حسين حمودة | مصر
هذه قراءة متواضعة في رواية عبد الحكيم قاسم (قدر الغرف المقبضة)، من زاوية بعينها تركز على تجسيد العالم كله، في هذه الرواية، كزنزانة هائلة.
لا تختصر الزنزانة، وحدها، بحيزها الخانق الضيق، عالم السجن بدلالاته المتعددة. عالم السجن؛ بزمنه ومكانه وأشكال معاناته، مقرون بمعان يمكن أن تتخطى الأسوار العازلة المعزولة، المحفوفة أحيانا بسلك شائك أو “مكهرب”. وفى امتداد السجن خارج أسواره قد تطال وطأته ـ أو قد تطارد ـ أزمنة أخرى وأمكنة أخرى يتحرك خلالهما السجين الذى أطلق سراحه، كاملا أو منقوصا، فلم يعد سجينا ـ في الأوراق، على الأقل. بل ربما يتحرك خلالهما من لم يزج به، بعد، إلى غيابات الزنزانة. كذلك قد ترتحل هذه الوطأة إلى خارج أسوار السجن لتلازم ـ وهذه هي الوطأة الكبرى ـ روح السجين السابق أو المرتقب (باستعادة حرفية لمعنى البيت الشعرى الشهير لناظم حكمت: »أسوأ شيء أن نحمل في أنفسنا السجن«)، مما يجعل العالم المفتوح المترامي، كله، مرة وإلى الأبد، سجنا شاسعا هائلا، وإن احتوى ما لا حصر له من مشاهد تبدو الحركة فيما بينها، ظاهريا، حرة متحررة؛ عبر زمن حاضر أو زمن محتمل، عبر شوارع وساحات وميادين وشواطئ وبحار ومحيطات.. إلخ.
العالم سجنا وضع إشكالي له امتدادات قريبة وبعيدة. وقد يصعب التعبير عن هذا الوضع، أو تجسيده، بمنأى عن، أو بمنجى من، غواية استخدام سرد يتأسس على حشد من عبارات التقييم والإدانة، وإن كانت هناك، بالطبع، كتابة قادرة على أن تنأى عن تلك الغواية أو تنجو منها. وهذا الوضع، من وجهة أخرى، قد يلوح موصولا بسياق اغتراب مطبق شامل يجاوز تجربة السجن، بالمعنى الحرفي، ليتماس وبعض قضايا الوجود الإنساني. لكن، مع ذلك، بعيدا عن تقصى تلك الامتدادات البعيدة، يمكن تلمس هذا الوضع، في أحد مستوياته القريبة، من حيث هو حضور أو حلول لـ”زمكان” (متصل زمنى/ مكاني) بعينه، في “زمكان” آخر؛ أو ـ بكلمات أخرى ـ يمكن تناول هذا الوضع باعتباره إحلالا ـ وربما احتلالا ـ من قبل دلالات السجن، المحددة والمحدد، لدلالات العالم الواسع، الرحيب، غير المحدد وغير المحدود.
بهذا المعنى، فزمن السجن ومكان السجن، يمكن أن يرتحلا إلى أزمنة وأمكنة أخرى، بما يشى بواقع بعينه يرزح عليه القمع. ولعل هذا المعنى قائم في عدد كبير من الروايات المصرية والعربية، أتوقف هنا عند رواية منها يتجسد فيها السجن خارج أسواره، هي رواية الكاتب الراحل عبد الحكيم قاسم (قدر الغرف المقبضة).
الغرفة، التي تمثل ـ بصيغة الجمع ـ مركز الدلالة في عنوان الرواية ـ “قدر الغرف” ـ والتي تقع على نقطة متقدمة من حيث التعبير عن معنى الألفة ومعنى الانتماء فيما يسمّى “سلسلة القواقع المكانية”، يغيب عنها ـ هذه الغرفة ـ في هذه الرواية، كل معنى للألفة أو الانتماء.
تبعا لسلسلة “القواقع المكانية”، تتدرج الأماكن، في تعبيرها عن الألفة وعن الانتماء، وأيضا في اقترابها من الذات وابتعادها عنها، عبر سلسلة مفرداتها متراتبة متدرجة: تبدأ بجلد الإنسان باعتباره مكانا، ثم ثياب الإنسان باعتبارها مكانا، ثم الحجرة، ثم الشقة، ثم البيت، ثم الشارع، ثم الحى، ثم المدينة، ثم الوطن، وأخيرا العالم. يتراجع الإحساس بالألفة وبالانتماء، تدريجيا، خلال الانتقال عبر حلقات هذه السلسلة. لكن في (قدر الغرف المقبضة) لا يتراجع هذا الإحساس فحسب، بل يطاح به، ويتلاشى من هذه الحلقات جميعا، من آخر السلسلة لأولها.
ترفع (قدر الغرف المقبضة) الإحساس بوطأة السجون، ومعاناة حصار جدرانها، إلى درجة القدر الكوني الذي يلوح لا راد له ولا مهرب منه. ولا يتحقق هذا المعنى، فحسب، خلال حضور تجربة الراوي (المتكلم/ الغائب معا، بصيغة الالتفات) عبدالعزيز في السجون المصرية المسماة، في زمن مرجع بعينه ينتمي إلى السنوات السابقة على عام 1964 (انظر الرواية ص104)، وإنما يتجسد هذا المعنى أيضًا خلال تناول كل البيوت والشقق التي سكنها هذا الراوي، قبل تلك السنوات وبعدها، في قريته غير المسماة، ثم في مدن عدة تبدأ من «ميت غمر» بدلتا مصر، وتنتهي ببرلين ـ »الغربية«، باعتبار ما كان ـ مرورًا بطنطا والإسكندرية والقاهرة.
«قدر الزنزانة»، متمثلاً في ضغط الجدران التي تحجب كل أفق، وتقطع السبيل على كل إحساس بالحرية، يبدأ مع «عبد العزيز» «في» و«من» تلك الدار التي قضى فيها طفولته الباكرة بقريته. ومن العبارة الأولى بالرواية، حيث تعاود عبدالعزيز كلمات أبيه بين آن وآن: «هذه الدار ريحها ثقيل» (الرواية، ص3)، يتشكل المسار الذي تلح عليه تفاصيل القسم/ الفصل الأول من الرواية، المتصل مكانيًا بتلك القرية، والمرتبط زمنيًا بما قبل انتقال عبدالعزيز منها إلى أماكن أخرى لاستكمال تعليمه. وابتداء من هذا القسم/ الفصل الأول (والتقسيم غير منصوص عليه لغويًا بالرواية، بل إشاريًا فحسب، حيث يستخدم الكاتب محض فراغات بيضاء للتعبير عن انتقالات الأقسام/ الفصول).. ابتداء من هذا القسم يتم الإلحاح على ما يجعل هذه الدار تستوي والسجن، أو ما يجعلها إرهاصًا مبكرًا لتجربة السجن، بالمعنى الحرفي؛ فباب هذه الدار يظل مغلقًا دائمًا «ليحبس في الباحة الصغيرة هواءً ثقيلاً» (الرواية، ص3)، وأم عبدالعزيز وأخواته سجينات بهذه الدار، «مخبوطات بالزمتة دائخات من الحر»، بل يمتد هذا الإحساس بالسجن إلى حيوانات الدار وطيورها (انظر الرواية ص4).
الوجوم، والصمت، والذعر، والرطوبة، والحرّ، والبلى، والتآكل، والتدهور، والعتمة، والأشباح، والاختناق.. كلها مفردات تتردد كثيرًا في الإشارات إلى هذه الدار، ابتداء من سطور الرواية الأولى إلى الصفحة الحادية والعشرين التي تمثل نهاية هذا القسم/ الفصل. وكل هذه المفردات تؤكد صيغة الحياة، الشبيهة بالموت، التي يحياها عبدالعزيز وأبوه وأمه وأخواته بهذه الدار التي توضع في مواجهة فردوس غائب؛ «وضع أصل» مفتقد، متمثل في دار قديمة كانوا يعيشون فيها، وطردهم منها جد عبدالعزيز بعدما غضب على ابنه (انظر الرواية ص4 ـ ولنتذكر هنا “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ). وسوف تظل تلك الدار الغائبة، التي تصوّرها وصاغها عبدالعزيز من حكايات أمه ومن ذكريات غائمة مبتورة لا يزال يذكرها هو، بمثابة حلم مراود، كأنها جنة مستحيلة، تستثير الحنين المتصل إلى أوبة إليها، لن تتحقق أبدًا.
معنى القدر الذي يجعل من دار عبدالعزيز سجنًا، يمتد ليشمل دور القرية جميعًا تقريبًا. وفيما عدا إشارات إلى جزء ضئيل من إحساس براحة تقترن بدار الأرملة التي يزورها أبوه (انظر الرواية ص10)، وبدار «الحاج صقر» التي بناها خارج القرية (انظر الرواية ص15)، وبدار «عم محمد أفندي» زوج صغرى عماته (انظر الرواية ص17)، ثم بالمسجد الذي رأى عبد العزيز، للوهلة الأولى، أنه يمكن أن يعيد لروحه «صفاء وطمأنينة يحلم بهما» (الرواية، ص20).. فيما عدا هذه الأماكن ـ على سبيل الحصر ـ فكل دور القرية الأخرى سواء في عالم الجحيم/ السجن، لا تختلف في شيء عن دار أبيه، بل إن هذه «الاستثناءات» المتمثلة في هذه الدور الثلاث سرعان ما يدركها البلى، وسرعان ما يكتشف عبدالعزيز في المسجد عالمًا آخر، محض مكان مستور للنميمة والأشباح والغرائز المستترة والقذارة واللواط؛ سوف يدرك عبدالعزيز أن هذا المسجد «تشوبه روح داعرة»، وأن «التدين والفسق يختلطان فيه بطريقة محيرة»، وسوف يقل تردده عليه، منتهيًا إلى أن «الإنسان يحتاج في الحقيقة إلى بيت» (انظر الرواية ص21).
خارج هذه الاستثناءات، التي سوف تتكشف عن عالم آخر متكرر ينفى كونها استثناءات، تتزاحم دور القرية وتتراص وتتلاحم لتكوّن سجنا واحدا كبيرا؛ كلها «دور غامضة (…) يخرج منها أهلها كأنهم فارين [فارون] إلى الخلاء» (الرواية، ص12)، وكلها «تقف في أماكنها خالقة للناس ضيقًا وعنتا في حياتهم»، وجدرانها المتزاحمة ترسم تيها «من الخوف والجمود والبلادة (…) على الأرض، متعوجًا متداخلاً حاصرًا الفكر والروح، ضاغطًا على القلوب [التي] تعفن في حبس الدور المقبض وتنتن بالحنق والنزاع» (الرواية، ص13).
بانتقال عبدالعزيز إلى مدينة «ميت غمر» ثم مدينة «طنطا»، لا يتحرر من هذا السجن الممتد، وإنما يكابد تجسيدات وتمثيلات أخرى له. فالبيت الذي انتقل للسكنى فيه بمدينة «ميت غمر» كان «قميئا زريًا» يحجب عنه كل أفق، ويجعله دائمًا «ضائقًا بالشبابيك العالية التي لا يستطيع أن يطل منها على الشارع» (الرواية، ص22)، يحاصره – في حجرة يسكنها من حجرات هذا البيت – الغموض والعتمة (انظر الرواية ص25)، وينهكه قضاء الليل «بطوله عريانًا على خشب الأرضية» (الرواية، ص26)، مما يجعله يشعر بشيء «مكسور ذليل مناطه هذا البيت» (الرواية، ص30).
وفي «طنطا»، كذلك، يلوح عبدالعزيز مطاردا بقدر السجن خلال الغرف/ الزنازين التي يسكنها، سواء غرف الطلاب «الكئيبة [حيث] يتحاضن العيال ويلوط الكبار منهم بالصغار» (الرواية، ص45)، والتي يتزاحم فيها البق الزاحف على الجدران والخنافس والصراصير الزاحفة على الأرض، والتي لا نوافذ لها غالبًا (انظر الرواية ص49)، بما يجعله يخشى هذه الغرف كما يخشى القبر، وبما يجعل هذه الخشية تلازمه فيما بعد. بل يمتد معنى السجن من هذه الغرف إلى المدرسة نفسها التي يلتحق بها، حيث ردهاتها أمام الغرف «طويلة بلا نهاية ولا زخرف»، وفناؤها «شاسع قحل تطل عليه جدران المدرسة العالية الجرباء» (الرواية، ص44)، وغرف مدرسيها «صغيرة معتمة»، يتم الوصول إليها باجتياز «سرداب مظلم» (الرواية، ص48).
هذا القدر/ السجن يجعل عبدالعزيز يوجه حلمه القديم بدار لا تحمل معنى السجن وجهة أخرى؛ نحو «المخابئ» التي أقيمت للجوء الناس وقت الغارات لتحميهم من القنابل؛ فهذه المخابئ ـ رغم أنها واطئة، رطبة، معتمة قليلاً – «مبلطة الأرضية وبها شبابيك صغيرة لطيفة»، داخلها «هواء متجدد»، مما جعل عبدالعزيز يحلم بأن «يكون له مخبأ (…) يخصه وحده» (الرواية، ص24). هذا الحلم، الموصول بجنة الجد الذي طرد والد عبدالعزيز من الدار الأولى، سوف يتصل بأحلام خال عبدالعزيز، المهندس المعماري، الذي يرسم بيوتا رائعة على الورق، لكنها بعد تمام بنائها تبدو «صغيرة زرية» (انظر الرواية ص37). وسوف يظل عبدالعزيز يحمل معه، بداخله، هذا الحلم، خارج ميت غمر وطنطا، في الإسكندرية والقاهرة، منتهيًا ببرلين، مارًا بلندن، وسوف ينتهي حلمه هذا – «بأن يكون له دار لوحده، يجمع في هذا الدار كل ما رآه حسنًا في كل دار رآها» (الرواية، ص19) ـ إلى إحباط رازح، تمامًا كما انتهى حلمه بهذا المخبأ.
في البداية تبدو الإسكندرية استثناءً عابرًا في رحلة عبدالعزيز عبر المدن/ السجون. يراها، للوهلة الأولى، «نظيفة ساحرة»، ولكن – فيما بعد – يكتشف أن شققها «صغيرة ومعتمة ومقبضة تثقل على [روحه]» (الرواية، ص64 وانظر أيضًا ص65). وفي الإسكندرية سوف يتبلور ويثار تساؤل عبد العزيز، بلسان جمعي: «لماذا نرمي فرائس للحيطان الجرباء والقبح (…) أي قدر يحسبنا [يحبسنا] في هذه الأحقاق بلا مفر» (الرواية، ص67).
والقاهرة لا تنأى عن تدعيم الإحساس بهذا القدر الذى يلوح لا راد له. وفضلاً عن صور القاهرة التي ترتسم بلمح مقبض، حيث فيها الناس «حيوانات كاسرة مذعورة» (الرواية، ص53)، وحيث «الضجيج (…) أكبر والكآبة أعمق والأسئلة لا تجد جوابًا» (الرواية، ص79)، أو حيث تتلخص القاهرة كلها في « ركام من القبح والضجيج (…) ناس بلا روح ولا ذاكرة في مدينة بلا روح ولا ذاكرة» (الرواية، ص117)، أو تصبح «ساحة عجيبة مليئة بمبان شائهة» (الرواية، ص124).. فضلاً عن هذه الصور؛ فالغرف التي يسكنها عبدالعزيز بهذه المدينة، سواء على أسطح عماراتها أو في حي الدعارة المسمى «درب طياب» أو في «أرض الفرنواني» .. كلها تقترن بوطأة خانقة، تؤكد فعل القهر الذي تمارسه الجدران على ساكنيها. في هذه المدينة عاش عبد العزيز «تحاصره وتكتم أنفاسه رائحة نتنة خانقة» (الرواية، ص57)، «يتأمل خلو الحيطان (…) من دليل على وجود بشر، بل هم بشر خائف» (الرواية، ص74)، يشعر «بقهر المنازل» (الرواية، ص108)، يتحدب «كأنه خنفساء، له روح وقلب خنفساء» (الرواية، ص76)، «تنكفئ [عليه] الحيطان والسقف» (الرواية، ص112).
من القاهرة سوف يتم اقتياد عبدالعزيز إلى «السجن» بالمعنى الحرفي؛ أو إلى ذلك «القدر» الذي لاحقته أشباحه قبل أن يطبق فعليا عليه. وسوف يتقلب عبدالعزيز عبر سجون مختلفة، قاطعًا مصر من أقصاها إلى أقصاها؛ فمن «سجن القلعة» إلى «سجن القناطر» إلى «سجن مصر» إلى «سجن الإسكندرية»، إلى «سجن الوادي الجديد»، إلى سجن «بورسعيد»، إلى «سجن مصر» مرة أخرى، قبل أن يطلق سراحه في أحد أيام شهر مايو سنة 1964، فيخرج إلى المدينة: القاهرة أخيرًا، لتتلقفه شوارع ملتهبة بالشمس وجو «خانق بالتراب وعادم العربات والضجيج المجنون» (الرواية، ص104) [في موقف يستعيد، حرفيا، هذه المرة، موقف سعيد مهران بعد خروجه من السجن في رواية نجيب محفوظ (اللص والكلاب)].
في هذه السجون جميعا عانى عبدالعزيز “قدره” الذي كانت قد صاغته – قبل مواجهته الفعلية – دور وبيوت متفرقة، في قريته ثم في مدن عدة. ورغم أن زنزانة السجن، بالمعنى الحرفي، تختلف عن الغرف التي سكنها بتلك الدور والبيوت التي لا نهاية لها، حيث «الرعب الكامن في جدرانها [الزنزانة] وشباكها وبابها شيء لا يحتمله قلب إنسان» (الرواية، ص82)، فإن هذه الزنزانة ليست ـ في الحقيقة ـ سوى امتداد لسلسلة تلك الغرف؛ «فالقضية [فيما يتأمل عبد العزيز] هي قبح المساكن، وأن الواحد يلقى من حفرة إلى حفرة (…) وأن كل حس فيه بالجمال لا يحترم لدرجة تهدد بفقدانه لوعيه وإحساسه بذاته كبشر» (الرواية، ص82). وإذا كان السجن، بالمعنى الحرفي، «يضغط على عقول الناس وأرواحهم»، فإن غرف مدينة القاهرة، والقاهرة كلها، أيضًا، تضغط على عقول الناس وأرواحهم (انظر الرواية ص117). وعلى مسار هذا المتصل بين السجن المسمى والسجن غير المسمى، الزنزانة المحدودة المغلقة والزنزانة المفتوحة غير المحدودة، رأى عبدالعزيز مباني قرى ومدن مصر، جميعًا تقريبًا، سجونًا أو سجنًا ممتدًا كبيرًا؛ إذ نظر من نافذة قطار كان يقله من سجن إلى آخر فلمح «العمار كتلاً سمراء معتمة بلا ضوء ولا وسامة. بيوت.. بيوت.. بيوت متلاحقة متساندة متراكبة قميئة شائهة (…) امتداد هائل من الكآبة والعجز من أول مصر إلى آخرها» (الرواية، ص102).
يرحب عبدالعزيز بفرصة أتيحت له لمغادرة مصر، ذلك السجن الهائل كما رآها ورآه، إلى برلين، ليشارك في ندوة يتحدث فيها عن الإسلام وعن «جيله» من الكتّاب (وقد أصبح كاتبًا).
عبد العزيز، وقد «حمل السجن بداخله»، واعتاد عتمة الزنازين في البيوت والسجون أو في «البيوت/ السجون»، سوف يضيق في البداية بالضوء الباهر في القاعة التي عقدت بها هذه الندوة ببرلين، ويعاوده «بشدة إحساسه بالزنازين» (الرواية، ص126). ولكنه، وقد انتهت الندوة، سوف يعمل على أن يمد إقامته بهذه المدينة التي رآها أول ما رآها «كأنها أم رائعة مضمومة [ملمومة؟] الشعر مشرقة العينين»، ثم سرعان ما يدرجها في سلسلة مدنه/ سجونه الغابرة؛ إذ يتكشف له «حزنها قعيدة خلف الأسوار المحدقة بها بلا رحمة (…) سجن يضغط على أعصاب المدينة حتى يكاد يزهق أنفاسها» (الرواية، ص143). وفي رحلة قصيرة من برلين إلى لندن سوف يرى في المدينة الأخيرة امتدادًا للمعنى نفسه.
كما حمل سيزيف صخرته/ قدره، وكما ظل يدفعها فتدفعه، يدافعها وتدافعه، حمل عبدالعزيز قدره/ سجنه إلى برلين ثم إلى لندن. صاغت هذا القدر غرف كالسجون، في قرى ومدن كالسجون، قبل أن تكمل صياغته تجربة السجن الفعلي المسمى. وفي برلين سوف تقبر عبدالعزيز حجرته كما قبرته حجراته في وطنه. وسوف ينال من جسده المرض الذي يلوح الموت نهاية له، في «مصير يتربص خلف اليوم أو الغد أو بعد الغد». لقد صرعته في العالم الواسع، الذى غدا زنزانة كبيرة، «واحدة من هذه الغرف وقد سقط بلا أمل في النهوض» ـ بكلماته الأخيرة بالرواية (الرواية، ص149).
لا تطيح ـ فحسب ـ (قدر الغرف المقبضة) بكل التصورات عن سلسلة أماكن العالم وارتباطها بمعنى الألفة ومعنى الانتماء، بل إنها أيضا لا تصغى لما ينطوي عليه بيت ناظم حكمت من حكمة تشبه النصيحة، أو من نصيحة تشبه الحكمة: “أسوأ شيء أن نحمل في أنفسنا السجن”. لكن الرواية، من وجهة أخرى، تصوغ تساؤلها الكبير، الذى لا يخلو من إدانة، عمن صاغ ذلك القدر الذى ساق العالم الواسع وزج به في مسار خانق، واختزل رحابته في زنزانة، فأدى إلى هذه الإطاحة بكل ألفة وانتماء، وإلى عدم الانصياع إلى تلك الحكمة التي تشبه النصيحة أو تشبهها النصيحة.
هل اختار عبد العزيز زنزانته؟
من أحكم إطباق جدران هذه الزنزانة؟
ومن وقف عليها سجانا؟
وكيف استحكم قدرها ليحجب، في كل مكان، كل سماء؟
ومن، وما، كان وراء هذا كله؟
وهل من مشهد آخر مختلف، في زمن مقبل محتمل، قريب أو بعيد، يمكن أن تطل عليه “كوة” ما في هذه الزنزانة؟
تتركنا الرواية نقلّب، في رؤوسنا وفى ضمائرنا، إجابات شتى، كثيرة.
عبد الحكيم قاسم، (قدر الغرف المقبضة)، مطبوعات القاهرة، القاهرة، 1983.
هوامش:
ـ ـ تفيد هذه المقالة، إفادة أساسية، مما كنت قد تناولته في كتابي: (الرواية والمدينة ـ نماذج من كتاب الستينيات في مصر)، كتابات نقدية، العدد 109، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2000.