قصة

المعطف الأبيض

دفع باب الألمنيوم الذي أصدر صريراً عالياً، وهو ينكأ ذات الخدوش البيضاء التي تشق البلاط الرمادي الصلد، استسلم لقدميه وهما تقودانه إلى اليمين، دون أن ينظر إلى الوجوه التي كانت تتفحصه بشئ من الرهبة و كثير من الاحترام. كان يرتدي بنطالاً من “الجينز”، وفانيلة بيضاء، عليها جاكيت بدون أكمام، وينتعل خفاً رياضياً… كان زيه لا يتناسب والمكان.

لم يلق بالتحية على أحد.. ضغط زر المصعد، لم يضيء، ضرب عليه بقبضته، استدار وصعد السلالم بخفة، وهو يضغط على أسنانه.

يلف المكان بأكمله صمت قاتل، والليل هبط دفعة واحدة، ومصابيح “النيون” المستطيلة مثبتة على الحوائط بعضها يرتعش احتضاراً، وبعض منها خامد، وما تبقى يبعث ضوءا أبيض يسري في المكان برودة وكآبة. وبين الفينة والأخرى تشق الصمت أصوات نسائية حادة كأنها تتعمد لكث الآذان وجرح طبلاتها. كان يكره هذه الأصوات ويتمنى لو كان بإمكانه لجمها نهاراً، فما بالك وهي تخدش غشاء الليل !

وقف أمام باب أبيض واسع، تلتصق بإحدى دفتيه امرأتان ترتديان معطفا أبيض تتقارب رأساهما حتى تتماسا، تهمهمان، وتمطقان شفتيهما وكأنهما تأكلانهما بشراهة، ما إن انتبهتا إليه، حتى خرستا فجأة إلا من رجع حديثهما. دفع الباب، ودخل إلى غرفة فسيحة، ذات نوافذ تتمدد طولاً وكأنها تنفث السواد وتزيد الحجرة قتامة، تتناثر بعض المصابيح هنا وهناك مثبتة أعلى الأسرة المتباعدة والملتفة حولها سكك معدنية تتهدل منها ستائر زرقاء مبقعة بألوان تميل إلى البرتقالي والبني.

 ضاقت عيناه شيئا فشيئا، ولمعتا في العتمة، تبحثان عن شيء ما، تراءت له أجساد ممددة على أسرة حديدية مطلية بالأبيض، تآكل طلاؤها فبدأ الصدأ ينخرها، تغلفها أقمشة رقيقة تخترقها ألوان الفرش الرمادية، بعضها تدلى على الأرض، والآخر انكمش تحت الأجساد المرتخية، منها المغطاة ومنها العارية، سيقان وأذرع تتهدل بين جنباتها، رؤوس مائلة، أجفان مطبقة، أفواه فاغرة، صدور تعلو وتهبط بتؤدة، بعضها يحشرج، والآخر تعينه آلة التنفس الاصطناعي، أو كمامة الأكسجين الصفراء.

في طرف الغرفة، أمام خزانة متحركة ذات أدراج، تقف إمرأة قصيرة القامة، ممتلئة، ذات شعر قصير أسود فاحم يحف شحمتي أذنيها، ترتدي زياً ابيض، تحرك يديها بحرفية بين العلب والأكياس، حيته بلغة إنجليزية ذات لكنة، فأومأ إليها برأسه. بان له خلف إحدى الستائر شبح جسد طويل، نحيل، مقوس، يتكلم بصوت خافت، بينما يرد عليه أنين رجل. فجأة انتفضت الستارة بقوة حتى علقت بالسكة الحديدية، ظهر من خلفها رجل يرتدي بزته البيضاء القصيرة، ويبتسم، يحمل بين يديه زجاجات فارغة، وأغلفة بلاستيكية.

تبادلا النظرات، سأله عن الحالة التي أستدعي من أجلها، أشار نحو ستارة تحجبها، رفعها ودخل إليها، كانت ممددة بلا حراك، فتاة في العقد الثاني من العمر، سمراء، نحيفة، فاقدة للوعي،  وجهها جامد جمود الموتى، وشفتاها جافتان، أمسك بيدها، وجدها باردة ومرتخية. تحرك نحو نهاية السرير، رفع الملف إلى عينيه، وبينما كان يتصفحه، أخذ ينظر إليها من حين لآخر، عرف اسمها دون حاجة لأن يعرف عنها المزيد، وأنها محالة من مستشفى آخر يقع بمدينة أخرى، تفصيل لا يهم  كثيراً، لكنه فجأة تذكر أنه في طريقه إلى الغرفة لم يجد تجمعاً لأقارب ينتظرون، كما جرت العادة، يجوبون الممر بوجوه قلقة، يرتفعون على أصابع أقدامهم كلما فتحت ضلفة الباب، ويمدون أعناقهم ويحركون رؤوسهم، كالسلاحف، علهم يرون ذاك الوجه المألوف الذي ينتظرونه، يتتبعون حواشي أي معطف أبيض، يحاولون فك طلاسم الكلمات التي يقذفها صاحبه، أو ينتظرون بفارغ الصبر والقلق أية كلمة تهم بالخروج، يسحبونها من طرف الفم، يضعونها على قلوبهم وينتظرون، منهم من يعلو صوته ويحتدم، ويشتط قوله، ويشد قميصه بعصبية شاكياً ومنتقداً، لينتهي به الأمر طائعاً معتذراً.

لم تكن الأجساد التي ترتدي المعطف الأبيض واحدة، منها الطويل ومنها القصير، منها الممتليء ومنها النحيف، ومنها الإناث ومنها الذكور، إلا أن الأهم أن منها من يعلم ومنها من لا يعلم، ومنها صاحب قلب إنساني كبير، يرهف للمعاناة والألم، يستجيب قلبه قبل أذنه لأنين البشر، يقدم العطف قبل الدواء ويكشف عن المريض ووجهه ينطق قبل لسانه، ومنهم المتعالي، المختال في المعطف الأبيض، كأنه قيصر في مدرج روماني عملاق، يتفرج على المرضى والجرحى يصارعون، يحرك بالكاد أصبعه بالأوامر، لا يبتسم إلا ليهزأ بهم، أمام معاونيه وطلابه.

حضرت فتاة تطرقع بحذائها فترتج معه جنبات الغرفة الواسعة، نزع سماعته وركز عينيه بصمت على قدميها، أسدلت جفنيها، ولفت قدمها خلف الأخرى، مدت إليه بورقة بيضاء مرسوم عليها جدول كتبت عليه أرقام، تجهم وجهه، نظر إلى الفتاة الممدة وسارع يعمل بهمة منكساً رأسه كأنه ميكانيكي ينغمس حتى منتصفه في محرك، عادت الفتاة أدراجها، تسير على أطراف أصابعها.

كانت الغرفة تطل على شارع رئيسي بعيد يحف شاطيء البحر، وكانت أصوات السيارات البعيدة وهي تختلط بهدير الموج تصل كخفق النعال المتتابع. مضت فترة ليست باليسيرة، هجعت معه الأصوات البعيدة، بينما مازالت الهمهة والأنين والحشرجة تتعالى من حين لآخر داخل الغرفة.

 رفع رأسه، تنهد بصوت عالٍ ثم نزع قفازيه، جلس على كرسي بدون مسند، يدور على عجلات، إلى جوار الفتاة، مد ساقيه تحت السرير، وأخذ يحدق بها، مازال وجهها جامداً، عيناها غائرتين، فمها فاغرا قليلاً يكشف عن حافة أسنان الفك العلوي، ذراعها ممدوة ترتشق بها أبرة تتصل بأنبوب يرتفع حتى يثقب علبة بلاستيكية مليئة بسائل شفاف. كان قد حقنها بأدوية ذات فعالية عالية، إلا أنه لا يرى استجابة تذكر، أرجع رأسه إلى الوراء، نظر إلى السقف، تبينت له أعشاش العناكب وهي تهتز على وقع الحركة في الغرفة، بعضها ممزق تتهدل خيوطها كأنها رماد يتساقط، دفع كرسيه إلى الخلف، و نزل بعينيه إلى الحائط، رأى لأول مرة قطرات بنية متجمعة عليه، وأخرى متناثرة، بعضها خد الحائط وكأنها مجار متعرجة قصيرة، قطب حاجبيه، وتساءل كيف لم يتبين له كل هذا من قبل وهو الذي يمضي نهاره في هذه الغرفة.

أمعن النظر في الأسرة سمعها تئن مع المرضى الملقين عليها، الصدأ يعلو حديدها، فُرُشها نحيفة كالوتد، أغلفتها قديمة ومهترئة، شديدة الشفافية حتى تكاد تكون لامرئية، أحدها يعرج، وقد بترت إحدى عجلاته، أدار عينيه في الغرفة يبحث عن ورق مقوى يمكنه أن يدعم به قدمه. أنزل بصره إلى الارض، فوجد آثار المسح والتنظيف على البلاط كعجلات السيارات على الطرق الترابية المبللة، ورائحة الديتول تفوح منها، تشوه وجهها الشقوق والحفر، وتتجمد بين مربعاتها خطوط سوداء. أشاح ببصره، فوقعت عيناه على الحمام الذي وجد بابه مفتوحاً على اتساعه بينما كان يراه موارباً أو هكذا أعتقد، كانت أنابيب الأكسجين متراصة به دون اعتناء، والأحواض البلاستيكية مرمية على الأرض.

عاد ينظر اليها، أمسك بيدها، فتح عينيها بأصبعيه قسراً، ربت على خديها، تبين له أن حمرة خفيفة شرَّبت جلدها الأسمر، شعر بالراحة وتنفس الصعداء، نهض، أعطى تعليماته للمرأة الممتلئة التي مازالت يداها تعبثان بالخزانة أمامها وكأن لاصلة لهما بجسدها، نظر في ساعته.. كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بساعة، مد قده ومط ذراعيه، تمنى لها ليلة طيبة، خرج من الغرفة، وجد المرأتين المرتديتين  المعطف الأبيض ما تزالان في ذات البقعة تهمهمان، بينما طرقات الكعبين تدوي في بئر السلم، خرج من المبنى سريعاً بينما الصيحات النسائية لا زالت تنداح خلفه في الظلمة.

نام نوماً عميقاً، وحين أفاق، عاد إلى حيث كان بالأمس مرتدياً المعطف الأبيض. كان المكان يعج بالحركة، اتجه الى المصعد، إلا أنه سرعان ما استدار قبل أن يصله، صعد السلالم بخفة، دفع ضلفة الباب الأبيض ودخل، كان الضوء يعم الغرفة، أشعة الشمس ترسم أشكالاً على الجدران، وقع بصره عليها، وجدها جالسة، الستارة مرفوعة، تتناول طعام الإفطار بنهم، تلعق أصابعها بين الفينة والأخرى، تنفس الصعداء وابتسم، رفعت رأسها، نظرت إليه، ثم سرعان ما التفتت عنه، تناولت قنينة الماء، جرعت منها، أعادتها على الطاولة أمامها، ثم استأنفت تناول طعامها.

طرابلس 16. 4. 2009

مقالات ذات علاقة

يا ليبيا ياجنة

إبراهيم حميدان

المنفى

خيرية فتحي عبدالجليل

القلم

فتحي محمد مسعود

اترك تعليق