الهزيمة…. !
يا لها من ليلة شرسة… أمضاها بحثا و لهثا.. اسودت قوائم رجليه وهي تطرق الإسفلت.. تدلى لسانه.. اضطربت دقات قلبه. يجري.. عيناه تسابقان قوائمه.. يجرى.. الجوع كافر والبرد أكثر كفرا…
عند ناصية الشارع.. تراءت لعينيه أكوام القمامة.. انطلق نحوها مبتهجا..داعبت انفه روائحها… تخدرت حواسه بنشوة غامرة.. تراقص ذيله منثرا حبات العرق.. قرصته أمعائه بقوة وتدفق ما تبقى من لعابه.. انقض بقوة على الكوم… يمزق الأكياس وينهشها… تناثرت المحتويات.. فتناثر معها.. قَلبها.. غاص فيها.. بعثرها يمنة ويسارا.. قافزا من كيس إلى أخر… ثم أخر… أعياه البحث.. ارتمى على الأرض… طافت عيناه المجهدتان بأشلاء القمامة المتناثرة.. بقايا خبز.. مكرونة.. علب فارغة.. قطع قماش.. كتاب ممزق.. تراقص رأسه.. غمره إحساس طاغي بالقهر.. لا أثر لبقايا لحم.. أو عظام.. رفع رأسه نحو السماء… خيوط الضياء بدأت تدب على سقفها… عوى من الغيظ ثم بصق على الأرض قائلا: “.. قاتل الله الكلسترول والرواتب الوضيعة…..”.
القبر…..
على غير عادتهم.. دفنوه في الصباح الباكر.
شيعوا جثمانه على عجل وكأنما ليرتاحوا من عناء واجب ثقيل. سكبوه في حفرة ثم أهالوا عليها التراب وافترقوا عائدين إلى بيوتهم وأعمالهم. لم تشهد المقبرة قط مراسيم دفن بهذه العجالة. ما أن اقترب المغيب حتى وفد بعض الزوار.
امرأة عجوز ..دنت من القبر.. قبلته.. رشته بماء الزهر.. تمتمت كلمات لم يتسنى لأحد سماعها.
طفل صغير.. همس شيئا للقبر.. ثم اختفى مسرعا.
امرأة شابة.. لم تقل شيئا.. وضعت رأسها على القبر.. غسلته بدموع دافئة.
أخرى أكبر سنا توجهت إلى السماء متضرعة بالدعاء.
في أواخر الليل زار القبر رجلان.. تلتفتا يمنة ويسارا.. وضعوا إكليلا من الزهور.. ثم غادروا في عجالة.
سكبت السماء مطرا رحيما تلك الليلة..
دنا القمر بحنو… اقتربت شجرة عجوز من القبر.. انحنت حتى تقوس ظهرها.. ثم قبلته بأغصانها…