فن القصة القصيرة نسميه في العربية بالفن الوافد باعتباره نتاج حضارة غير حضارتنا لكن هذا الاعتقاد سببه تسليم خاطئ بتصور وافد أيضاً يؤرخ نشأة هذا الفن الأدبي بتكامل عناصره ونضوجه وفق شروط القصة القصيرة التي تجاوزها العصر فقد تحررت القصة من القوالب الجاهزة التي تحنط الزمان والمكان والشخوص في بداية ووسط وعقدة وحل فما حققه العالم من تطور في وسائل الاتصال والاندماج جعل الأمكنة والأزمنة تختصر في لحظة خاطفة فعبر الشروط التقليدية للقصة القصيرة استبعدنا مقامات بديع الزمان الهمذاني وحكايات ألف ليلة وليلة من دائرة جذور الفن القصصي العربي بل وقبل كل ذلك خصوصية الحكايات الليبية التي أشار إليها (ديوكر يسوستم) عام 40 قبل الميلاد فيما عرف بحكايات (كيبيوس) الليبي التي تدور أحداثها في منطقتي سرت وجرمة ، وإذا سقنا شيئاً من هذه الحكايات نجدها تمثل النص القصصي البرقي أو القصة القصيرة جداً في العصر الحديث تقول تلك الحكاية التي عنوانها (النسر الجريح) : (عندما ضرب السهم المنطلق من القوس نسراً ، رأى النسر ذلك الشيء المجنح الماكر فقال : إذاً ليس بالآخرين بل بريشنا نحن نُضرب ) .
أين هذا النص من الأقصوصة الحديثة ، بل أين من قول الشاعر (أدونيس) في قصيدة من بيت واحد يقول فيها : (مهما تعلم الظلام لا يستطيع قراءة النور ، لكن ظل هذا التجذير في الهامس مثله مثل حكايات أجدادنا التي سبقت بيت الحكاية في إيطاليا ، وظلت حكايات أجدادنا تندثر لأنها لم تدون ولأنها لا تحفظ مثلما يحفظ الشعر وما كان لحكايات (كيبوس) الليبي أن تعرف لو لم يدونها الإغريق في كتاباتهم على أرض ليبية في سرت وجرمة ، ولو أخضعنا التجارب القصصية التي كتبها كتاب عرب واعتبروها بداية القصة العربية مثل قصة [زينب] لمحمد حسين هيكل فإنها لا تصمد أمام روح الأسطورة والغرائبية في حكاية (كيبيوس) الليبي التي تصور أعمال كائن خرافي نصفه أنثى ونصفه حيوان ومكان أحداثها الصحراء الليبية ، أليس مطمح القصة بل حتى القصيدة في العصر الحديث أن تعول على الأسطورة والمفارقات العجيبة لتثير الإدهاش وتبعث في المتلقي روح السؤال ؟.. أليست روايات ماركيز وأهمها رواية مئة عام من العزلة تنهض على الموروث الغرائبي العربي ؟!!..
إذن احتكم المؤرخون لبدايات القصة القصيرة إلى اختيار أنضج نصوص الرواد ليؤرخوا لبدايات القصة القصيرة ومقياس النضج أن تتضمن القصة البداية والوسط والعقدة والحل وحدث هذا في العالم كلـه حين استبعد بين الحكاية من بدايات القصة الإيطالية واستبعدت بدايات سبقت موباسان الفرنسي وبدايات سبقت (تشيكوف الروسي) وبدايات سبقت أدجار آلان بو الأمريكي ، وبدايات سبقت محمد هيكل أنه خطأ بحجم العالم يجعل أمر الريادة في فن القصة القصيرة أمراً محيراً وهو الفن الذي أرسى دعائمه الضمير الجمعي للإنسان في أي مكان ، فالحكاية أم الكون فوجود الكون حكاية والإنسان من مولده إلى مماته حكاية فيها الواقعي والغرائبي والرومانسي والسريالي والرمزي فالمدارس منشاؤها الإنسان وهو الإيديولوجيا الخالدة في أي زمان ومكان فكيف لا تكون الحكاية أم الفنون ؟!..
وما دمنا ننطلق من سياق خطأ مؤرخي فن القصة في العالم أجمع فإننا مطالبون بالإشارة إلى نصوص منشورة وإلى وسيلة نشر وإلى تاريخ وإلى مؤلف ثم نتحدث بعد ذلك عن الريادة في هذا الفن في ليبيا وفق شروط النص التقليدية لنقول بأن القصة القصيرة المنشورة ظهرت في ليبيا عام 1908 م عندما سمح الدستور العثماني بإصدار صحف في بلادنا وكان عنوان القصة التي نشرتها صحيفة (المرصاد) بعنوان [ليلة أنس مجهولة] المؤلف لكنها من المرجح أن تكون لمحمود بن موسى باعتباره صاحب الصحيفة ومحررها ثم قصة أخرى بعنوان [لو كان الفقر رجلاً لقتلته] وهي مجهولة المؤلف أيضاً ويرجح أنها لأحمد الفساطوي وغلب على تلك البدايات روح السجع وهو العنصر الفني الذي ساد إبان احتضار الحكم العثماني حتى إن أحد الولاة العثمانيين أعجبته عبارة تقول : “يا والي قـُمْ قد عزلناك فقـُمْ” فكتبها وأرسلها إلى والي مدينة (قم) فعُرف بالوالي الذي عزلته (سجعة) وبالفعل لم تنتج المرحلة العثمانية أدباً مهماً ولا بدايات حقيقية لفن القصة في بلادنا بل أن حكاياتنا قبل ميلاد المسيح كانت أنضج مما كتب إبان الحكم العثماني وأنضج من محاولات يراد لها أن تكون بداية القصة الليبية ، وبعد انقضاء الحكم العثماني وتسليمهم الشعب الليبي للحكم الإيطالي توقف إصدار الصحف حتى عام 1919 م حيث عادت الصحف للصدور ومنها صحيفة (اللواء الطرابلسي) .
لكن هذه الصحف بدأت تنشر قصصاً لقصاصين غير ليبيين مثال ذلك قصص مصطفى لطفي المنفلوطي الذي كان لـه تأثيره في تلك الفترة حيث أصدر عام 1890 م كتابه النظرات الذي نجد لـه تأثيراً واضحاً على كتابات مجايليه واستمرت القصة الليبية في الانحسار حتى عام 1929 م حين نشرت قصة بعنوان [أنتِ] بإمضاء (علي) وفي عام 1935 م صدرت مجلة ليبيا المصورة .. وازداد عدد المتعلمين وبدأ القاص (وهبي البوري) الذي وجد التشجيع من الشاعر أحمد رفيق المهدوي الذي نشر لـه أول قصة بالمجلة في بداية صدورها واستمر ينشر بها حتى توقفها حيث نشر سبع قصص قصيرة وقصة مطولة في ثلاث حلقات كما ترجم عدداً من القصص وقصص وهبي البوري تتفاوت في قيمتها الفنية فمنها ما لا يختلف عن محاولات سابقيه حيث ينحرف عن محور القصة ليعلق ويصاب الحدث لديه بالتداخل بتعرضه لتعليقات جانبية كما يبدو الحضور القصدي للكاتب بارزاً في تحريك الشخصيات وفرض وجهة نظره الخاصة عليها كما يسود قصصه المنبرية والخطابية والتخطيط المسبق ومن ثم تبدو الشخصيات بلا روح وتنمو مع الحدث وبه حتى تصل إلى عنصر إحداث الأثر العام فهو يخطط للقصص مسبقاً ويحاول أن يلبس كل موعظة أو موقف ثوباً قصصياً .
كما استخدم أسلوب الرسائل المتبادلة بين شخوص القصص فيما يعرف بعنصر التلصيق في فن القصة القصيرة متأثراً في ذلك بالقصة المصرية خاصة قصة [زينب] لمحمد هيكل حتى أن اسم (زينب) يتكرر في قصص البوري وتعتبر قصة [الحبيبة المجهولة] أنضج القصص التي كتبها وهبي البوري فقد كتبها بضمير المتكلم وفيها مزاوجة بين الظاهر الذي تمثله الفرقة المسرحية التي كانت تقدم عروضها والمونولوج الداخلي لبطل القصة الذي يرسم حدثاً داخلياً وهو يحاكي عيون فتاة جلبت على مقربة منه فتتكون بينهما علاقة حب ويظل الحوار الخفي متواصلاً حتى انتهاء العرض الذي كان في الهامش وحواريته مع الفتاة كان هو المتن وبؤرة الحدث لقد استطاع في هذه القصة أن يحتفظ بالحدث متصاعداً متماسكاً ويسيطر على اللحظة القصصية والدقة في رصد الانفعالات لكن السؤال الذي يثار حول هذه القصة التي كتبها وهبي البوري أثناء دراسته بمصر التي عكست العادات والتقاليد التي تحرم الحب ما جعل القصة تدور في المشاعر والأحاسيس ولا تتحقق على الواقع هو أن البوري لم يكتب هذه القصة في ليبيا حيث كانت السلطات الإيطالية تمنع اختلاط أي شاب عربي بفتاة إيطالية إنه لو كتب هذه القصة في حوارية وجدانية بين شاب ليبي وفتاة إيطالية لحققت القصة بعداً إنسانياً باعتبار أن الحب لا يعترف بالحواجز والقوانين ولا بالحروب التي يضرمها الحكام بين الشعوب ولأثارت سؤالاً يتعلق بحوار الحضارات فإيطاليا المتحضرة تمنع فتياتها من الاختلاط بالليبيين فما الفارق الحضاري بين المرأة الليبية التي يمنعها مجتمعها والمرأة الإيطالية التي تمنعها حكومتها ؟.. إن وهبي البوري لم يفعل ذلك لأنه كان يخشى عقوبات القانون الإيطالي وحتى ما ترجمه من كتب كانت تعكس وجهة النظر الإيطالية حول حربها في ليبيا كما أخذت قصصه المنشورة طابع الكآبة واليأس والقنوط والخديعة والخذلان وحدها قصة [ الحبيبة المجهولة] انتهت بالإحباط الجميل حين توقد في قلب الرجل ومضة الحب وكأني بالبوري يجعل من قصة الحبيبة المجهولة إسقاطاً لما عجز عن البوح به في ليبيا فهو ينشد عذوبة الغرام والأحلام والهروب إلى الطبيعة شأنه في ذلك شأن الرومانسيين سواه كما يقول في افتتاحية لـه كتبها بمجلة ليبيا المصوّرة لكنه يجعل هذا اليأس رهين العادات والتقاليد وليس ما يتعرض لـه الوطن من احتلال ونجد القضاء والقدر يرسم أحداث قصص وهبي البوري وهو يجيد ترتيب النهاية القدرية لأبطال قصصه متأثراً بالقصة المصرية وبما يقرأه من الأدب الإيطالي وإن ظل تأثير الأدب الإيطالي على بنية قصصه ضئيلاً جداً مثلما لم يترجم ما يثري الأدب الليبي من روائع الأدب الإيطالي ووجد في ما يدعو إليه المنفلوطي من فضيلة سبيلاً وحيداَ واستغرب ألا يتناول وهبي البوري فترة الاحتلال الإيطالي عبر قصصه حتى أثناء وجوده في مصر وسقوط إيطاليا أمام ضربات الحلفاء وأن ظلت القصص التي كتبها من وحي الاحتلال مجرد مخطوطات مثل قصته التي عنوانها [رابحة] التي كتبها عام 1938 ولم تنشر وقصة بائع الحليب التي كتبها عام 1940 م التي تتحدث عن شاب عربي وعلاقته بفتاة إيطالية ويقع حدث القصة في الفترة التي الحق فيها الجيش الإنجليزي الهزيمة بالجيش الإيطالي ولم ينشر هذه القصة فقد عاد الجيش الإيطالي ليدحر الإنجليز وتقع بطلة القصة تحت طائلة القانون الإيطالي أما الشاب العربي فكان مصيره القتل .
يبقى القول أن د. وهبي البوري من الذين أرسوا دعائم القصة القصيرة في ليبيا وفق ما حققته القصة في الوطن العربي في تلك الفترة من إرهاصات لتبلغ ما بلغته الآن من تطور دعمه قصاصو الستينيات .