قصة

الرحيل

عن الشبكة

(1)

عندما رحلت القبيلة لم تكن وحدها، رافقتها الصحراء وانحدرت معها إلى الشمال.

حزمت القبيلة آخر حكاياتها، وما تبقى من إبلها وخيلها وماشيتها وصعدت جانب الوادي. تقصّفت الأعشاب اليابسة تحت الأقدام والقوائم، أثار هسيسها سيوف الرمل التي تجمّعت منذ عشرين قمراً فاستفاقت. تنفّست الرمال، تصاعد رهجٌ خفيف، وما أن تحرّك الركبُ حتى بدأت الرمال تنهض من ركْدتها لتتبع الراحلين. خيول القبيلة تتبعها خيول الرمل. رجال القبيلة يتبعهم قرناء لهم من الغبار.

على بعدٍ كان محيط السّراب يرسل أطيافاً تتمايل وترتفع، ثم تنفصل عن التراب وتسبح في الهواء لتلحق بالرّكب المهول.

(2)

ما أن جفّت عروق الندى حتى بدأ الصباح يغلي. كان أقسى أيّام عام «الزّمّة» الذي بدا كدهرٍ لا ينتهي. ولم يكن أمام «الأسحم» إلا أن يفاتح قومه بأمر اعتكف لأجله سبعة أيام لم يغادر فيها خيمته. خرج إليهم حافي القدمين، حاسراً، يجرّ لثامه وراءه، تقدّم ببطء، غرز قدميه في الرمل الملتهب، والتفت إلى الرجال الذين تجمّعوا أمام الخيمة.

– «جفّ الوادي، ونفقت المواشي، ونأت موارد الماء»، ثم أضاف بهدوء وهو يشير إلى الخيام الممزّقة والحيوانات الهزيلة. «نحن نموت»، ثم رفع صوته «استخرت الله»، انتبه الرجال ورفعوا رؤوسهم وبدؤوا ينهضون.

– «اطرابلس»، تمتم وهو يتفرس الوجوه الكالحة أمامه.

– «اطرابلس، اطرابلس»، همهم الجميع، ثم ما لبثوا أن صاحوا، تردّد الهتاف بين جنبات الخيام، شقّت زغاريد النساء سكون الظهيرة، العجائز قرعن الطبول، صهلت القبيلة، تصاعد الغبار. رفع الأسحم يده، وكانت تلك إشارة يعرفها الجميع فصمتوا.

اقتعد ركناً قريباً، أشار إليهم، كان ذلك إذناً ببدء المشورة، جلسوا. كلّ في المكان الذي كان يقف فيه. طاف الغبار حول مواقد النار الخامدة، تململ الرماد، وسكن الجميع.

بدأوا يتكلمون، تحدّثوا عن مدن الشمال، القوت هناك، هناك لا أحد يموت جوعاً، حتى البهائم تختار بين المراعي، والكلأ في كل مكان، حتى الحجارة خضراء، وكان كلّ من ذكر الشمال يشير بيده، ويخطف بصره فيرتدّ إليه سريعاً، خشية أن يتراءى له البحر في تلك اللحظة، فإذا أخذته رعدةٌ مفاجئة تعمّد رفع صوته ليدرأ الرهبة فلا تبدو على ملامحه.

– «هذه النواحي منسيّة، منذ عامين لم نر عابراً أو حتى تائهاً»، قال الأسحم.

– «أسميناه عام الزّمّة، لأننا نزمّ بطوننا بالحبال»، قال المجعوط.

– «لم أجد حتى حبل»، قال شبلاك، وهو رجل أسود لا يتحدّث مع كل أحد.

– «اسكت انت»، نهره أقرب الجالسين إليه.

– «حتى النساء أصبحن عاقرات، والمواشي تنقص كلّ يوم»، قال سعد التاجر.

– «لا بد من الرحيل»، أكّد لهم الأسحم.

– «نعم، نعم، الرحيل، اطرابلس، هذا يوم الفرج»، بدأ اللغط خافتاً، ثم ارتفعت الأصوات، كانوا يبثّون القوّة في ما تبقى من أجسادهم المنهكة الهزيلة، رفع الأسحم كفيّه، وبدأ يتلو الفاتحة، رفع الرجال أكفهم، وانتشرت في هدوء المكان تمتماتهم التي لم تنته إلا بصوت الأسحم.

– «آمين». ردّد الجميع وراءه كمن يكتشف الكلمة للمرة الأولى. تناهت الكلمة إلى سمع مناني أكبر عجائز القبيلة سناً، فأرسلت زغرودة حادّة، كانت أقوى وأجمل زغاريدها.

(3)

بدأ الرحيل. الأسحم – يرافقه النفّار – أولاً، شبلاك وراءهما، تتبعهم القبيلة، تتبعهم الصحراء، وأطياف السّراب تتمايل فوق الجميع، تأخذ شكل غربان حيناً، وتصبح سحباً حيناً آخر.

كان النفّار من سلالة البشاري، جاءه مهراً مع وفادة من الجنجاويد على مشارف تشاد. وظلّ منقطعاً في الشعاب، راحلاً بين الوهاد والوديان، جامحاً نَفوراً، هكذا لمع الاسم كبرقٍ مفاجئ.

لم ير شبلاك في تمجيد الأسحم لجواده إلا نوعاً من عبادة الخيول، ولم يدرك لماذا يصلي هذا الشيخ لله الرحمن الذي لا يراه إذا كان بإمكانه أن يلمس النّفّار ويكلّمه ويلهو معه ويربت على عرفه ويفخر به أمام الناس، بل أنهما يقاتلان ويغيران معاً، مثل فارسين صديقين.

شبلاك الذي لم يكن يتوقف عن التحديق بذهول في السماء غالباً ما كان يرى شياطيناً تتلاعب بهم، كلما اقترب منه شيطان تمسّك بقلادة الأنياب التي لم تفارقه منذ أن كان صبياً، وتمتم بما استقرّ في ذاكرته من صلوات.

مع النزول إلى وهدةٍ لَطَمَ شبلاك شيطاناً تجرّأ على الاقتراب، وصرخ في وجهه:

– «أرْ بآسي يانزو»[1]، ثم ابتسم وهو يراه يطير فزِعاً إلى قبيلة الأطياف اللعينة ويتحوّل إلى غراب.

– «ماذا قلت له؟»، سألته مناني التي كانت تحاذيه.

– «هل رأيتِه؟»، ابتسم، وسأل بدوره.

– «أجيد أشياء أخرى غير القرع على طبل القبيلة، أنت تعرف. هل ما زلت تذكر كيف جئت إلينا؟».

– «سيدي الأسحم جاء بي من برنو، لكن أنا من باغندا، ومن أمّي أنا سونغاي»، حدّق في الأفق دون أن يتوقف، واصل السير كأنما يسعى أن يصل إلى ذلك اليوم عندما توسّلت أمه بيرام للأسحم أن يحرّر ابنها من تاجر فولاني اسمه قْديْدي وأن يأخذه معه إلى بلاد الإسلام.

(4)

كانت بيرام تستدين من قْديْدي لإعالة أطفالها إلى أن وجدت نفسها ذات يوم ترْهن ابنها، وبمرور الوقت واستمرار عجزها عن سداد الدّين أدركت أن ابنها قد أصبح عبداً للتاجر، وأنها لن تراه إلا لماماً، فكانت تستدين من آخرين بعض الذرة أو الجلود وتسعى بها إلى التاجر لعلّها ترى ابنها. كانت تلك أسوأ أيامها منذ أن جنّد الفرنسيون زوجها، مع عدد كبير من الهوسا والسونغاي، لاحتلال مدغشقر؛ إلى أن رأت الأسحم.

(5)

لم تكن مناني تسير، قوامها الهزيل، وسحنتها الشبحيّة، وحزنها الدائم منذ أن جيء بها عروساً من الواحات، كل ذلك جعلها تطفو دون أن تلمس قدماها الأرض، شبلاك وحده لاحظ ذلك.

– «لا يخدعني رداؤكِ، أعرف أنك لا تمشين على قدمين، أنت تسبحين». قال شبلاك.

(6)

– «لكنك لم تكن شبلاك دائماً! »، قالت مناني.

– «لا.. كنتُ أمدو». ابتسم لوقْع اسمه القديم، وحطّ بريق ذكرى في عينيه، أحسّ بنسمة باردة تعلو وجهه، عاد إلى وادي نهر النيجر عندما كان يمضي الوقت مع رفاقه في اصطياد العصافير ومشاهدة مصارعي القبيلة وهم يبتكرون حيلاً جديدة استعداداً لمهرجان كوكاوا السنوي.

لكم أحبّ أن يناديه الجميع باسمه الحقيقي، أمدو، لكن شبلاك غلب عليه، ولم يعرفه الناس إلا به منذ أن عاد برفقة الأسحم إلى القبيلة، فسأله رجل عجوز «من هذا الذي يشبلك بجانبك؟».

لم يعامله الأسحم كعبد أبداً. تذكر كيف كان سبباً في إنقاذه عندما قفلوا عائدين إلى الصحراء. في غبش الفجر لمح شبلاك أطيافاً تستتر بتلّة رمليّة غير بعيدة، فأطلق صيحته التي أنقذت القافلة.

– «براو… بَراو».[2]

كانوا مجموعة من قطاع الطرق، خليط من صعاليك الطوارق والعرب، الذين نفروا من قبائلهم واختاروا الإغارة على القوافل وتجريدها مما تحمل من نفائس. يتربّصون بالراحلين ويتسلّلون وراءهم في خفّة الثعالب، يتحيّنون اللحظة المناسبة للانقضاض، مفضّلين الفجر وقد بدأت القافلة سيرها دون انتباه، أو في هزيع الليل بعد أن يخلد الجميع للراحة والنوم.

كان أكثر الأمكنة تعرّضاً للإغارة هو أول سيوف الرمل التي تبدو كأوتاد تشدّ الصحراء من أطرافها الجنوبية، بعد أن تنتهي الدشرة، يختبؤون خلفها، ويحتمون بها إذا لم يتمكنوا من سلب القوافل.

شعر بالفخر وامتلأ صدره هواءً بارداً وهو يتذكّر كيف كافأه الأسحم على سرعة بديهته، وكيف أشاد به أمام الجميع، كان كأب له، لكن الآخرين لم يروه أكثر من خادم، دون أن يتجرّؤوا على إهانته كما يفعلون مع بقية العبيد.

– «سيدي الأسحم يناديني حْمَدْ أمام الضيوف، وهذا الاسم يعجبني».

– «صار لك ثلاثة أسماء، أيها تختار؟».

– «شبلاك»، قال دون تردّد.

(7)

عندما رحلت القبيلة، رافقتها الصحراء وانحدرت معها إلى الشمال. تلاشت سيوف الرمل مع كل خطوة، تسطّحت واستسلمت بعد أن كانت تقف مثل كفّ يصلّي.

بين الصحراء والبحر كانت ظلال قبيلة راحلة وأطياف تحوم، تترك آثاراً تذوب في الرمال، وترسل عزيفاً يختلط بهزير الرياح وقصيف الأمواج.

بين صحراء وبحر كان برزخ يتراءى ثم يختفي اسمه الوادي الأحمر.

(8)

في الوادي الأحمر، أمام كوخ خشبي مسقوف بسيقان الشيح وأغصان الأثل والسنط، جلست ثلاثة أطياف تتدفّأ على نار العضاة وشوك الإبل.

____________________________
[1] ابتعد عليك اللعنة.
[2] لصوص لصوص.

مقالات ذات علاقة

تـعـوّد

مفتاح العلواني

حكاية سـارق المعزة

زياد علي

قصصٌ قصيرةٌ جدًّا ..

المشرف العام

اترك تعليق