قصة

لوحة من الحي اللاتيني


إلى عصام….. مع المودة

 

لفظت محطة مترو “سان ميشيل” فتاة نحيفة تميل إلى القصر، تلتف بمعطف أسود يصل إلى أسفل الركبتين بقليل، تثني حاشية يديه إلى الخارج لتظهر بطانة المعطف رمادية منقطة بالأسود، فتعطيها مظهراً أكثر أناقة.

تصعد بخفة نحو قمة الشارع الطويل المتجه صوب حديقة اللكسمبورغ، تتوقف بغتة عند منتصفه، تستدير إلى اليسار حيث الساحة المربعة بشكل متقن، تحفها من اليمين واليسار مقاه، تزينها صفوف من الطاولات والكراسي الفارغة.. كان الوقت مبكراً والجو بارداً، ومرتادوها يتزاحمون بالداخل، يتجرعون القهوة الاكسبرسو على عجل.

وعلى غير عادتها، لم تمعن النظر طويلاً  في المقاهي، كانت عيناها مصوبتين بخط مستقيم إلى صدر الساحة، إلى ذلك المبنى الضخم الذي يسد الساحة بالعرض، ولا يترك لها من مخرج إلا من جانبيه الضيقين..إنه.. “جامعة السربون”..

لطالما حلمت بالدخول إليها.. وكانت كلما دلفت إلى الحي اللاتيني ووطأت قدماها ذاك الرصيف الممتد بطول شارع “سان ميشيل”، تتفادى الانعطاف نحو تلك الساحة بالتحديد، حيث تعج بالشباب.. يغلقون أصابعهم على حقائبهم الملتصقة بجوانبهم، أو يحتضنونها، أو يسندونها بين دفتي أقدامهم… البعض منهم يرمي بها إلى خلف كتفه ويده ماتزال تقبض عليها، أو يعلقها من حزاميها على ذراعيه لتتدلى على ظهره. كانوا يتبادلون الحديث وقوفاً بشكل ثنائي أو جماعي، يتحلقون حول الطاولات يتسامرون لتعلو أصواتهم وضحكاتهم، أو تتماس جباههم وهم يتهامسون.. أو تتناثر كلماتهم وتلوح أيديهم في الهواء وهم يتناقشون بجدية..أو يتبادلون القبلات وهم يلتقون أو في سبيلهم إلى الافتراق.

كانت تقف، وبعينين راصدتين، تلتقط تلك الصور، حتى تكاد أن تميز بعض الوجوه، بل يخيل اليها أحياناً أنها تلتقي بها في أماكن أخرى بذات الملامح، وتصفيفة الشعر، أو حتى النظارات الطبية المستديرة التي لا تزيد العيون إلا وضوحاً.

كانت تشعر، كلما مرت بجوار تلك الساحة ورغبت في الاستدارة نحوها وشقها، بقدميها ترفضان الانصياع لها، تدفعانها إلى السير باتجاه واحد لا غير، خط مستقيم ينطلق من محطة مترو سان ميشيل حتى محطة مترو اللوكسمبورغ دون أن يتفرع إلى اليمين نحو تلك الساحة!

 لم يكن الوقت قد حان بعد.. كانت لاتزال تتلمس قواعد اللغة الفرنسية المعقدة وتتساءل لماذا يطلق الفرنسيون على الرجل صفة جميل بذات النطق الذي يطلق به على المرأة ، بينما اللغة الفرنسية المغناج قائمة على التذكير والتأنيث؟ كانت ما تزال تجد صعوبة في التفرقة بين نطق ضميري الغائب “هو” و”هي” ، وكلما صعدت أو نزلت شارع سان ميشيل، تبتهل إلى الضميرين المتشابهين وهي تطبق عينيها وتعتصر يديها بقوة. كانت وهي تمرر أصابعها على مفاتيح اللغة، تحاول بصبر فك طلاسم بودلير ورامبو، وتقرأ كتاب “كلمات” لجاك بريفير.. وتردد عن ظهر قلب “أنا كما أنا، هكذا خلقت….” ، وتتغنى بأغاني جاك بريل….

في ذلك اليوم.. كانت تسمع صدى خطواتها تقرع بقوة ذاك الشارع الذي عبرته عشرات المرات، أخذت ذات الاتجاه المستقيم، لكنها ما إن توسطت الشارع، حتى انعطفت دفعة واحدة إلى اليسار، كانت تشعر بقدميها تدفعانها، وبقشعريرة ترتجف لها أوصالها، أوعزتها في تلك اللحظة إلى برودة الصباح الباكر.

شقت الساحة بسرعة.. اتجهت نحو المبنى العتيق الذي يتربع على ضلعها، وقفت لثوان أمام الباب الخشبي القديم المطعم بمربعات من الزجاج حتى منتصفه. دفعت الباب… أحدث ضجة ولم يحرك ساكناً، تراجعت يدها عن الباب، وخطت خطوتين إلى الوراء…عندها فقط وقعت عيناها على لوحة معدنية ذهبية على حافة الباب أسفل المقبض الذهبي منقوشا عليها بالخط الأسود العريض (اجذب)، انصاع لها الباب ليناً دون أن يحدث أي صوت. ما إن وضعت قدمها على الأرض الصلبة حتى شعرت بأنها واحدة من ملايين دلفوا ذات المكان، كان البلاط صلباً ومجوفاً.. وجدت نفسها وحيدة في ممر طويل بعض الشيء تحصره جدران صماء بلون بني متسخ. كانت تبحث عن قاعة محاضرات مدون أسمها في ورقة ترتجف بين أصابعها، تتقافز نظراتها بقلق فيما بين الورقة والأبواب، لم تعثر علي أية إشارة تقودها، فقادتها قدماها المرتعشتان، وحدس متقطع في قلب يجوفه الخوف والرهبة.

واصلت السير في الممر لتتجاوز أبوابا خشبية عالية إلى يسارها ، منها المفتوح ومنها المغلق، بينما الجدار إلى اليمين لازال يتبعها أو تتبعه.. فجأة بعد أن تجاوزت إحدى القاعات، لمحت فتاة، عادت بقدميها إلى الوراء وتوقفت .. وقعت عيناها حينها على فتاة تجلس في منتصف القاعة وحيدة، تنظر في الفراغ باتجاه السبورة وكأنها تحلم يَقِظََة، استدارت ودخلت القاعة. تمتمت بصوت خجول “صباح الخير”، لم ترد الفتاة عليها وظلت تحملق بنظرات حادة في الفراغ. كانت القاعة خالية .. إلا من تلك الشقراء التي يكاد شعرها يشتعل شيباً من شدة الشقرة.

اختارت موقعها في القاعة من دائرة جلوس تلك الشقراء…. خلفها، إلى اليمين.. يفصلها عنها صف من الكراسي المثبتة عليها طاولات متحركة….. أحدث جلوسها جلبة في القاعة ولم تحرك الشقراء ساكناً.. كأن ظهرها مغروس في الكرسي… دقائق مضت في سكون قاتل إلا من قلبها يخفق رهبة وغيظاً، تنظر إلى تلك الشقراء من الخلف. أمالت رأسها قليلاً إلى اليسار لتتبين ملامحها، كان رأسها به استطالة خفيفة، وجانب خدها الذي تتبينه يعلوه نتوء دون حمرة، كان شعرها القصير الأملس يغطى باقي ملامحها، أعياها التلصص، فحادت عنها تقلب القاعة دون أن تتبينها، كانت دقات قلبها مازالت على وتيرتها المتسارعة، وما يزيد توترها شعور بصداها ينداح  في صدرها الأجوف….

بدأ الطلبة يتوافدون شيئاً فشيئاً، إلى أن امتلأت القاعة.. كانت الابتسامات تعلو محيا الوافدين، وتهتز الروؤس بإيماءات التحايا، فجأة.. أصبح المكان مألوفأ، وانبعثت ضوضاء محببة ، وسرى الدفء فيه.

تحولت القاعة إلى مكان تعرفه.. يحاضر الأستاذ في مادة قانون البيئة.. تتطاير كلماته في الهواء بانسيابية.. كالفقاعات الشفافة… تعكس أشعة الشمس المتسربة عبر النوافذ المستطيلة ذات الإطارات الخشبية على سطحها ألوان قوس قزح.. تحاول تلقف الكلمات، ورصها الواحدة بجوار الأخرى على ورق أصفر.. تتأمل الكتابة بتلك النوتة الموسيقية التي تداعب أذنيها.. تكتب وتكتب وتكتب ولا تعلم ما إذا كانت تراعي قواعد النحو الشاقة و ضوابط التأنيث والتذكير الصارمة، إلا أنها مازالت.. تكتب .. وتكتب.. تحاول تلقف أكبر قدر من الفقاعات المتطايرة في الهواء، تحاول رصها.. تتأمل الحروف تتشابك ببعضها البعض من اليسار إلى اليمين.

أمسك المحاضر عن الكلام.. لملم أوراقه وترك القاعة بخطى مسرعة، رفعت رأسها.. تتأمل ذاك الكم من الأوراق التي ملأتها…

وبينما ماتزال تمسك بالقلم الجاف بأصابع ضاغطة، وسبابة يدها الأخرى تنغرس في خدها، تنظر بإعجاب إلى كم الأوراق التي أمامها، إذ بصوت خافت يأتي من يسارها “عفواً.. هل لي أن أستعير محاضرة اليوم”.. حينها شعرت بحمرة تصبغ وجهها شيئاً فشيئاً.. لترى الكلمات تتجمع من جديد على سطح أوراقها، تتقافز منها بكل الأخطاء الإملائية والنحوية وقواعد التأنيث والتذكير…

التفتت إليه.. وبابتسامة عريضة .. وعدته بإحضار المحاضرة في المرة القادمة بعد إعادة كتابتها بخط واضح.. بسرعة البرق لملمت أوراقها .. وخرجت مسرعة. عند باب القاعة الضيق التقت وتلك الشقراء، التي تراجعت وتركت لها أولوية الخروج.. أومأت إليها برأسها وابتسمت..

تركت بوابة “السربون”.. تمشي بخطى واثقة.. تعلو وجهها ابتسامة.. عبرت الساحة دون أن تتوقف، انعطفت يميناً، نزلت شارع سان ميشيل.. دلفت إلى فتحة المترو.. نزلت درجاته قافزة بخفة.. لفح وجهها هواء ساخن منبعث من الداخل.. وقفت عند عازف الكمان، رمت في جرابه قطعة معدنية، اختفت وسط الزحام…. حينها فقط.. أصبحت لوحة من لوحات الحي اللاتيني.

فلورنسا/ فبراير 2009

مقالات ذات علاقة

فلسفة

إبتسام عبدالمولى

أهجـوس هطـول الرماد

آمال العيادي

عن الموت في قريتنا الوادعة

المشرف العام

اترك تعليق