1
دفعته الظروف إلى السرقة بعد أن أغلقت الدروب في وجهه، خاصة وأنه زوج جديد، وأمامه مطالب لم يكن يعرف كيف يتكيف معها، ومن حظه التعيس أن سكان القرية علموا بسارق المعزة، ضاقت الدنيا في وجهه بما رحبت.
فالناس كانت ناس
والقيم كانت قيم
ولم يجد أمامه إلا أرض الله الواسعة.. وعباد غير العباد.. ليحافظ على البقية الباقية من كرامته، فالجحيم كان بالنسبة إليه أن يواجه المجتمع الذي خانه.. لقد سقط وحكم على نفسه لأنه ما كان بإمكانه أن يحتمل حكم أهل القرية
2
أكلت الغربة سنوات شبابه، دمرت طموحه، أجهضت مستقبله في أسرة صغيرة، وفي نسل من صلبه، عاش المنفى الاختياري.. وعذبه الحنين، ولكنه كان أهون من أن يواجه ما هو أكثر قسوة، وهو تحطيم مشاعره أمام عيون الناس عندما تنظر إليه باحتقار، هذا البديل ما كان قادراً على مواجهته.. الموت أهون، ولكنه الضعف البشري، بعد أن أكلت الغربة شبابه، وتآمرت الدموع على البصر ضوء الحياة، وتحالف الزمن والقهر الداخلي والندم في التكالب على صحته.
وكان مع كل يوم جديد إلى الوراء.. هذا الوراء الجهنمي، الماضي الذي عذبه اشتياقه له، قاتله الذي يحتاجه..
3
بعد ما يقرب من ربع قرن انهار أمام الرغبة في مواجهة مصيره، كان هناك أمل.. ربما حلم في بناء حياته من جديد، وهذا ما راهن عليه عند عودته من غربته، من بلاد الناس، بلاد ليست بلاده، سافر إلى قريته.. ذهب إلى عين الماء التي كانت تجمع الجميع، كان يريد أن يستطلع، أن يعرف الأحياء من الأموات من تبقى من شهود الزمن الغابر، ومن غبر.. اقترب من بعض الصبايا وهن عائدات يحملن جرار الماء.. طلب منهن شربة ماء وقفن مندهشات من هذا الغريب، قدمت له إحداهن الماء.
وفيما هو يشرب ببطء كانت عيناه تتفرسان في الوجوه، ربما يستطيع أن يعرفهن بالدم، سألهن عن الأهل.
جاءت الإجابات تحمل الاعتزاز وبعض الغرور منهن مع اسم الوالد، إلا واحدة لم تنطق.. ابتعدت قليلاً مسربلة بحزن لا يحتمله جبل، بعار عاشرها كقدرها، تعلق قلبه بها سألها بلهفة وأنت بنت من؟
لم يسمع منها إجابة، وقف الصمت بينهما.
تبرعت بعض صويحباتها بالرد على استفساره بشكل عفوي إنها (بنت خانب المعزة!) صعقته جملة (بنت سارق المعزة)
التفت وكأن رصاصة إيطالية اخترقت قلبه، تمنى الموت لحظتها، خانه الموت بغيابه، دائماً لا يأتي في الوقت المطلوب، لعن نفسه لأنه كان يسبب للفتاة في كل يوم هذا الإحراج..
كم مرة قتل هذا الملاك.
4
في طريقه إلى لا مكان.. حيث لا هدف كان يتساءل:
لماذا حدث ما حدث؟
ها هي فلذة كبده تعيش عاره.. تعيشه بعد أن أورثها إياه.. إنه مجتمع له أعرافه القاسية وخطوطه الحمراء التي لا يسمح باجتيازها.
مجتمع يقول للضعيف.. يا كلب في وجهه، دون تجمل، لا يختلق له اسماً آخر.
قال لنفسه:
لم يعد لي مكان هنا
نفس ما قاله كفافي صاحب الإسكندرية
إنك حين دمرت حياتك هنا
فقد دمرتها في أي مكان آخر
وتقول لنفسك سأرحل إلى بلاد أخرى
إلى مكان آخر.. ولكن عارك يطاردك..