مرض السرطان يسمى المرض الخبيث لقدرة خلاياه على التكاثر السريع وتدمير خلايا الجسم والفتك بضحاياه، وفي مجتمعنا عندما يذكر المرء اسم المرض عادة ما يتبعه بعبارة “عافانا الله وإياكم”.
وفي أحيان كثيرة تكون محنة المرض ملهمة للكتابة، ففيها شيء من التحدي ومحاولة التغلب عليه. يقول محمود درويش الذي كان يعاني من مرض القلب: “كل كتابة إبداعية هي نصر صغير على المرض”.
على مستوى الثقافة العربية هناك أكثر من كاتب تحدث عن تجربته المؤلمة مع مرض السرطان، أشهرهم كتاب “الصرخة” وهو الجزء الثاني من السيرة الذاتية للكاتبة المصرية الدكتورة رضوى عاشور، الذي حمل عنوان “أثقل من رضوى” وأيضًا كتاب “في مديح الألم” للناقد المصري الدكتور سيد البحراوي.
وفي المكتبة الليبية يمكن اعتبار كتاب نهلة العربي “أثر الغائبين” الصادر عن دار سراج للنشر والتوزيع في 2023 أول سيرة ذاتية في الثقافة الليبية يرويها كاتب أو كاتبة عن تجربته/ها مع مرض السرطان.
وكانت قد صدر لنهلة العربي رواية في عام 2012 بعنوان الساحر، وقد عملت في الصحافة في جريدة أويا ومؤخرًا في جريدة الوسط.
بين السيرة والرواية
وقبل أن نشرع في عرض الكتاب نتساءل: هل يدخل هذا العمل في جنس الرواية كما جاء على الغلاف، أم هو أقرب إلى السيرة الذاتية، على اعتبار أن الكاتبة تروي لنا قصتها هي مع المرض؟ يقول أستاذ الأدب في جامعة الملك سعود د. سلطان سعد القحطاني: “الرواية ثلاثية الأبعاد (كاتب وراو وبطل) والقصة الطويلة الثنائية (كاتب وبطل) بينما تقوم السيرة الذاتية على شخصية أحادية، تختزل الثلاثة في واحد، والرواية تستوعب الفنون والعلوم في قالب واحد يصوغها الروائي بالخيال الممزوج بالحقائق، بينما الحقائق مكشوفة ومجردة في السيرة، والشخصيات متنامية في الرواية الفنية، ولكنها في السيرة موظفة توظيفًا موقتًا، والزمن متصاعد في الرواية باتجاه قمة الحدث بينما الزمن في السيرة أفقي مستمر”(1)
ووفقًا لذلك فإن “أثر الغائبين” هي أقرب إلى السيرة الذاتية عن تجربة الكاتبة مع المرض، وقد ذكرت الكاتبة ذلك في مقابلة معها مع جريدة الوسط (2).
رسالة إلى آدم
تُهدي الكاتبة سيرتها إلى أسرتها الصغيرة، وبشكل خاص لابنها آدم الذي لايزال يعيش طفولته، توجه له في معظم صفحات الكتاب خطابها، وتقول في الإهداء إنها أرادت أن تخبره “عن كل ما كان يدور من حوله ولم يكن يفهمه، عن أسباب نوبات البكاء، ومرضي المستمر، وزياراتي المتكررة للأطباء” ص3
لم تكن تجربة الكتابة تمضي بسهولة ويسر والكاتبة تخوض معركتها القاسية مع هذا المرض الشرس؛ بل كانت الكتابة صعبة جدًا: “كنت مرهقة نفسيًا وجسديًا وأشعر برغبة مستمرة في ترك كل شيء والهرب إلى أي مكان” ص 3
هذا المرض يقلب حياة المرء رأسًا على عقب، وتداعياته السلبية لا تقتصر على المريض فقط بل تشمل أسرته أيضًا، وهذا ما راحت الكاتبة توضحه من خلال سردها قصتها مع المرض منذ بداية اكتشاف إصابتها بورم في المخ ودخولها غرفة العمليات أكثر من مرة لإجراء العمليات الجراحية الواحدة تلو الأخرى ووصلت ثلاث عمليات ثم مرحلة العلاج بالأشعة وبالكيماوي، واضطرارها إلى استعمال الكرسي المتحرك حين صارت عاجزة حتى عن الذهاب إلى الحمام بمفردها، والتداعيات النفسية للمرض ما أدى إلى إصابتها بالاكتئاب.
خلال فصول هذه السيرة تسرد الكاتبة هذا الحدث المزلزل في حياتها بلغة مكثفة سلسة، وما سببه لها من أوجاع، قصتها مع المستشفيات والدخول إلى غرف العناية المركزة وحالات الغيبوبة والانقطاع عن العالم ثم الاستيقاظ على سرير المستشفى والأطباء والأدوية إلخ، تتخلل ذلك فصول هي عبارة عن خواطر وذكريات وتأملات في الحياة وفي ماضيها وتجربتها واستخلاص الدروس والعبر التي استلهمتها من هذه التجربة، وكأن المرض أجبرها على التوقف ومراجعة حياتها التي صارت تراها قصيرة، وحياتنا جميعًا بالفعل كذلك، لكننا ننسى في غمرة انشغالاتنا اليومية: “بدأت أدرك صعوبة بدء أي نشاط وأنت تحيا على يقين أنك ستموت قبل أن تنتهي من هذا النشاط، عش كل يوم كأنه الأخير، ابحث عن أصدقائك القدامى، عمن أحببتهم وأحبوك، اترك لأطفالك المفاجآت السعيدة من بعدك، واحرص على وصولها لهم، تصالح مع نفسك ومع الآخرين، سامح كل من تسبب لك في يوم من الأيام بألم” ص9
تستعيد الكاتبة لحظة يقظتها عقب إجراء العملية الجراحية على الورم، هي في حالة بين النوم واليقظة، بين الوعي واللاوعي، وتشعر بأن لقاءها بربها بات قريبًا: “لم أكن في كامل وعيي لأدرك ما يحدث حولي، كنت أرى أشياء غريبة أفهم أنها إشارات إلهية لأعلم أن لقائي مع الله قريب. كنت أرى الملائكة، كانت أجنحتهم جميلة وكبيرة، بيضاء ناصعة، كانوا دائمًا يأتون لأخذ روح من الأجساد النائمة من حولي، فعرفت أنها مسألة وقت لا أكثر، وسيأتي دوري أنا أيضًا” ص34
وهي تتأمل تجربتها مع المرض لا تأخذنا الكاتبة في بكائيات وصور حزينة لاستدرار عطفنا؛ بل تسرد تطورات المرض، ووقائعه، وما شهده تفكيرها وأحاسيسها من تحولات خلال تجربة المرض مع مرور الزمن، وتكتب عبر هذه الخواطر خلاصة تأملاتها، تخاطبنا، وتخاطب كل من يمر بمحنة المرض من خلال رسالتها لابنها: “خلاصة الأمر يا بني، لا تحزن لقدرك، لا تعلم ما هو آت؛ لذا استمتع بكل لحظة في هذه الرحلة، وأمام المصاعب اذكر الله، وتذكرني وتذكر كل ما مررت به، كل ما كان علينا الدفاع عنه أو التخلي عنه لجعلك تعيش طفولة طبيعية وطفولة سعيدة” ص51
تروي الكاتبة تجربتها مع العلاج، عبر جلسات الإشعاع ثم العلاج الكيماوي وهذا الأخير تسميه “الشر المطلق” ثم الاكتئاب الذي كان يتربص بها مثل ظلها كما تصفه. تستعيد ذكرياتها مع تلك المرحلة من حياتها وآثارها التي ظلت ترافقها لفترة طويلة فتذهب إلى الطبيب وتخبره أنها قررت التوقف عن العلاج الكيماوي، وأنها على استعداد لتحمل تبعات هذا القرار حتى وإن كان الموت.
أما المعاناة النفسية الناجمة عن المرض فتجعلها تتردد على طبيبة نفسية وبعد عدة جلسات وحوارات مع الطبيبة التي تقرر لها أدوية تنعكس سلبًا عليها فتتخذ قرارًا مماثلًا وتخبر الطبيبة به: لقد قررت التوقف عن أخذ الأدوية. ثم تقرر التوقف عن زيارة الطبيبة النفسية أيضًا.
وتتبع ذلك باتخاذ قرار تعتبره القرار الأهم في حياتها في هذه المرحلة وهو العودة إلى بيتها وأسرتها الصغيرة التي تركتها عقب إجراء أول عملية جراحية لها وانتقلت للعيش في بيت والدتها المتوفاة كي تعتني بها شقيقتها وزوجة شقيقها في شؤونها اليومية؛ إذ كان من الصعب على زوجها أن يعتني بها وبابنها آدم وهو ملتزم بعمل في وظيفتين بدوام كامل لا يقل عن ثماني ساعات لكل منهما.
ترسم الكاتبة بلغة دقيقة مركزة مشاعرها وأحاسيسها وهي تخوض معركة استعادة أسرتها بكل ما فيها من أحزان وأفراح صغيرة وخيبات ومشاعر متضاربة أحيانًا: “لم تكن أمامي العديد من الخيارات، كان علي أن أنجح أو أنجح، لأن الفشل لن يكون خيارًا مسموحًا به، كان لابد أن أثبت أني قوية ومسؤولة، ولدي خطة لاستعادة عائلتي من جديد” ص 88
مشاهد قصصية واقعية متقنة تسردها الكاتبة وهي تروي لنا جلساتها اليومية بحواراتها القصيرة مع زوجها الذي لم يكن متحمسًا لعودتها لخشيته من أنها مازالت مريضة وبحاجة لمن يعتني بها في بيت والدتها، وتبوح لنا بمشاعرها وأحاسيسها وهواجسها التي تراودها، والأفكار التي تدور في عقلها في هذه المرحلة، لتخبرنا بعد ذلك أنها نجحت في أن تستعيد أسرتها بعد أن خاضت تجربة عميقة مع ذاتها وتصالحت معها، وتخبرنا أنها لا تعزو ذلك لبطولة أو قوة داخلية كما كان يقول لها بعض الأصدقاء والصديقات كمحاولة منهم لدعم معنوياتها بل لسبب آخر تصفه لنا بصورة بديعة: “لا أرى في سلوكي اليومي أي بطولة، ولا أجد الدعم المطلوب في مواساتهم، فالبطولة تحتاج شيئًا كبيرًا جدًا يكون قادرًا على شحن هذه الطاقة المطلوبة للمقاومة، لم أكن أعرف في حينها من أين يمكن أن أستمد هذه الطاقة؟ ومع مرور الوقت بدأت أدرك أن المصدر هو الحب” ص101
السلام الداخلي الذي حققته له علاقة أيضًا بإيمانها بأن هذا المرض هو ابتلاء من الله، الذي اعتبرته وهي تكتب لابنها نعمة من الله لأنه فرصة لتكفير الذنوب الصغيرة، فالأمان والطمأنينة هي القرب من الله. أن تضع ثقتك فيه وتفوض أمرك كله له، الثقة في الله أفضل علاج لمن كان قلقه يأكله يوميًا من الداخل” ص105
لا تزعم نهلة العربي أن المرض اختفى، بل تروي لنا قصة معركتها وكفاحها المستميت ضد المرض، وكيف استطاعت أن تدحره بروحها المقاتلة وعزيمتها القوية ومثابرتها العظيمة، وأن تنتصر على أوجاع الروح والجسد بالإيمان بالله وبالحب والتسامح وطيبة قلبها وحبها لفعل الخير والتصالح مع الذات ومع الآخرين ومع العالم، وكيف أن المرض منحها فرصة لفهم الحياة، وبالتالي القدرة على تجاوز آلامها بتقبلها، على اعتبار أن الألم هو جزء من الحياة، واحتضان أفراحها الصغيرة ممثلة في ابنها آدم وزوجها الذي وقف ومازال يقف إلى جانبها بحبه وحنانه ورعايته لها، وحب بقية أفراد عائلتها وأصدقائها الذين كانت تشعر بأنها تبادلهم الحب، وهذا وحده كاف لراحة الروح واستعادة عافيتها.
تقول الكاتبة في مقابلة معها “الغاية من كتابة الرواية، هو تقديم الدعم المعنوي للسيدات، خاصة اللواتي يعانين من السرطان، في أي منطقة في الجسم، من خلال سرد تجربة، قد يكون فيها نوع من خريطة الطريق للشفاء من هذا الداء الخبيث” (ص3)
وكتاب “أثر الغائبين” كذلك فعلًا، لما يقدمه من تجربة ملهمة جديرة بالاقتداء لكل من يمر بمحنة المرض، وهو بالإضافة إلى ذلك يقدم نموذجًا إيجابيًا لدور العائلة والأحباب الذين يساهمون في هزيمة المرض عبر احتضان المريض بالمحبة والرعاية والاهتمام، ما يساعد على استحضار قوة الإرادة الهائلة الموجودة في الإنسان التي تجعله قادرًا على مواجهة الابتلاءات والمحن وتجنيبه السقوط في هاوية الحزن والانكسار واليأس.
1-د سلطان سعد القحطاني، بين الرواية والسيرة الذاتية، جريدة الشرق الأوسط، 2 أكتوبر، 2008
2-نهلة العربي توثق “أثر الغائبين” في رواية جديدة، بوابة الوسط الإلكترونية، الأحد 19 مارس، 2023
3- المرجع السابق
بوابة الوسط | 16 سبتمبر 2023.