النقد

لماذا تبهرنا كتابات الفـاخري؟*

جزء- 2

 

التجـربة والأدوات الجـمالية

سنة 1974، بعد صدور كتابه (مواسم الحكايات)، نشرت بيوميات صحيفة (الجهاد) دراسة بعنوان (هوامش على مواسم الحكايات)، تناولت فيها أدوات “الفاخري” الجمالية، ومرة أخرى ما كنت لأجد حلقاتها لو لم يكن الأستاذ “سالم الكبتي” محتفظاً بنسخٍ منها.

قرا صديقي “خليفة” مرة أخرى هذه الدراسة ولقد ابتهجت كثيراً عندما قال إنني أراه بعيونه.. رأيت أن أستعير مقتطفات منها لإيضاح الأدوات الجمالية عنده، وأيضاً لترى كيف استثمر التجربة في نصوصه.

قلت في تلك الدراسة:

بعد صدور (مواسم الحكايات) بفترة كتب لي أحد أصدقائي يقول: من (فلورنسا) أكتب إليك مرة أخرى، هذه المرة معي رفيق جيد للغاية لا يمل سرد الحكايات الشائقة.. يقول هذا الرفيق: (ظللت أذرع طريقي طيلة سنين، وشعرت أخيراً بالإعياء والتعب، ثم قيل لي في النهاية إن المرء لكي يحب حقاً، لا بد أن يموت، أن يموت في الحب، أعني هكذا على طريقة الفراشات والأنهار والحلاج..)

هذا أول إعلان يجهر به “الفاخري”، بعد أكثر من عشرة أعوام من كتابته لأول نصوصه وهي مقالة (التجربة).. أول إعلان يعلن فيه أنه جزء من كل، وأن أي مكان محدد لم يعد يسع فكرته..

فلقد تحدث رفيقي –يقصد كتاب “الفاخري” موسم الحكايات- كثيراً وحكى لي عن بنغازي، وبوسعدية، وجليانة، وغربة الأنهار والبياتي وسوق الحشيش وأثينا وبياع الفل.. وأشياء كثيرة أخرى، ولقد شعرت على نحو يقيني أنه يحدثني عن تجربتي وتجربتك، لقد شعرت أنه يتحدث عنا جميعاً، لقد كان يتحدث بعفوية بالغة، فيما كان الألم يعتصرني، فلا شيء يؤلم المرء مثلما يرى ذاته تنسلخ عنه وتناصبه العداء.

كل هذه الأماكن ذكرت في كتاباته، التي كتبت قبل الواحدة والعشرين حكاية وهي التي سماها (موسم الحكايات)، التي يعتبرها بعض النقاد شكلاً جديداً من أشكال الكتابة في الأدب العربي، فهذه الحكايات قد تكون قصصاً قصيرة منفصلة، أو مجموعة قصص متصلة، أو رواية أو شكلاً من أشكال الخواطر.. أو، كما اعتبرها أنا تأصيلاً جديد لأدب الحكاية.

أنا لا أود أن أتطرق إلى البناء الفني لحكايات موسم الحكايات، وإنما أود أن أشير إلى أن “الفاخري” قدمها لنا برؤية أكثر عمقاً وشمولية، محاولاً من البداية إلغاء فكرة المكان المحدد الذي كان يعد من أهم خصائص بناء قصصه.

لقد أصبح الكون كله مسرحاً لأفكاره، وليتضح لنا ذلك جلياً، دعونا نرى أولاً أدواته الجمالية التي يبني عليها نصوصه.

لقد شعر صديقي الذي كاتبني من فلورنسا بأن “الفارخري” يتحدث عن تجربتنا أنه كان يكتب هذه التجارب بصدق، أولاً، وأن ما يقوله حقيقي، يحدث له، كما يحدث لنا جميعاً باعتبار أننا نعيش معاً بمكان واحد محدد المساحة.. إنه في ذلك يكتب إلينا بنفس المنهج الذي كتب به “همنجواي” الذي يقول: (مهمة الأديب لأن يقول الحق).. ولقد أقر “الفاخري” بنفسه في مقابلة صحفية أجراها معه الصحفي “بكر عويضة” سنة 1971، تأثره بالكاتب الكبير “إرنست همنجواي”.

وعن مهمة قول الحق هذه يقول “كارلوس بيكر” الذي يعد أحد أفضل النقاد الذين كتبوا عن همنجواي: (لن تجد في عصرنا هذا أديباً آخر أكد هذا الواجب بقوة ودافع عنه بضراوة، وثابر على تحقيقه بعزم وثبات، مثل همنجواي، الذي تحكم فيه مقياس الصدق تحكماً بعيداً صارماً حتى جعله لا يرضى غير المعاينة والتجربة، فهو لا يعتمد مصدراً ثانوياً أبداً، ولذلك تجده لا يتحدث إلا عما فعله، أو عرفه ورسخ في نفسه لأنه شارك في بعض وجوهه، وليس معنى هذا أنه لم يستبح الابتكار والاختراع، ولكنه التزم أن يكون ما يخترعه متسقاً مع كل ما يعرفه معرفة مشاهد..) انتهى كلام الناقد “بيكر”.

وفي قلب هذا المنهج يرى المرء بوضوح ثلاث أدوات جمالية يحرص “همنجواي” على تأكيدها وإبرازها للقارئ وهي (المكان والحقيقية والمشهد).

وهي بالتحديد أدوات “الفاخري” الجمالية في بداية أعماله، غير أنه بعد (موسم الحكايات) لم يعد يهتم كثيراً بالمكان وإنما اهتم بالمشهد وركز على الحقيقية وجعلها أكثر شمولية.

معظم قصص “الفاخري” إن لم تكن كلها، هي نتاج تجربة شخصية أعرف أبطال عدد منها مثلما أعرف شخوصها وركائزها، ذلك يؤكد بطريقة ما، إصراره على قول الصدق، ولعل هذا السبب هو الذي جعله، في جل أعماله يسر لنا القصة من خلال بطلها، وليس من خلال ضمير الغائب. إن إصرار على كتابة التجربة الحقيقية وتسخيرها لخدمة فكرة شاملة أو مطلقة بتشبيهات خيالية وابتكارات لفظية قوية هو أمر موغل في الصعوبة، وإن ظهر لنا هيناً يسيراً.. وهذا ما جعل لنصوص “الفاخري” نكهة مميزة.

التجربة التي يمارسها “الفاخري” بذات نفسه، يجعل منها مسرحاً لخدمة فكرته، فالكلب الأحمق الذي وقف في منتصف السباق ليتبوّل، في قصة (لا تجر أمام الكلاب) كنت أحد الذين شاهدوه، وزلزال المرج في قصة (وعلى الأرض السلام) رأيت انقاضه، و(سي عمر) في قصة (العذاب) كان جاراً لي وهو ابن عم والدة “الفاخري”، وعندما توفى رحمه الله، عدل دكانه ليصبح (مربوعة) لخليفة حيث كتب تلك القصة، وعشيق نوارة، (الأصلع ذو البطن المتكورة كبرميل النبيذ..) في قصة (الهزيمة) شيعت مع سكان الشارع جنازته، والأمثلة تتعدد بتعدد قصصه، وعلى ذلك فمسرح القصة عند “الفاخري” حقيقي يصفه ثم يسرد قصته التي يحمّلها فكرته، فمثلاً “خالد” في قصة (الرجال) هو أحد أقرب أصدقائه ورحلته معه إلى قلب الصحراء كانت واقعية؟، والأماكن التي ذكرها موجودة، وأحداث موت المرحوم “لامين عكاشة” الذي يعرفه معرفة شخصية حقيقية، ثم نجده قد حمل قصته فكرته التي عكست معاناته، لأن المتاجرة بالأيدي العاملة واستغلالها كانت في ذلك الوقت أمراً يحز في النفس، فأراد إبرازه في وقت كان يصعب فيه مناقشة مثل هذه الأمور، ثم أعاد مناقشته مرة أخرى في مقالة (الحمار ذو الأجراس).. “الفاخري” إذن يصر على قول الحق، ولا يتحدث إلا عما يراه ويعايشه، وبذلك تكون الحقيقية واحدة من أهم أدواته الجمالية.

“كارلوس بيكر” يقول أيضاً: (إذا لم يكن لديك جغرافية الشيء، أي المسطح المكاني ليه، فليس لديك شيء).. وقليلون جداً هم الكتاب الذين يتمتعون بملكة الإحساس بالمكان، “الفاخري” مغرم جداً بالمكان، كان في بداية إنتاجه حيزاً محدد المعالم، ثم طوره بعد (موسم الحكايات) فألغى منه حدودية المعالم، أصبح المكان باتساع الدنيا كالبحر في قصة (طين البحر) أو كالسماء في قصة (النوارس).

في بواكير إنتاجه يحس القارئ بمدى تأكيد “الفاخري” على رسم المكان لدرجة أنه يجعلك في بعض الأحيان تشم روائحه وترى ألوانه ماثلة أمامك، خذ مثلاً تصوير لوحته المكانية التي استهل بها قصة (الوجه الطيب القديم) إذ يقول واصفاً ركناً من أركان سوق الحشيش:

(كان الحي منتعشاً دائماً، وكانت تعشش في ميدانه الصغير شجرة الورد، ناشرة أغصانها الرفيعة عير إحدى الزوايا، فيما تستلقي أوراق كرمة العنب من فوق ذلك السطح، وتكاد تملأ جبين الجدار بالبقع المخضرة، كان هناك عنقود خجول يطل مع إطلالة شهر يوليو على الميدان ولقد تعود الصبية أن ينتظروا عتمته وأن يتسلقوا الجدار بطريقة ما، وينتزعوه من بين الأوراق، كان السكان يربون السلاحف من أجل إطالة العمر، على حين يباع الزبد واللبن والصفصفة، وبضعة أشياء أخرى على الرصيف، وتظل الحمير تنهق في الجانب الآخر، وتنتظر بعدما أنزلت عنها قرب اللبن ودنان الزبد..).

صورة مكانية رائعة حية، أما سر جمالها-رغم نهيق الحمير- فهو واقعيتاها وبساطتها، ولو سألنا عنها أياً من سكان سوق الحشيش، آنذاك لأجاب: (إنها الكرمة الممتدة من منزل (آل مخلوف) في ركن السوق، عند بداية شارع (سي علي لوحيشي).. لقد وصف “الفاخري” السوق بدقة متناهية.

غير أن “الفاخري” يتمادى في تجميل مشهده بمنحه الحركة (حين تعدو إحدى النساء وسط الميدان خلف الداجتين لتعيدهما للبيت..)، ويتمادى اكثر فيمنح المكانة رائحة (بينما يركن العجوز في دكانه لإعداد (المصير) ذي النكهة العجيبة).

يثابر “الفاخري” دائماً في إضفاء الحركة على مشاهده المختلفة، في أقصوصة (سنوات العمر الصدئة)، يقول: (إنه عمل مسرف القسوة أن تكذب على الآخرين بزهو متكابر، ثم يقوم أحد ما بصفعك أمامهم، ولقد نهضت على نحو مباشر وطفقت اذرع الطريق صارخاً باحثاً عن حجر، بينما كنت أقذف الخضار بكلمات وقحة..).

رغم كثرة الحركة في هذا المشهد، فإن “الفاخري” بإيجازه البلاغي الجميل غير المخل بأداء المعنى واكتمال الصورة، لم يعطه أكثر من سطرين، دون أن تجد لفظاً واحداً زائداً لإيضاحه.. نهض الطفل مسرعاً بعد الصفعة، يبحث عن حجر، و”الفاخري” هنا كان حذراً وذكياً كعادته في بناء جمله، فهو لم يقل (يبحث عن حجر ليقذف به البقال..)، ذلك لأن المعنى واضح دون إضافة شيء، بل استغل لفظ (القذف) لبناء جملة جديدة ولإكمال المشهد دون تكرار اللفظ.. أراد “الفاخري” للمشهد أن يكون شاكلاً، بمعنى أن يصور الانفعال عند الطفل بالحركة المادية (بحثه عن حجر) وبالحركة اللفظية (قذف البقال بكلمات وقحة)، وكل ذلك مرجعه الفعل وردته عند الطفل، وبذلك يكتمل المشهد دون إسراف أو تقتير في الألفاظ.

إن الحقيقية، والمكان، والمشهد، أدوات جمالية يحسن “الفاخري” استغلالها والقارئ يجد الكثير للتدليل على ذلك.. يرى “الفاخري” أنه (بين الصدق والجمال شعرة واحدة)، فكل ما هو حقيقي صادق وكل ما هو صادق جميل، شريطة أن يكون طبيعياً غير شاذ أو مصطنع.. فأنوثة المرأة وفحولة الرجل وبراءة الطفل والأرض والبحر والسماء والشمس والقمر والمطر، كلها مخلوقات جميلة، كما أن (تدلي العناقيد، وجبهة الأسد، والزبد على شدقي الحلوف الغاضب، وثغاء القطيع ونهيق الحميد أيضاً أمور جميلة، لأنها تحدث على نحوٍ طبيعي).

في أقصوصة (الرجال) هناك فقرة قرأتها منذ أربعة وثلاثين عاماً، وانبهرت بجمالها ومازلت أظن أنها من أروع ما كتب “الفاخري”، ولقد استعنت بها دون سواها في حكاية من حكايات (الكراكوز) -وهي رواية لي صدرت مؤخراً-، أتحدث في تلك الحكاية عن شفافية “عمر الخيام” عندما ينبهر بالجمال، لدرجة أن صديقي الأستاذ “عبدالكريم الدناع” قال لي إنه كاد يقتنع بأن “الخيام” هو كاتبها، يقول “الفاخري” بعد أن تناول عشاءه واستلقى فوق أكياس الأسمنت بمؤخرة الشاحنة في عرض الصحراء:

كان الجو رائقاً، وكانت قبة السماء الهائلة مزرقة على نحو غامض.. وقد ظلت النجوم المرصعة هناك تنبض بالبريق بطريقة ساحرة، ليس ثمة سحابة واحدة.. وليس ثمة ريح أيضاً، وكان القمر الفاتن يلوح على بعد ميل فقط، إلى أن استغرقني النوم وحلمت أنني أحلق وسط فقاعة عبر الشعاعات البلورية.

حلمه هنا إحساس هائل بالجمال الطبيعي، لدرجة أنه كاد يجعل من هذا الإحساس المادي خيالاً لا يمت للحقيقية بصلة، غير أن من تأمل السماء في الصحراء بالكيفية التي تأملها “الفاخري” تأكد له أن النجوم تشع وتخبو كما لو أنها تنبض، أما الاستغراق في تأملها فقد يعطيك الإحساس بالتحليق وسطها.

في أقصوصة (حكاية فلاح عجوز)، يقول:

… ويظل يرسل بصره في الفراغ المعتمر عبر المدخل، ورغم أنه لا يرى أي شيء، إلا أنه ينفذ عينيه بإصرار خلال هوة الظلام، كأنما يحاول ان يتذكر شيئاً ما.. إلى أن يتبدى أمامه ذلك الحقل القديم، والسنابل المتموجة أمام الريح الواهنة، وخوار الأبقار المتخمة، وثغاء القطيع الطويل، والمراعي الشديدة الخضرة، ونباح الكلاب الودودة خلف الشياه والطيور وخيال المآتة.

العجوز يود أن يسترجع ماضيه الجميل، فأعاره “الفاخري” نظرته إلى الجمال وصور له حقله القديم على نحو طبيعي، فتموج السنابل، وخوار الأبقار ونباح الكلب، وحتى خيال المآتة صور جميلة لأنها طبيعية.

فضائل الإنسان، كالشجاعة والصبر والنظافة والصراحة والعواطف الإنسانية الصادقة، هي الأخرى أشكال من القوة والجمال، في قصة (الأصدقاء) يقول:

الإنسان لا يمل أصدقاءه.. أبداً لا يفعل ذلك، لأنهم ببساطة يجعلون الحياة أكثر يسراً.. اكثر إشراقاً وبهجة، أنا أعرف هذا تماماً.. أعرف أن المرء لا يستطيع أن يسلخ عنه أصدقاءه لأنهم ليسوا مثل حبات الحمص هذه، إنهم مخلوقات لطيفة، مخلوقات تجعل الابتسامة تطفو فوق شفتيك حين تذرع ذكرياتهم ذهنك المكدود، أنا اعرف ذلك تماماً.

“الفاخري” يمنحك أحياناً الإحساس بالجمال من سلبية صوره، بمعنى أنه إذا أراد أن يصور لنا مدى القبح في مأساة أعطانا صوراً مغايرة تماماً لمعايير الجمال.. وهذا فن أبدع فيه “الفاخري” لدرجة أن الذين لا يعرفونه شخصياً يتصورونه إنساناً مكتئباً متشائماً، في حين أن روحه المرحة تستيقظ معه صباحاً وتنام معه ليلاً دون أن يكدرها شيء طوال اليوم، رغم الفقر الذي يسميه (صديقه اللدود) وأشياء يطول شرحها.

في مقاله (عيون الكلاب الميتة) التي اتخذها الشاعر الكبير “عبدالوهاب البياتي” -بعد أن استأذن الفاخري- عنواناً لأحد دواوينه التي استلهمها بعبارة للكاتب الكبير “ألبير كامي” يقول: (قد يبكي الرجال لكثرة القبح في الحياة).. وصف “الفاخري” القمر كالتالي: (كان القمر يخوض حتى ركبتيه في مستنقعات السماء، وكانت العيون مفغورة الشفاه، راكدة مثل عيون الكلاب الميتة، وكان الليل موحشاً كمقبرة قديمة والنهار كذلك).. ليس بالإمكان تقبيح القمر والسماء والليل بأقبح من ذلك، لأنه أراد تقبيح هذه الطبيعات لإبراز مدى القبح الذي يتحدث عنه، لأنه يعتقد أن الجمال الحقيقي في عكس هذه الصورة، ومن القبح يحاول “الفاخري” بطريقة غير مباشرة لن يقنعنا بان ثمة جمالاً من مشكل آخر، ذلك إذا اعتبرنا أن اللذة تعكس شكلاً من أشكال الجمال، فمن الدمل (القبيح) نستطيع أن نستمتع بلذة. في قصة (غربة) يقول:

حين يكون ثمة دمل في مكان ما بجسدك، دمل متخم ويتسلل إصبعك ليحلق حوله في لمسة دائرية ناعمة، هل تفهم؟.. وتواصل ذلك عدة مرات، شاعراً بصلابته تحت إصبعك، عندئذ تشعر بلدة، بمتعة خدرة، تدفعك إلى حكه بأحد أظفارك بحذر كأنك تحاول دغدغة أحد ما في قدمه، هل تدري هذا؟.. حسناً، ذلك الدمل إنه قلبي.

بعد صدور موسم الحكايات، تعمد “الفاخري” أن يجعل المكان اكثر شمولية ولذلك طمس الحدود التي ترسم مكاناً محدداً مثلما فعل في الحكاية السابعة عندما سأل “السهروردي” عن معنى قوله (البلد الذي لا أين له، حيث لا تجد السبابة إليه متجهاً).. ثم نجده –بذكاء- يلحق حكايته الثامنة عن (انعتاقه المذهل..) عندما اكتشف انه في الأرض الحرام، أي أنه ليس في (سويسرا) وليس في (ألمانيا)، وليس في بيته أيضاً، وبامتداد الحكايات يشعر المتلقي أنه يحاول لأن يتخطى المكان المحدد ليجعله أكثر شمولية، ولعل ذلك بداية النضج الحقيقي للفاخري، إذ انه أصبح يخالف الأدباء الإنسانيين في معالجة قضايا الإنسان من خلال مكان يحدد. أصبحت نظرته أكثر شمولية لكل الناس في كل مكان، كما قال في الإيقاع الثاني من الحكاية الثانية عشر.

إن المتتبع لإنتاجه القليل بعد (مواسم الحكايات) يكتشف ببساطة ابتعاده عن الذكر المباشر لميادين وشوارع بنغازي والعديد من عواصم العالم التي امتلأ بها أقاصيصه الأولى، أصبح الناس كل الناس همه، لقد ألغى الفوارق بينهم بدءاً من الحكاية الأولى من مواسم الحكايات، التي يقول فيها:

ذلك المخلوق لم يعد يعتاده هذا الشعور، لم يعد يشعر بالحيرة حين يستيقظ، ذلك أنه أدرك أن السقف واحد، وأن الأرض واحدة، وان الإنسان وحده هو الذي يضع الفوارق بين الغرف والمنازل، والمدن، وبين البشر كذلك.

وفي حكايته الثانية يقول:

فحين يكون قلبك كبيراً، تستطيع أن تعانق كل شيء، باعتبار أنه صديق لك، كل الأشياء تصبح ذات مدلول اطفي دافئ، كل الأشياء: الأشجار، والطيور، والمساكن، والتراب، والحارات، والقمر والمساجد والكنائس ولعب الأطفال، والعملات القديمة، والكتب ومحطات القطارات والمقاهي.. فما بالك بالإنسان..

“الفاخري” بهذه الرؤية يتجاوز العديد من الأدباء الإنسانيين، فهو لم يلغ الفروق بين الناس فحسب، بل حتى الفروق بين الإنسان وبيئته، وبين الإنسان وبين مخلوقاته وبدعه بحيث تصبح كل هذه الأشياء ذات مدلول عاطفي إنساني.

وكأن “الفاخري” عندما يزيل الفوراق بين الناس بعضهم البعض، وبينهم وبيم دنياهم، يريد أن يربطهم بما هو اكثر شمولية وهي ذات الله، ولذلك فإن “الفاخري” ما انفك منذ ظهور إيقاعات (موسم الحكايات) يذكرنا بأننا جزء من الكل كما قال لنا ذلك على لسان “الحلاج” في الإيقاع الأول من الحكاية الثانية عشرة، بعد أن قالها على لسان “السهروردي” في الحكاية السابعة.

ويفسر لنا “الفاخري” كل ذلك من القرآن الكريم ذاته، بقوله تعالى: (وقال إني مهاجر إلى ربي)، ولم يقل إني مهاجر إلى أي مكان آخر، وإنما ربط ذاته مباشرة بالله، مفسراً لنا أن الله في كل مكان، ولم يحدد لنا مكاناً بذاته نجده فيه، وعلى ذلك فإن الفوارق والحدود من صنع الإنسان وحده.

قال لنا “الفارخري” كل ذلك في صيف 1974، وهو تاريخ صدور (مواسم الحكايات) ليعود مرة أخرى بعد تسع سنين، ليقول لنا الفكرة نفسها ولكن بأسلوب مختلف هذه المرة، فعلى لسان (سي علي) في قصة (طين البحر) التي استهلها بأبيات للبياتي تقول:

توحد الواحد في الكل

والظل في الظل

وولد العالم من بعدي ومن قبلي!!

يقول “الفاخري”:

البيت هو البحر.. بالضبط هو البحر، فبمجرد أن تضع قدميك في مياه وتشعر بطريقة ما أن أحداً آخر يضع قدميه في الطرف الآخر، تشعر بالرحيل، بالاتصال بالناس، إنني أصافحهم الآن بقدمي.. أنا لا أبرح مكاني، إني فقط أرنو إلى ضفة الشاطئ، انظر إلى النوارس السابحة في السماء، والجاثمة على الصخور الناتئة، إلى الأصداف الملقاة على الرمل الندي، وبريق الحصى الملون، إلى الناس الذين يعتقدون أنهم يقضون –فحسب- وقتاً جيداً، إنهم لا يعرفون أي فردوسٍ أمامهم.

أنا وحدي أعرف ذلك.

أنا الوحيد الذي يرسم حدود النوارس، والشفق، والريح والأمواج، وحتى التموّجات الصغيرة التي تلعق رمال الشاطئ.

لماذا؟.. لأنني أنا البحر، أنا البحر.

لا يمكن في وريقات كهذه أن تعطي كاتباً كالفاخري حقه من الدراسة والتحليل، ولكن كثرة ما كتبه الزملاء عنه، يشجعني على عدم الإسهاب، ومع ذلك أجدني مرغماً على استعارة فقرة أخرى سبق وأن كتبتها، وأخرى لم تنشر حتى الآن عن الفاخري.

في تقديم لرسائل له نشرت منذ فترة بصحيفة (العرب) قلت، فيما قلت تحت عنوان (لزوم ما لا يلزم):

إن ما يراه القارئ من كآبة أو حزن في كتابات “الفاخري”.. هو تأثير ما يكتبه في جانب حساس من كوامن الإنسان، التي تطوي فيما تطوي الرغبة الفطرية المتصلة للسمو بالذات نحو الكمال، الذي خلقنا الله به لنكون جديرين بخلافته.. فإن تسببت ظروف ما في الحيلولة دون تحقيقي هذا الكمال، عندئذ يصبح العجز قهراً مؤلماً ويصبح البوح به، أو تصويره أكثر إيلاماً.. هذا الألم هو الذي يمنحه لنا “الفاخري” في شكل إبداعات أدبية متوهجة تعكس روعته وقدرته الخارقة على نحت المعاناة فوق الورق.

وكتبت عنه مرة أخرى، مقدماً رسالة من رسائله فقلت:

عندما يصل بوح الكاتب –كنت أقصد الفاخري- إلى وجدان القراء، عندما يتمكن من نقش كلماته الصادقة فوق جدران قلوبهم مباشرة، فإنها –بالضرورة- تعيش معهم تتدفق حروفها الودودة عبر شرايينهم، تتنفس معهم، تفرح إن فرحوا وتزن إن حزنوا.

والكاتب لا يصل إلى هذا الحد إلا بعد أن تعتصر المعاناة فلبه وتسحق وجدانه، وتمزقه الغربة ويموت ألف مرة، ولكن عندما يصل الأمر إلى هذا الحد، وهو أمر يحتاج من الكاتب إلى قناعة ملتزمة بكل ما هو فاضل في هذه الحياة.

أقول عندما يصل الأمر إلى هذا الحد، فإن الكاتب لن يحتاج إلى من يعلق على صدره النياشين، أو يمنحه الجوائز، أو إلى كاتب –مثلي- يحكون، أو يدافعون عنه عندما يحاول أحد أن يقلل من شأنه، أو أن يتطاول على إمكاناته.. أو أن يتهمه بالإفلاس عندما يغيب فترة عن قرائه –لسبب لا يعرفه إلا من تعامل مع الكتابة الحقيقية الملتزمة-.

القراء (الذين ألبسوه تاجهم) هم الذين سيقولون كلمتهم، فهل هناك أقوى من صوت الناس؟.

27/06/2001

_________________________________

هوامش:

* كانت هذه هي ورقتي التي شاركت بها في ندوة (مواسم الإبداع الجميل)، التي نظمت لتكريم الراحل العزيز “خليفة الفـاخري” خلال الفترة من 26-27/06/2001.

قال لي ابنه غسان –عقب رحيله- إن والده قال له بعد أن قرأ هذه الورقة: (إن عمك محمد يراني بعيوني، والله وحده يعلم أنني كنت أشعر على الدوام، أنه يراني بعيوني).

أنا لم أحذف، أو أضف شيئاً لهذه الورقة، فقد قدمتها كما هي، سوى بضع كلمات هنا وهناك، بعد أن اختلطت ندوة التكريم بندوة التأبين. ونشرت بعدد مجلة الفصول الأربعة: 97. السنة 23-10/2003.

عن كتاب: محمد عقيلة العمامي/ قطعان الكلمات المضيئة/ عن العلاقة الأدبية بين المبدعين: صادق النيهوم وخليفة الفاخري

الناشر: مركز الحضارة العربية-القاهرة/ ط1/2003

 

مقالات ذات علاقة

أثر الغائبين: نهلة العربي تسرد قصتها مع السرطان

إبراهيم حميدان

ماذا ينقص أشعار الراحل محمد الفيتوري؟

يونس شعبان الفنادي

عبد الحميد بطاو شاعرا بالعامية

حسين نصيب المالكي

اترك تعليق