قصة

الكسوة البرتقالية

دلدل ساقيه من السيارة الافيكو نصف النقل.. وهو يتململ باحثاً عن مكان مريح بين الأكياس البلاستيكية السوداء الممددة كالجثث المنتفخة، بينما تعلق الآخر بحافة الأفيكو، واضعاً قدمه على نتوء حديدي أعلى العجلة اليمنى، يترنح جسده يمنة ويسرى مع حركة السيارة التي تشق الأزقة بمشقة…  تهتز… وتنتفض و تتوقف من حين لآخر كالحصان الطاعن في السن.

أما ثالثهما، فكان يجلس منفرداً على قمة الأكياس المرصوصة بعناية، منتصباً كأبي الهول، رافعاً رأسه نحو السماء يفرغ رئتيه بزفير قوي من حين لآخر.

ثلاثتهم ذوو سحنة متشابهة، بملامح طمي النيل، تتراوح أعمارهم ما بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين، يرتدون قطعا متفرقة من كسوة برتقالية، إما بنطالاً، أو جاكيتاً بدون أكمام عليه شريطان فضيان متوازيان، أو كسوة متكاملة “قامجو” تشقها سوستة تصل حتى منتصفها. أيديهم عارية، وأقدامهم شبه عارية تحتمي بشباشب بلاستيكية.

ما إن اقتربت السيارة من صندوق حديدي صديء يتحرك على عجلات، حتى أمسكت فرامل عجلاتها، وأغلقت منفذ الزقاق بالكامل، لتتوقف من خلفها السيارة تلو الأخرى في استكانة.

قفز اثنان منهم في وسط الزقاق، بينما انتصب الثالث فوق الأكياس، سحب أحدهم “الخباشة” المعلقة  من أظافرها على جدار الأيفكو الحديدي،  بينما رفع الآخر حوضاً بلاستيكياً غلفته تجاعيد متسخة بالكاد يتبين لونه الأحمر، ورماه بحرفية أمام الصندوق الحديدي ليرتمي بين عجلاته دون أن يصطدم به، وبدأ بهمة في رفع الأكياس الصغيرة الملونة الملقاة خارج الصندوق، يقذف بها في الهواء فيتلقفها ذلك المنتصب فوق الأكياس الممددة، يرصها فوق بعضها البعض.

وبعد أن دفع عصا “الخباشة” بيده وأسندها بقدمه على الصندوق الحديدي، بدأ ينتشل الأكياس السوداء من الصندوق بيديه العاريتين، رامياً بالكيس تلو الآخر وهو يصيح في كل مرة، بعضها ينز سائلاً تتناثر قطراته في الهواء، يلتصق بشعره المعفر ويمتزج بعرق يديه، وإذا بصاحبه المنتصب على ظهر السيارة، يتلقفها ملوحاً بذراعيه بينما تنغرس قدماه بين شقوق الاكياس الممددة، كأنه في مباراة للعبة لا يعرف قواعدها إلا ثلاثتهم، تجرى بين سيارات وسائقين وسكان العمارات التي تحف الزقاق والمارة الذين يتفادونهم و يلوون رؤوسهم وهو يطبقون على أنوفهم وأفواههم بكل ما أوتو من قوة.

و لما لم يعد بإمكانه انتشال المزيد، أخذ يغوص شيئاً فشيئاً في الصندوق الحديدي، جاذباً الكيس تلو الآخر حتى تدلى جسده إلى منتصفه، ثم أخرج جسده من الصندوق، التفت إلى “الخباشة”، داس عليها بقدمه، وتلقفها بيده، قام الآخر بدفع الحوض البلاستيكي إلى الخلف قليلاً، بينما أخذ الأول يجذب بالخباشة ما علق بالصندوق الحديدي من أكياس وفضلات أخرى، ويملأ الحوض، ليحمله الآخر على كتفه، يسلمه للمنتصب فوق الأكياس الذي بدأ ينحني في كل مرة يتلقى الحوض البلاستيكي ثم يفرغه في صندوق كرتوني في قاع العربة، ويعيده، ليتكرر الفعل ورد الفعل.

بدأ سائقوا طابور السيارات الممتد، يتململون، يحركون مراياهم ويضبطونها، يعبثون بأزرار المذياع، يفتحون النوافذ ثم سرعان ما يغلقونها، بدأت تنبعث أصوات أبواق السيارات بنقيق يتناوب من أكثر من موضع، لتتحول إلى طنين.

التفت اثنان منهم، بينما رفع ثالثهم الواقف رأسه، ونظروا بقلق إلى طابور السيارات وعيون السائقين وهي تقدح شررا، ضم أحدهم أصابعه الخمسة التي يعلو أطرافها السواد، وهز يده مراراً علامة الصبر، بينما عيناه مصوبتان نحو قدميه.

حملق سائق الإفيكو في المرآة اليمنى التي انعكست عليها  “معرقته” البيضاء، وشرع يصارع مقوده بيد و “المارشة” باليد الأخرى كأنه يقود دبابة في معركة خاسرة، يدوس على الوقود ثم يمسك الفرامل ثم يعاود الكرة،  محاولاً الرجوع بالسيارة إلى الخلف وحشرها الى جانب الرصيف ملاصقة للصندوق المعدني، الذي ما انفك يصدمه في كل مرة، فيصيح اثنان منهم بينما يحاول الثالث جاهداً الحفاظ على توازنه فوق الأكياس اللزجة. أخيراً نجح السائق صاحب المعرقة البيضاء في ترك فراغ تتسرب منه السيارات المحكمة نوافذها وكأنها تتسلل هرباً من جرثومة عملاقة.

امتطى الاثنان ظهر السيارة، تسلق أحدهما جانبها، وانزوى الثاني في أحد أركانها، يدلدل قدميه، ويطبطب على الأكياس التي تحيط به، بينما استوى ثالثهم أعلى الأكياس التي بدت له هذه المرة أكثر انتفاخاً، ليزداد زفيره علواَ.

تحركت السيارة بصعوبة بين الأزقة، كانت وهي تمر تزأر، وتنتفض، وتتوقف من حين لآخر، تخلف وراءها فتات الفضلات أثراً لمن يفكر في تتبعها !

كانوا وهم على ظهر السيارة، يرون على جنبات الطريق آخرين يرتدون مثلهم قطعأ من الكسوة البرتقالية، أسعارهم أبخس، يصطفون على حواشي الأرصفة أياً كانت جانبية أم فاصلة بين طريقين، تتسلح أيديهم العارية بعصي المكانس، يتحركون بالكاد كالزرافات، يدفعون بها الأوساخ دفعاً ويكومونها عند ناصية ما، بعضهم يقاوم بها الرمال الزاحفة من الشاطئ نحو الطريق دون جدوى. ورغم اللون البرتقالي والخطين الفضيين المضيئين ليلا، يظلون لا مرئيين كأنهم أشباح لا يرى منهم إلا اللون البرتقالي كأنه حاجز أو عمود نور أو إضاءة، أو أي شي آخر برتقالي. يكنسون أحلامهم وآمالهم التي أهيل عليها التراب بعيداً عن الفيوم وبني سويف والمنيا، ينفضون عنها الغبار، يتسرب بعض منها  بين شناشيب المكانس المهترئة لتعود مع كل صباح جديد.

طرابلس 3/ 4/ 2009

مقالات ذات علاقة

الموظف الجديد

حسن أبوقباعة المجبري

جــاگ النـبـيـل

بائعة الورد

عزة المقهور

اترك تعليق