يلْعِن تلكَ الحاجَةِ التي تجْعله ينْتظِرُ كلَّ هذا الانتظارِ. الشَّمْسُ أخذتْ تتعامدُ على الميْدانِ الفسِيحِ المُطِلّ على منْطَقةٍ (المَنْشيّة)، أعمالُ حَفرٍ جاريةٍ، وخَليطُ مِنْ الشَّغيلةِ يتحلّقونَ بسَحْناتٍ عابسةٍ حَولَ حُفرةٍ يتدفقُ منها الماء، بعضُهم يسْحبُ الماء بشادُوفٍ، البعضُ الآخر يُعالجُ أكداس التُرْبة من حَوافِ الحفرةِ، يخْرطُها بعيداً بجاروفٍ، يحدث أزيزاً مزعجاً فوق الأسفلت….
كانَ المزاجُ رطباً، وكُنْتُ أودُّ أن أسألَ هذه الفتاةِ الواقفةِ بجواري؛ لولا أنَّ الحركةَ الصاخبةُ في الميدانِ تَحُولُ دونَ أنّ يُسْمعَك أحدُ حتَّى لو صرختً مئةَ عامٍ في وجه هذا الحشْد الهائل من السيّارات، هُنَا بالضَبْطِ عُنق الزُّجاجةِ المؤدي إلى بن عاشور، سيّاراتُ فارهةُ جداً تتخلّلها أُخْرى متهالكة جداً، يتبدْى على وجوه جميع السائقين تلك العصبية النزقة، يزيدُ من أوارِها اختناقَ الطُرُقِ المنتهيةِ عنْد الميدانِ. في هذه اللحظةِ بالذات لهبُ الشَّمْسِ العَمُوديّ المُسلّط على الرؤوسِ يَحْرقُ الأجْسادَ المحْشُورةَ في عُلْبِ الزّنْك، هُناك إحساسٍ عامٍ حارق يُغطّى الميدانَ لهفةً لِجُرعةِ ماءٍ باردٍ، تُرطّب الشّفاهَ، ويدْعو مِنْ خلف المشهد إلى ضُرورةِ البحْثِ عَنْ مكان عاجلا، يلطف هذا الهجير الذي يشْوي الأعناق والأكتاف دونما اكتراث.
الكلُّ هنا يُريد أن يخرجَ من جَحيم الميدانِ، آلات تزمّجرُ مفصحة عن رغْبة قارّةٍ في الخروجِ والانطلاقِ نحو الانعتاق. في آخر الرّتْل أبواقُ من كُلّ الأنواع تَضْربُ المكانَ بسوْطِ الازعاجِ، تسْتحِثُّ على كسْر الطابورِ الملتحمِ بالسيّاراتِ المتجَمّدةِ فوْقَ الأسْفلت…. ليس في الإمْكانِ، أنْ تأخذَ وظيفةَ أُخْرى غيرَ وظيفتِكَ! … أنْ تتطوعَ كَشُرْطِي مرورٍ تفِكُّ طوقَ السيّاراتِ المتيبسةِ، وتحرّرُ السائقين مِنْ عُبوسِهم اللعين … ما عليْك إلاّ انْتظار في رُكنِ الميْدان القَصِيّ قدومَ الحافلةِ الصغيرةِ المُجنّحةِ ، و هي تطير فوقَ الزِّحام ، أو تطْفو فوقَ يَمِّ المُحركاتِ الانفجارية النّزِقةِ ، بانتظار لم تكن تعرفه منْ قبْلِ تَعَطُّلِ سيارتِك رفيقتك في هذه الدروبِ اليوميّة , الآن تبدي لك الحياةُ ما كان مخفياً , وعليْك أن تكونَ واحداً من هؤلاءِ في مسيرةِ الراجلين إلى جيوب المدينةِ ، محمّلين بأثقال لقمة العيش العنيدة , وقدْ عرفتَ لتوّك , أنّ حواسَك مفتوحةُ ونافذةُ في وسْط ِهذه الخَليّةِ الداجة بالحركة ِ وصوْتِ المُنبْهاتِ و صرير الفراملِ أمام عيْنيك موجةً أثرَ موجةٍ ، فتظْهر وجوهُ يعْلوها الكدرُ تطلُّ من نوافذِ حافلةٍ صغيرةٍ مُقبلةٍ متسمرين فيها رُكَّاب كمشْبك دبابيسِ مغروزةُ متراصّةُ , ووجوهُ أُخْرى متْرفة تنْزاحُ منْ خلْف ألواح زجاجّية مُلونة لعرباتٍ فارهةٍ مكيفة , تبدو لينةً تماماً ومرتخيةً تماماً ، كأنها قطط ُ سياميّة , ترْسم بأعينها الهادئةِ نظرةً متعاليةِ على المستقبل فوق كُرْسي وثير ، وهذه الأخيرة لا تخطئها عيونُ الشّحاذين الصغيرةِ المستريبةِ وتقْصُدُها مباشرةً .
خرجتُ في الّلحْظَةِ من هذه الجوْقةِ المتنافرةِ على أثرِ حافلةٍ صغيرةٍ ، تسمّرت أمامَنا ، أطَلَّ من بابها طفلٌ يطارده صِباه المُبَكّر , طفقَ يغْرزُ عينيه كمثْقاب دقيق في وجوهِنا ، وينادي باقي الواقفين بصوتٍ حادٍ مُعْلناً عن اتجاه الحافلةِ إلى مِنْطقتيّ زناتة وسوق الجمعة , يشير بكفٍ قابضةٍ على رزمةٍ من الأوراق النقدية في الهواء , فتتناثر أمواجَ الأوراقِ المرصوفةِ بين الربع والخمسين والدينار بين السَّبابة والإبهام كطائرٍ حبيس يضْربُ الهواءَ بجناحيه ، ولم يكدْ ينطقُ الصبيُّ بالحرف الأول من جملته الحادّة , حتى اندفع بعض الواقفين إلى داخل السيارة بطريقة جنونية ، حسبت معها أن أشرعة الباب دراعان مفتوحان لباب الجنة , وبالفعل أو ما يشبه ذلك , اذ يظهر من شرعة البابِ سيّدةً بمنتصفِ العُمر هادئةَ السماتِ أنيقةَ المظْهر , جالسةَ على كُرْسي في استرخاءٍ تامٍ , تطلُّ علينا جَميعا بابتسامةٍ كالشُّهْد , تكْشف أسنانها البيضاءَ كاللبن عن ثغرٍ ضحوكٍ يزيلُ الهمَّ عنْ القلب وتكسوه شفتان منفرجتان قليلا بلون الورد الفاتح . اندهشتُ في البدايةِ من وجودها الرائع بين الحَشْد المرصوص من الرُّكاب بهذه الحافلةِ الضيّقةِ ، زادَ حضورُها مِنْ ثقتي وتشجعي على انتظار الحافلة التاليةِ المتجهة الى سيدي الهاني بدلا من السير على الأقدامِ فوق أرصفةٍ تستفزْكَ من رصيفٍ إلى آخر بالأسلاك الكهربائية الممتدةِ كثعابين فاغرةٍ ، أفواهها مُستعدة لتنْهشك في الحال بالصَّعْقة المُميتة عند أدنى لحْظة شرودٍ ، وإن تَحوّطتَ من الأسْلاك ، فإنهُ لا بُدَّ لمسارك فوق الرصيف أن ينتبه لحُفر غرف التفتيش والصَّرف الصَّحْي العارية دون غطاء ، هِيَ الفخ المتأهب ….وإلا لن تكُفَّ هذه الحفر عن معاقبتك على هذا العَمَ والشرودِ الذي لا يليق حتى بذواتِ الأربعِ ….. رأيتُ أن لديّ مِنَ الوقتِ ما يكفي لموافاةِ صديق الطفولة بالموعدِ المضروبِ بمقْهى الهاني، ….. أنسدَّ البابُ على الوجه المبتسم بتمهل، فظننت أن هذه الحسناء لا يمكن أن تكونَ إلا ملاكا أو مبعوثا من السماء يراقب حياتنا، أو جُنّتْ المسكينةُ حتى تحْشر نفْسها في هكذا علبة سردين تكتسح طريقها بمحرك انفجاري متهالك ….. قلت في خاطري ــ طبعاً ــ كم سيلعننا الله علي إهانة المرأة بهكذا صورةٍ ، وأخذ فانوسها الصغير الخلفي يغمز تجاه عطفة الميدان بتمهُّل حيثُ مجالها الحيوي المقبل , وتعلقت أنظارنا جميعا نحن الواقفين بالمحطة على عبارةٍ مكتوبة بخط رديء على زُجاجها الخلفي : ( سر على بركة الله ) من وراء سحابة من الدخان الأسود المتطاير , بينما كانت عيناي على الفتاة المتسمرة بجواري كتمثال منشوب من الصخر فوق الرصيف , كان طيرُ فضولي يحومُ حول جهامتها في الميدان , وعدم اكتراثها لما يجري من حركة وضوضاء , سامقة كالنخلة في وجه الريح , بخيلة في النظرة الهادئة و الابتسام العفوي , كانعدام الرطب الجني في حديقة الانتظار الممل .
لست أدري، لماذا أحسست بموجة من الاندفاع تصاعدت في دمي، وسرت في كياني قشعريرة عاتية، لأكسر هذا الجليد البائس المتكلس على وجهها، وسألتها بأدب من يتكلف الجد الرصين:
ـــ عفوا يا آنسة، هل تمرُّ من هنا الحافلة المتجهة إلى سيدي الهاني أو سيدي المصري؟
لم أتلق لا إجابةً ولا حتى نصف إيماءَةٍ، فقدرتُ أنّها لم تسمعْ استعلامي المُباغت، أعدت صيغة َالسؤالِ من جديدٍ لا غيا هذه المرةِ كلمة (سيدي) مع تركيز نظري على بهاء وجهها بأني أريد منطقة الهاني فردت على تساؤلي مرتعدةً. وكأن أحداً صبَّ على وجهها الطفولي ماءاً بارداً، وأشارت بكفْها اليمنى للطريق بنزقٍ:
– ……أيوه، هذا الطريق يؤدي إلى مقْبرة سيدي الهاني!!
لقد فاجأني ردَّها المقتضب العنيف. مرّت لحظة وكأنها الدهر، تسمّرت في مكاني سيطر العبوس على المَكان، أخذت الوجوه تتفرس في وضعي المخزي حول منبت سؤالي الفاجر. داهمتني أمواج من الغربة واحسست بغربتها أكثر. حاولت بهدوء متكلف ازالة سوء الفهم، ان أذيب جليد الغربة بيننا بلقاء انساني رائع، يفتح اطلالة على نهار صبوحي في أحد أيام القهر الرجالي القديم، يحرر هذه الأوجاع القديمة التي تعشعشت في وجداننا المشطور بين التذكير والتأنيث. الانشطار الذي يمنعنا من مذاق الحرية الواعية والاحترام الانساني ويجعلنا مطرقة وسندان ، خلعت أسمال رجولتي المزيفة ، وصرت طفلا بريئا قادرا على أن يستنطق هذا المسكوت بيننا ، ويلغي هذه المسافة الوعرة والدروب الملتوية ، ثم تحولت إلى فيلسوف يدس انفه في أصل الانشطار ليعلمنا اننا لم نتعرف بعد على هناءة الايام في مشوارنا اليومي … فدائما هذه اللغة المبهمة وهذه الفخاخ المنصوبة في صراعنا اليومي ، والاستهداف الذي يقصم عرى حياتنا بطريقة مَرَضية يبدد رونق الحياة ، ويجعلنا في حالة من الحمى الجماعيّة التي تطبع بصمتها على كل فرد منا ، وتمنعنا وصلا وتواصلا مكشوفا حقيقيا يغذي كينونة الوجود ويحترم كل منّا الآخر .
اقتربت الحافلة الصغيرة، وهي تسحب نفسها سحبا من رتل العربات كالغريق الذي يريد انقاذ نفسه من دوامة الأسفلت الأسود، ومن ضوضاء التلاميذ المتناثرين كالشموع. والمنتشرين كالعصافير على ركح المحطة، تقدمت بخطى واهنة وسألت السائق عن الاتجاه وعرفت أنه اتجاهي، ونظرت خلفي وكأنني مشدود بوتر لأفسح المجال الحيوي لصاحبة الوجه الطفولي أن يمرق داخل الحافلة لكنه لم يمرق..
عند مقهى الهاني تحديداً، جاء صديق الطفولة يرفل بمشيته الهادئة. قد تأخر عن موعده كالعادة، وكنت قد شرعت في نقاش حاد مع القهوجي حول نوع القهوة التي أسقاني اياها مشاكسا في حسم … انها ليست بقهوة، انما هي سائل مصبوغ. ليس له رائحة القهوة ولا مذاقها ، اخزاني الصبي باعتذاره الجم مع سكون اطرافه ، هزني أكثر بذلك الطيف الساكن المكسور الذى ينبعث من عينيه النجلاوين ، ما جعلني أقبل اعتذاره الجم بوخز من انسحاقي الشديد أمام لهجتي القاسية عليه ، فمن واقع خبرتي كمدرس ومربي أدرك مغزى هذه النظرة الكسيفة التي ترسل سربا من العصافير الملونة تنقر قلبي وتبحث عن قطرة ماء خاصة تلك النظرة التي تشعها من عيون كسرها الواقع الغليظ في غالب أجيال محرومة من الحب والاحترام ، أدرك ذلك في شريحة طلبتي المتراصين فوق جسر الثانوية إلى محطة الجامعة …. تحيَّر صديق الطفولة في البداية، فهو لا يدرك هذه الحِدَّة في تعاملي، ثم سكنت أطرافي عندما قبلت اعتذار الصبي القهوجي باعتذار رحب كبير عند قوله إنه مجرد خادم للزبائن، واجبه توصيل الطلبية فقط، عمّ صمتٌ أحتوى المكان على أثره قال الصديق:
ــ إنَّ بيتنا ليس بعيدا، هناك في العطفة الثانية من الشارع المحاذي خلف محطة الحرية….
ثُمَّ أضاف مبتسما ومداعباً لمعرفته إني لا أحبُّ التكلف في الضيافة ولا دخول للبيوت إلا مُضطرا:
ــ ما رأيك في قهوة أصلية من بُن أصلي …؟!
ضَحِكتُ لهذه الغمزةِ، وهذا الفخ الذي نصبه … فقلت له متبسطاً:
ــ أنا بدوري أعاني من قلة الأصل في الكثير من الأشياء من حولي، تصور في العام الماضي …. اشتريت مكواتين غير أصليتين بالغلاء والكواء …وفي هذا العام بدأت أقاسي من قطع غيار غير أصلية لسيارةٍ هرمة أتندَّر عليها أمام أصحابي بتسميتها (أنتِ عُمْري)، ولست أدري حكاية الأصل والمُقلد التي داهمت أسواقنا منذ انفتاح السوق والمضاربة والسمسرة وزحف التجار الشطّار الذي اقتحموا كل شيء كالجراد وبأسهل الطرق وأقصرها في خيبة الاقتصاد بنكهة عصر الاستهلاك والمزاد ….
لم ينبس صديق الطفولة بكلمة واحدة على مما قلته، لا تعليقا ولا تأكيدا، واكتفى بشفطه واحدة عميقة من سيجارته الرديئة، ثم مسح المائدة بعينية وألقى بالعقاب على الرصيف، وداسه بقدمه اليمنى، ثم نظر إلى ساعته وقال:
_ إن سعاد الآن في انتظارنا، وانتظار عبقريتك مع أول درس خصوصي في مادتي علم النفس والفلسفة، ولا تنسى همتك فإن امتحان الدور الثاني على الأبواب، على الرغم من تقديرها العام كان جيدا جدا ….
أجبته بلهجة قاطعة:
ــ سوف تنجح. وتتأهّل لكلية الحقوق، وربما تدافع عنك وأنت وراء القضبان مادامت ارادتها في القانون.
ضحك وأردف:
ولماذا لا تدافع عنك أنت يا لئيم؟!
لم يكن لدينا وقتاً أو مزاجاً للضحك كما في العادة، انتصبنا واقفين وشرعنا في المشي على رصيف ضيق من شارع يربط بين سيدي الهاني بسيدي المصري، وكان عقلي طوال مشينا على الرصيف حذرا ومتأهبا من غول سرعة السيّارات المجنونة من الناصيتين، بينما كانت عيني اليسرى على الطريق، وأذناي ترهفان اقتراب أي صاروخ ينفذ بجوار حافة الرصيف، وقبل حتى ان يفكر، أقف ثابتا واتلفت في وجه السائق محذرا … أرمقه بنظرة فيرمقني بنظرة تليق بمقام شبحين محشورين فوق رصيف ضيق. لاحظ صديقي علامات الانشغال عن حديثه، ولم ينقذني من انتباهي المتحفز الا عندما اشار إلى محطة الحريّة للغسيل وتشحيم السيارات حيث خلفها مباشرة قرية الشعب، وبيته هناك بالجوار ليس ببعيد.
عالج باب البيت ، واستأذنني بالدخول في حياء إلى حجرة جانبية نظيفة وضيقة ، خزانة صغيرة منصوبة في الواجهة ، وفرش ممتدة طولا وعرضا بمساند تحتويها ، ثم صورة كبيرة بارزة تتوسط الجدار يطفر منها وجه مدور وعينان صافيتان تشعان ببريق جذاب كأن الناظر على عهد قريب بهذا التعبير من جملة ملامح تنز بالفراق والكمد ، جاء صديق الطفولة بالقهوة ترتجّ فوق صفرة معدنية تنشر غلالة دخانها المرتعش المتجاوب مع كوب شفاف من الماء الرائق اللامع ، هنا في هذه الغرفة نكهة المكان معطرة بالأنس ، بين لحظة الرشفة الأولى من القهوة وسحب نفسا من الدخان الأبيض المتراقص ، كان هناك نقرٍ خافتٍ على الباب ، لم انْتبه في البداية إلاّ بعد ان ارتفعَ صوت مُضيفي بلغةٍ آمرةٍ بالدخول ، دخلتْ سعاد بوجهها الطفولي المدور تسمرت في البداية مشدوها وأنا اقف أمامها محيا ، كما تسمرت هي واقفة تفتش عن كلمات التحية و الترحيب ، قلت لصديق الطفولة هذه أختك . قال : نعم . قلت: أعرفها وهي تعرفني جيدا فقد دلّتني منذ ساعتين في ميدان القادسية على قهوة مقبرة سيدي الهاني، ضحك صديق الطفولة بملء شدقيه، وابتسمت بدوري لضحكته، لكنها هي لم تضحك ولم تبتسم بل زادت جمودا من ضحكة أخيها وتبددت كمومياء مقلدة من خشب الأبنوس ثم فرّت خجلي.
في الدرس الاول قالت:
إن العلوم التي تُدرس لنا مقطوعةُ الصلة بحياتنا الاجتماعية والنفسية، ثم أردفت أن هناك عنفٍ يا أستاذ … وأنت سيد العارفين، عنف يلبس ألف رداء، وألف قناع، مُوجه بطريقة لا شعورية ضد كينونة النساء في البيت والشارع والمؤسسة، ما يزال الحوار بين الرجل والمرأة مشوشا، ينقصه الاحترام ويشوبه الفوضى، الأدوار والأمكنة في دوامة هائلة ….
غمغمت في نفسي قابلا اعتذارها الجريح، وقلت معلقاً على كلامها، دون افتعال استاذية: أنه بداية الطريق إلى ميدان القادسية، طريق نظيفة مشجرة من الجانبين ورصيف واسع والأماكن والأدوار محفوظة وبمقياس دقيق دون خلط، ومسيرة للجميع دون عصبية وضوضاء وحفر وأسلاك كهربائية عارية ملقاة على الرصيف واحترام للمرأة وصون حقوق الطفل …ضحكت من عينين يشع منهما الأمل، لم أكن أدرك أنها ضحكة نفس تلك الفتاة التي كانت واقفة بجواري بانتظار الحافلة عند ميدان القادسية.