بعد عام من الحرب على غزة، أعيد اكتشاف جمال نساء غزة، وأندم على كل امرأة غزاويةٍ ضيعتها. لي صديقات كثيرات من غزة، الحرب هي وحدها المسؤولة عن ضياعهنّ، ورحيلهنّ، لا امرأة من هؤلاء النساء إلا وتركت فيّ ندبة ما. كلهنّ جميلات، لكنهنّ الآن أجمل، ليس بسبب الحرب اللعينة، إنما لأن نساء غزة جميلات أصلاً، يليق بهنّ كل حسن.
تطل عليّ إحداهنّ بعد شهرين من الحرب معاتبة، لماذا لم أسأل عنها، ولم أطمئنّ عليها. هذا الموقف الذي كنت دائما أخاف من مواجهته. ماذا سأقدم لها أو لغيرها في الحرب؟ هل ينفع أن أطل عليها من نافذة الشاشة لأقول لها: لعلك بخير، “واصمدي يا ابنة عمي” كما قال حمزة لفدوى طوقان في قصيدتها المشهورة “حمزة”؟ لم أستطع أن أطمئنّ على صديقاتي الغزاويات نهائياً؛ خجلا وخوفاً وقلة حيلة.
بقيتُ أقرأ ما تخطّه أناملها من مقالات، وإن أصابها الذهول والصمت في أشهر الحرب الأولى، الآن عادت صورتها الجميلة تزيّن مقالاتها الصحفية، هذه المرأة أحببتها فعلا، ورغبت في الارتباط بها، لكنّ ثمة ظروف لم تساعدها على اتخاذ هذه الخطوة الجريئة، فهل لو أتت إليّ ستجد الأمان لديّ هنا على الطرف الآخر من الحرب الأليمة؟ لا أظن، فلا أمان مع محتلّ في أية بقعة يتمدد فيها ظله الناريّ الأشر، لكنها على الأقل لن تذوق مرارات النزوح المتكرر من الشمال إلى الجنوب، وإلى جنوب الجنوب، وإلى أبعد من ذلك أيضاً.
أول امرأة من غزة تعرفت عليها، امرأة كانت قادمة من بلد عربيّ حيث درستْ، وتحمل شهادة عليا، تدرّس في إحدى جامعة غزة، دُمّرت هذه الجامعة كما دُمّر غيرها في الحرب، هذه المرأة الجميلة الهادئة تكتب أيضاً في الصحف والمواقع الإلكترونية حيث أكتب، التقينا كثيرا في واجهات تلك المواقع. دامت علاقتي بها زمنا طويلا. امرأة مثقفة لكنها موجوعة. وصلت معي إلى حافة الفراق، ورفضت أيضا الارتباط بي، فافترقنا، ذات حرب سابقة، كنت قلقا عليها، اتصلت بها، لأطمئن عليها، جاوبتني ببرود شديدٍ كأنها لم تعرفني يوما، فعذرتها، فهي تحت القصف والنيران، وأنا أتطفل عليها لأطمئن على مصيرها، شعرت بشيء من عدم المنطقية. تجاوزت ذلك، وبعد أن هدأت تلك الجولة من الحرب، أعدت الاتصال بها، فلم تردّ، وأرسلت لها رسالة قصيرة ولم تردّ. عرفت أنها لا تريد أن تسمع مني شيئاً. ففارقتني إلى غير عودة أو اتصال، إنما ظللنا أصدقاء في العالم الأزرق، وتركتْ على أصابعي قصة كتبتها بعنوان “الأشياء الجميلة تحدث مرة واحدة فقط” وأودعتها كتاب “نسوة في المدينة”. هل ستتعرف على نفسها إن قرأت هذه القصّة؟ أتمنى ذلك، وأرجو أن تظل بخير وهي ما زالت في قلب الجحيم، لا علم لي إن غادرت غزة أم ما زالت فيها.
قبل أن يمرّ عام على الحرب بيومين أو ثلاثة، لمحت وجودها في قائمة من شاهدوا قصة الفيسبوك! القصة كانت مثيرة ومستفزة، ووصفت بأنها “غير مناسبة” ولا تليق بكاتب” كما كتبت لي إحداهنّ، المهم من القصة أن هذه المرأة “الناعمة والحادة” معاً ما زالت هناك وهنا، وأنا ما زلت قادرا على أن أتذكرها، وأستعيد جمالها الذي كنت أحسّ به، وأطيل المدح فيه بقصائد كانت تتقبلها برحابة الشعور الأنثوي الباحث عن الجمال في الكلمات وفي المواقف كما هو في الصور.
كل نساء غزة جميلات، لا أقول ذلك الآن، بدافع التعاطف والرومانسية الكاذبة المدّعاة، بل إنها الحقيقة، نساء غزة جميلات جدا، شهيدات الحرب من شاعرات وفنانات، ومعلمات، وطالبات، وأمهات وجدّات، إنهن “زهرات في قلب الجحيم الغزاوي” سحقت الحرب قاماتهنّ، أسترجعهنّ الآن كلهنّ في ذاكرتي، سواء من قضين نحبهن، أم الأخريات اللواتي ما زلن يرفلن بالجمال، ويناضلن بشراسة من أجل البقاء على قيد الحياة. أتابعهنّ، وأقرأ لهنّ، وأقرأهنّ. وأدعو الله لهنّ ولي أن يمر هذا الكابوس بقليل من الخير والحياة، وألا تزيد الأوجاع أكثر مما هي عليه الآن.
هذه الحرب قاسية بشكل لا يصدق، ويزيد من قسوتها، رؤية جمال نساء غزة، وهن لا يستطعن حيلة ولا يهتدين سبيلا، إلا سبيل الرماد والضباب والظلام والشتات والتشرد، أعتقد جازما أن الحرب الظالمة هي تلك الحرب التي ينقطع فيها التنفس والأمل، وأسباب الحياة، ومع كل ذلك ما زلت ترى نساء غزة وهن يزددن جمالا على جمال. من أين يأتيهن هذا السحر؟ وأي تمائم يعلقنها على صدورهن ليظل الجمال شاهدا عليهنّ؟ أنا لا أبالغ ألبتة، والأمر بالنسبة لي محض ما أراه بالعينين، وبعين البصيرة أيضاً.
أكتب في الحقيقة، وأنا أتنقل بين شاشة التلفزيون الملطخة بالأحمر والأسود ودخان الصواريخ، وشاشة التلفون التي تضجّ بالصراخ والاستغاثات. ألمح برنامجا يستضيف مجموعة من نساء غزة يتحدث عن الحرب ومآسيها وما فعلته في الروح والبدن واللغة، كلهنّ جميلات، يتبلور الدمع عزيزا في محجري إحداهما، تغالب نفسها، ولا تسمح للحظة أن تغلبها ولا للدمعة أن تأكل مساحة من ورد خديها. تضم شفاهها وتبلع حزنها، فترجع الدمعة، يسكن المشهد وتظل المرأة قوية وجميلة، غير مهزومة على الرغم من أن نيرانا من القهر تستوطن قلبها، فتفيض في أحشائها حزنا مركبا على الفقدان والخسارات المتتالية، إلا أنها لن تكون إلا جميلة، لا تظفر الكاميرا منها بما يضبّب هذا الجمال ويغيّبه أو يعيبه أو ينتقص من بهائه الجليل. ولكن هل الدمع يحجب الجمال؟ إنه يزيد المشهد جمالا لو كان في غير الحرب، إنما هذه الحرب قد بدّلت منطق كل شيء.
أهمّ امرأة غزاوية في حياتي، امرأة جميلة، بمواصفات عالية، ما زلت أراها وهي تخطر بجلبابها الأخضر الفضفاض وحجابها الأبيض في أروقة الجامعة أيام كنت طالباً في كلية الآداب- قسم اللغة العربية أوائل التسعينيات، حينذاك كانت هي طالبة في قسم الدراسات الإسلامية الذي تحوّل بعدها إلى كلية الشريعة، ظلت تحت ناظري طيلة السنوات الأربعة التي عشتها في الجامعة أيام البكالوريوس.
لفت انتباهي جمالها، واكتمال جسمها، واستواء قامتها الطويلة الوافية المكتنزة التي تملأ النفس رضا وجمالاً، وبياض بشرتها، واستدارة وجهها، وسعة عينيها وسوادهما، لا تضحك بسهولة. كلما التقت عيناي بعينيها تجهمت وأشاحت بوجهها عني بقسوة تريد مني أن ألاحظها كرسالة صد عنيفة، لتغدو ملامحها جامدة، إلا إنها لم تفقد أبهتها وانتظام نسقها الذي اتخذته طوال أيام الدراسة في عقلي ووجداني، لم أحبها بطبيعة الحال، ولم تحبّني قطعاً، لكنني لن أنساها، وأظنّها لا تستطيع أن تنسى ذلك النحيل الخافت، المنكسر الظل الذي كان يلاحقها بعينيه الضيقتين كلما مرت من أمام نافورة الماء في الطابق الثاني من الحرم الجامعي القديم في جامعة النجاح الوطنية.
بعد الجامعة لم أعد أعرف أين هي، ماذا حدث معها في الحرب؟ هل تزوجت؟ وإن تزوجت أين أبناؤها؟ لعلهم مقاومون، هل يحدث أن “الرجل الأنيق” ابنها أو أخوها، أو أي مقاوم من هؤلاء الشجعان، هل أصبحت شهيدة أمْ أمّ شهيد؟ على أية حال إن لم يكونوا لها، فهي لهم، وأن أي امرأة من غزة هي مثلها، جمالا وصرامة وقوة، وقادرة على أن تظل جميلة على الرغم من هذه الحرب التي أكلت كثيرا من الورد، وشربت آلافا من جرار الدم النازف في أروقة الجمال الغزاوي!
أعتقد جازما للمرة الثانية أن الجمال الغزاوي لن ينتهي، وهو ممتدّ في الأرض والروح والشعر والشهداء واللغة والصور، ومتسرب إلى أنساغ الأرض ليعود من جديد، مع كل مولودة تَلِدها امرأة جميلة على أرض غزة. إنما قاتل الله الحربَ ما أبشعها! فكيف وهي تدخل برجلها اليسرى عتبة العام الثاني، ستكون أشد جنونا بلا شكّ! فهل سينتصر الجمال على الجنون؟ القانون الطبيعي يقول نعم، فالبقاء للأجمل دائماً وأبداً، وليس للأقوى.