العريبي، بريشة الفنان مصطفى عبدالرحمن

الآن وأنا أتصفح النيهوم، أخرج فتحي العريبي صوته في ذاكرتي، كنت مع صديقي بشير السيد “طائر الأشواق” الموسيقار، كنا بالضبط على شاطئ ميناء القصرية الصغير جداً، رن الهاتف، فجاءني صوت العريبي:

ـ “خي نور، كيف حالك”، قلتُ له لا بأس، سعيد جداً لسماع صوتك أخي فتحي..

ـ يا نور تعرف إني أحبك، ومعجب بما تخط، استمر في هوامشك المفقودة، أريد منك خدمة، أرجوك سلم على صديقي فلان، قل له أنني حاولت الاتصال به، ورقمه خارج التغطية، ليبيانا غير جيدة في بنغازي، قلت له حاضر أيها المايسترو، أنت تأمر، قال لا يأمر عليك ظالم، وبدأ يدعوا لي، دعائه أثلج غليلي من كل شيء،

قال ـ أين أنت؟

قلت له ـ في سيارتي، على شاطئ القصرية، على بعد 1070 كيلو متر تقريباً من منزلك هناك، وضحكت، وضحك، وضحك بشير أيضاً، كان الماء على بعد متر واحد من السيارة، وكانت النوارس تعلو وتهبط، والقوارب الراسية تتمرجح بهدوء، قال إنه يريد أن يزورنا هنا، واتفق على اقامة معرض بأكاديمية الدراسات العليا جنزور، هذا آخر ما سمعته منه رحمه الله.

خرج فتحي إلى ذاكرتي إثر وصولي إلى هذه الكلمات من مقالة النيهوم:

ـ ((الصّحف العادية تتحدث عن النّاس العاديّين.

أعني عن معشر الإنس والأمم المتّحدة ومشاكل العالم المرئي..”

“في الصّباح الباكر أقرأ في صحف هلسنكي أنّ أحداً ما هبط فوق القمر وانطلق يتفرج على أرضنا من الخارج كما يتفرج أستاذ العلوم على قردة مسنة في حديقة الحيوان! وعند السّاعة العاشرة تصلني جريدة ليبية في البريد وأجد فيها ثمّة من يقول لي بالحبر الأحمر في الصّفحة الأولى “أيّها الأخ.. رد بالك من الغولة”.. بعد الظهر أقرأ في صحف المساء أن معهد أبحاث السرطان في مدينة ستوكهلم قد نجح في عزل خليّة المرض، وأن هذا النّجاح يهمّ النّاس جميعاً لأنّ السرطان بالذات هو العدو الوحيد لجميع النّاس، وفي بريد المساء تصلني صحيفة ليبية أخرى وأجد فيها ثمّة من يقول لي ناصحاً “احترس من الجن أعداء الإنسانية.. وامش على الرصيف”..

الكاتب الصادق النيهوم
الكاتب الصادق النيهوم (تصوير: فتحي العريبي).

طوال اللّيل أُصاب بالأرق.. أدخن ما أملكه من التبغ وأحرق ملاءة السرير وأحاول أن أعرف عمّا إذا كان الجن وحده هو عدو الإنسانية. عند الفجر أُصاب بالإرهاق وأعلن لنفسي في محاولة فاشلة لحلّ المشكلة أنّ الجن والسرطان معاً أعداء الإنسانيّة لكنّ أحداً لم يكشف هذا الثنائي الغير مرح حتى الآن لأن الليبيين يعرفون واحداً فقط وبقيّة العالم يعرف الآخر فقط أيضاً.. طوال النّهار التّالي أذرع المقاهي لكي أقنع النّاس بوجود الجن وأقنع الليبيين بوجود السرطان وأجمع الإنسانية في طبق واحد.. ليس ثمّة فائدة. لا أحد هنا يؤمن بوجود الجن.. لا أحد هناك يؤمن بوجود السرطان.. أنا أؤمن بهما معاً وأُصاب بالصّداع)). *

كان فتحي العريبي صديقاً مقرباً للنيهوم، وكنت أحسده، أنني لستُ من نفس الجيل، ولم أكن صديقاً للنيهوم مثله، وكنت أشاكسه، وكان مميزاً في ضحكه، قال لي العريبي ذات مرة، أن النيهوم إنسان طيب جداً وعفيف، ولعلي كنت أدرك أنه سيعقب بأن النيهوم لم تكن بعقله أية لوثة، كان عقله جميلاً جداً، فقط أنه مات بالسرطان فعلاً، بعد مقالته هذه بثلاثين عاماً..

الحقيقة لا أعلم بالضبط، كيف تراني سأصف شوارعنا في منتصف الستينيات، حين خرجت أنا إلى الوجود، أو في أوائل السبعينيات التي لم يتشكل وعيي الطفولي فيها بعد، ولكن أستطيع أن أميز عطر الناس، ومهابة كلمات المقالات الصحفية، ونظافة الشوارع رغم الفقر، ورائحة القهوة، ومذاق فيروز، والبيتلز، ولكنة أمهاتنا الطرابلسيات في مركز المدينة، وغنج الصبايا، وعطرهن هنا وفي بنغازي، ولا غرو أن مقالات النيهوم كانت تصل طازجة إلى الأكشاك، وكم كان محزناً أن والدي وأغلب مجايليه لم يكونوا قادرين على القراءة، رغم وعيهم بالحقيقة، وكان لكل شيء مذاق، وثمة نوع خاص من الحنين إلى الأشياء، وكان الجيران يقتربون من بعضهم، وفي لعب الأطفال رونق كنت أعرفه جيداً، ورغم حنق النيهوم من المظاهر الهادمة والمميتة كان ثمة ما يمكن أن يعول عليه، حقيقة ذات مرة قلت لصديقي فتحي، أن النيهوم لا يكتب لذلك الزمن في مجتمعنا، بل لما سيأتي..


ما بين الأقواس من مقالة (الحبل) فرســـان بـــلا معركــة، 23 أكتوبر 1971

مقالات ذات علاقة

هل نحن دولة ممكنة؟

سعد الأريل

سؤال في تنازلات الفكر

المشرف العام

تغليط الأبوِّية

نورالدين خليفة النمر

اترك تعليق