ما سأطرحه مجرد خلط للأسئلة وبطريقة سيئة ربما، فالموضوع قديم جديد، وهو شائك وإن بدا غير ذلك للذين يفضلون دراسة التاريخ برؤية أحادية، وسيكون قولي واضحًا دون مواربة، أي دون لغة مخادعة تتخفى خلف زركشة أدبية تزعم الوضوح رغم بعدها عنه.
أقول إن الهوية مرتبطة بالجماعة، توجد بوجودها وتموت بموتها، ومن أجلها وفى سبيلها يسقط الضحايا موتًا أو نفيًا أو سجنًا في نزاعات وحروب أهلية داخلية وأحيانًا خارجية عندما يتهددها عدو خارجي أو داخلي، وهذا يعنى أن الأمة تبحث عن هويتها أثناء أزماتها، والمفارقة أن مصطلح الهوية مشتق اصطناعيًا من ضمير الغائب .. هو .. لكنها تعود إلى ضمير المتكلم أنا ونحن، هذه المفارقة لغويًا تمنحنا حقيقة موضوعية بسيطة ومؤكدة وهى أنا ((أنا)) و((هو)) يتبادلان الوجود أي أن وجود الشيء مرهون بنقيضه، فحيثما توجد الأنا يوجد الآخر المقابل، وتبقى بعد ذلك جملة من الأسئلة .. من هو هذا الآخر المقابل؟ أين تكمن خصائص هذه الهوية؟ ما هي أبعاد التأثير المتبادل بينهما؟ ثم أي آخر؟ .. داخلي أم خارجي أم هما معا؟ ..
متى تبحث الأمة عن هويتها؟ هل تبحث وهى مجبرة أم تبحث وهى مختارة؟ ثم بأية أداة؟ .. مَنْ هم المعنيون بالبحث عنها .. المفكرون والمثقفون أم العسكر؟ .. لماذا كان للنخب العسكرية الدور الأول في إحياء هذه الهوية والدفاع عنها؟ .. هل هذا يعنى شرطًا لازمًا بينهما؟ لماذا لم تخرج الأمة من أزماتها بعقلها؟
هذه أسئلة خاض فيها العقل العربي دون أن يتوصل إلى اتفاق حولها سواء من حيث تحديد خصائصها أو من حيث تحديد وتعيين الآخر المقابل، والسبب كما يبدو لي يكمن في التناقضات الحاصلة في هذا العقل. فبقدر ما يناضل من أجل مستقبل حر وبلا قيود، فهو من جهة أخرى يناضل باستماتة من أجل التشبث بموروث أسطوري فقد صلاحيته في زمن الهندسة الوراثية، مبررًا هذا التشبث بالأصالة التي يرى فيها جوهر الذات العربية والإسلامية، وهو ينادى بالانفتاح على الحضارات الأخرى ويرفع سيف الاستلاب والتغريب على كل رأى ينادى بلقاء الحضارات، وهو يخلط بين الدين وبين الفكر الديني، وهو أسير مدارس دينية متعددة تشكل في مجملها مرجعية أولى في تفكيره رغم التناقضات الحاصلة بين كل هذه المدارس، وهو يعالج الظواهر الفكرية بدءًا من نهاياتها ويتجاهل مقدماتها وأسبابها، وهو في جوهره عقل تصالحي يسعى دائما لعقد اتفاقيات مع كل الأطراف في وقت واحد، وهو يسعى إلى أن يكون أصوليا وحداثويًا في نفس الوقت، وهو يتجاهل الواقع ويفضل في تحليلاته الاسترخاء على ضفاف نظريات سابقة زمانًا، ومختلفة مكانًا، وفى المطلق هو عقل جبان يفضل اللعب على كل هذه التناقضات، وهذا ما يضاعف من حدة الأزمة ويؤكد دوامها، ويؤكد بالتالي عجز هذا العقل عن الخروج منها.
وهذا ما يجعل من البحث في الهوية مجرد لغو مكرر إلى أن يواجه العقل القضايا الفكرية والفلسفية ويضيئها بتفكير علمي خالص، خاصة تلك القضية التي كانت هاجس المفكرين المسلمين، وهى قضية العلاقة بين الفلسفة والدين، وهو ما فعله فيلسوف قرطبة ابن رشد عبر دفاعه عن العقل وحرية التأويل وحق الإنسان في التفكير والكتابة، وفى ظني أن هذه القضية كانت ومازالت ميدانًا لصراع بين المذاهب الفكرية والدينية على اتساع العالم العربي والإسلامي، وهو صراع سقط فيه ضحايا بالعشرات وأحيانًا بالمئات، ولعلنا نسمح لأنفسنا بالقول هنا: إن هذه العلاقة بين الفلسفة والدين والتي لم تحسم بعد، هي ما على العقل في هذه الظروف أن يواجهها قبل أي قضية أخرى. قد يقول قائل: إن هذا ليس بجديد على العقل، فمنذ الإرهاصات الأولى عند المعتزلة وحتى ابن رشد وإلى يومنا هذا، لم يخرج العقل العربي والإسلامي عن هذا السؤال وما يتفرع منه من أسئلة أخرى، وهذا صحيح، لكن من الصحيح أيضًا أن المتغيرات التاريخية والحضارية دفعت بالعقل إلى مفترق طرق لا مناص له من الاختيار بينها، فالواقع العربي وصل إلى درجة من التردي ليس بعدها إلا الموات، فبرؤية موضوعية سريعة لما يتحقق من حولنا من تقدم اقتصادي واجتماعي وسيأسى ومن ثورات علمية متعاقبة ومحاولات الغرب للهيمنة على مقدرات الأمم لطمس هويتها تجعل من هذا الاختيار قدرًا محتومًا .
من أين نبدأ على رأى خالد محمد خالد؟
الهوية تعنى الذات ((أنا ونحن))، وحيثما وجدت أنا ونحن، وجد هو وهم، وهذا من تحصيل الحاصل لأن ((نحن)) و((هم) يتبادلان الوجود وليس لأحدهما وجود دون وجود الآخر المقابل، وهذا يعنى أن الاتفاق حول خصائص هذه الهوية مرتبط وجوبًا بالاتفاق حول مَنْ ((نحن)) والاتفاق حول مَنْ هو الآخر وما هي خصائصه، فعندما نقول: ((نحن)) من نحن؟ هل نحن بالجنس واللغة والدين؟ أم بواحد منها .. أم بالجنس واللغة .. أم بالجنس والدين؟ هل نحن العرب؟ أم نحن العرب المسلمين؟ وماذا عن الآخر؟ هل هو خارج عنّا أم هو كامن فينا؟ هل هو ((الغرب)) أم هو تخلفنا؟ وإذا كان ((الغرب)) فكيف هي العلاقة معه .. هل هي ((صراع) أم ((لقاء)) هل هو متغير أم ذو وجه واحد؟
لست أعتقد بمن يقول بإلغاء الآخر ((هو) أو بعدم الاعتراف بتأثيره وتأثره بهوية «نحن)، فالتاريخ حتى في بداياته القبلية يؤكد هذا، حيث كانت هوية القبيلة ومكانتها تتحدد عبر وجودها وصراعها مع القبائل الأخرى حول مصادر المياه ومناطق العيش، ونحن العرب رغم كل ما مر بنا من متغيرات تاريخية، إلا أننا لم نجب بعد على هذه الأسئلة، كما لم نتفق بعد على تعيين الآخر المقابل.
هل تفقد الأمة هويتها إذا فقدت قوتها؟ وأين تكمن قوتها؟ في جيوشها أم في علمائها .. في حرية مواطنيها أم في استعبادهم .. في تداول السلطة أم في احتكارها .. في مدينتها أم في قبيلتها؟ في عصبيتها أم في مجتمعها المدني؟ كيف يمكن البحث في هوية أمة فقد المواطن فيها هويته عبر مظالم سياسية واقتصادية واجتماعية؟ لعل شواهد التاريخ تجيب على هذا السؤال، ولعل هذه الشواهد تعود بالذكرى إلى عصر الانحطاط أو ما سمى بعصر التدوين وكيف خرجت الأمة من هذا العصر لتصنع نهضة مازلنا حتى اليوم نعتز بها ونفاخر بها الآخر المقابل ونعيش على تراثها، لكن هذه النهضة صارت تاريخًا في الكتب فيما عجزت الأمة في عصرنا هذا، ورغم المحن التي مرت بها عن صنع نهضة أخرى تستعيد بها هويتها، وإذا كانت الترجمة لآداب وعلوم الأمم الأخرى كانت هي المفتاح الذى فتحت به الأمة الطريق لنهضتها ذات يوم، فما أحوجنا اليوم لفتح طرق جديدة نستعيد بها هويتنا الضائعة، وهذا في يقيني لن يتحقق إلا بالاختيار .. وهو اختيار الفرصة الأخيرة.
نحن أمام عدة اختيارات، لكنني أستبعد اثنين منهما؛ لأن الأول: يعنى نهاية تاريخ الأمة، فيما يعنى الثاني: تبعية مطلقة لهوية الآخر.
الأول: الذى يقول بالذات محكومة بآخر واحد مقابل؛ لأنه وبأدواته الاقتصادية والعلمية والعسكرية يمتلك بالواقع وبالوقائع تغييب هذه الأنا التي نبحث عنها وفى خصائصها. ومثالهم على ذلك: الهيمنة الأمريكية على العالم، ومنظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، إلا أن هذا الاختيار يصطدم كما قلت بجواب واحد مباشر، وهو أن التخلي عن الذات استجابة لقوة الآخر المقابل، إنما يعنى نهاية تاريخ الأمة.
الثاني الذى يقول: بالتوفيق بين الأنا والآخر المقابل، أو كما يسمى بلقاء الحضارات، لكن هذا القول في رأيي يصطدم بحقيقة يعاند العقل العربي في الاعتراف بها، وهى أن حضارة الهوية التي نبحث عنها وفيها إنما هي حضارة ماضوية تحول دون أي لقاء بالحضارة الأخرى، حضارة القرن الواحد والعشرين وما بعده، اللهم إلا لقاء التابع والمتبوع، فنحن موجودون كجنس وغائبون كحضارة، أما القول بامتلاك منجزات الآخر دون عقله ((الأفكار المستوردة؟)) إنما هو محض خيال يجافى حقيقة ما هو حاصل، والحاصل أننا وبنظرة سريعة لواردات وصادرات أي بلد عربي يتأكد لدينا أننا لم نتجاوز بعد مرحلة الاستهلاك، استهلاك منجزات الآخر من حبة القمح التي كنا ذات يوم مصدرها الأول إلى آخر ما في معارض الأسلحة من طراز مرورًا بالمنجزات الحاصلة في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، فقد اشترينا وامتلكنا واستعملنا ركامًا من منجزات الآخر العلمية وفى كل المجالات لكننا لم نفلح إلا في الاستفادة وبأقصى فاعلية من حبة ((الفياجرا)) والتي تؤكد الإحصائيات أننا أكبر مستورد لها إلى الحد الذى جعل دولة عربية تسعى لإنشاء مصنع لهذه الحبة.
إذن .. في أية هوية تجد الأمة نفسها؟
هنا موضع الاختلاف، الاختلاف حول خصائص الهوية المبتغاة، والاختلاف حول تعيين الآخر المقابل، وسنبدأ بالاختلاف حول الخصائص.
ما من شك في أن من أسباب ما وصلت إليه الأمة من ضعف وهوان هو بحثها الدؤوب عن هويتها دون اتفاق حولها، من عربية إلى عربية إسلامية إلى إسلامية إلى غير ذلك من مسميات، حتى أضحى البحث عن الهوية أشبه بالبحث عن الإبرة في أكوام من القش، ولعلى أزعم هنا أن الاختيار في المدى الأبعد سيكون بين هويتين:
دينية: ركيزتها الإسلام بالقرآن الكريم وسنة رسوله وهو خاتم الأنبياء لأنه؛ صالح لكل زمان ومكان، ولأنه جامع لكل الأمة، ولا مجال للاجتهاد في البحث عن أية خصائص أو سمات خارج القرآن والسنة، لكن المفارقة أنه حتى عند المنادين بهذه الهوية الدينية يبدو الاختلاف ظاهرًا، بين فريق يقول بحرفية التطبيق، وآخر يقول: بالاجتهاد، وثالث يقول: بالتطبيق مجردًا عن تاريخه، ذلك لأن التاريخ قد ألحق بالنص القرآني ضررًا مؤثرًا وقوَّله ما لم يقله، خاصة إذا علمنا أن التاريخ يكتبه الذين يحكمون، وما تنوع المذاهب الإسلامية والفقهية والاختلاف الحاصل بين اجتهاداتها في تفسير النص إلا دليل واحد على ذلك، وفى المطلق تبقى حقيقتان، الأولى: استحالة تكرار تجربة حكومة الخلفاء الراشدين، والثانية: الاختلاف حول خصائص هذه الهوية الدينية بين قطر وآخر، واعتقاد كل قطر وحتى كل فريق إسلامي أنه هو ممثلها الأوحد، وهذا في رأيي من أسباب تفرق الأمة؛ لأنه تحول إلى صراع على العقيدة.
علمانية: ركيزتها الفصل بين السلطتين المدنية والدينية، وفى ظني أن هذا الاختيار للهوية لم يجهر به إلا عبد الرحمن الكواكبي في القرن التاسع عشر انطلاقا من أن ((الدين ما يدين به الفرد لا ما يدين به الجمع) و((لا يوجد في الإسلامية نفوذ ديني مطلقا في غير مسائل إقامة شعائر الدين»، ففي كتابه أم القرى أكدّ على هذا المبدأ، وذلك من موقعه كعلم ديني يصبو إلى تعزيز شأن الإسلام بعد تنقيته من كل الاجتهادات التي تناقض حقيقته وفى طليعتها التعصب الديني» وفى كتابه طبائع الاستبداد ربط بين الاستبداد والدين؛ لأنه ما من مستبد سيأسى إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقام ذي علاقة مع الله، ورغم أنه أكد على الفصل بين السلطتين إلا أنه كما يرى ((جان دايه)) ((يرفض الدولة العلمانية التي تستوحى العلم دون الدين في سائر تشريعاتها وقوانينها، إنه يدعو إلى حكم يرتكز على مبدأ الفصل بين الدين والدولة ولكن ليس بصورة مطلقة، إذ لابد من تشريعات تستوحى من الدين الإسلامي)) ويستشهد الكواكبي بأمم أخرى هداها العلم لطرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي.
هذه المرجعية التي عدنا إليها تعنى أن العقل العربي تراجع عن مسيرته التي بدأها في القرن التاسع عشر، إذ لم يقدر لمشروع هذا العلم الديني الجليل أن يطرح مرة أخرى ويتواصل فيه البحث والجدل بين المفكرين الذين تعاقبت أجيالهم خلال كل هذه السنين، والسبب في رأينا هو: أن هذه الدعوة ارتبطت في أذهان الكثيرين على غير حقيقتها، حتى ترسخ في الأذهان أنها تعنى خروجا عن الدين وهى ليست كذلك، وقد كان لشيوع هذا الفهم الخاطئ أثره على الباحثين في الهوية وعن خصائصها ففضلوا كما يقول المثل الإنجليزي الدوران حول الشجرة دون الاقتراب منها. هذا هو حال العقل العربي في وقتنا الراهن … لماذا؟ … الجواب له علاقة بالحرية كما سنبين مباشرة عند سؤال الآخر المقابل.
قلنا إنه حيثما وجدت الأنا وجد الآخر، والسؤال من هو هذا الآخر المقابل؟ فعبد الله العروي على سبيل المثال يرى أن الآخر هو الغرب، وهذه في رأيي نظرة أحادية، فالآخر المقابل يمكن أن يكون داخليّا بل يمكن أن يكون الأكثر فعلاً في تحديد خصائص الهوية، صحيح أن نهوضها أو البحث فيها ارتبط بالهيمنة الاستعمارية، وقد تجلى ذلك في حركات التحرر من الاستعمار الإنجليزي والفرنسي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فالمشروع القومي نهض تحديًا لهذه الهيمنة واستجابة لمطالب الأمة في الحرية، لكن من الصحيح أيضًا أن هذا المشروع بعد أن حقق طرد المستعمر الخارجي، صار بديلا له فصادر الحريات واعتقل العقل، هكذا ذهب استعمار خارجي وحل محله استبداد داخلي؛ مما يعنى أن طرد المستعمر لم يلغ سؤال البحث عن الهوية، بل إن البحث فيها وعن خصائصها صار أكثر إلحاحًا والشغل الشاغل لكل مفكر وباحث في الراهن العربي ومستقبله؛ ذلك لأننا أمام اختيار الفرصة الأخيرة.
إن البحث عن الذات الضائعة أو الغائبة كما أرى مرتبط بضعف الأمة، وهو يأتي في زمن الضياع والهوان وفقدان الأمل .. وضعف الأمة هو منها وليس من أحد سواها، وعلينا أن نسلّط الضوء على المناطق المظلمة في كيان الأمة من أجل كشفها والتعرف عليها، ومن ثم التعامل معها، ولم يكن عبد الجواد ياسين ببعيد عن هذه الحقيقة عندما قال في كتابه السلطة في الإسلام: (إن أصول الخلل في تاريخ الأمة ترجع إلى بدايات سابقة على الحقبة الغربية بأمد غير قصير، فبرغم قدم هذه الحقبة الغربية، ولفرط انشغالنا بنقد الحضارة الغربية، بدت لنا وكأنما نراها لأول مرة، فقد جاء الغرب في مطلع القرن الماضي (19) بعد أن كانت الأمة قد تهيأت لاستقباله طويلاً بكل أسباب الوهن والموات) ولو حاولنا أن نقترب قليلاً من تفاصيل الوهن لوجدناه يتمثل في جملة من المؤشرات، منها على سبيل المثال فقط، تردى التعليم، وازدياد معدلات البطالة، وتدنى فاعلية مؤسسات المجتمع المدني، والأمية المرتفعة بين النساء (%50 إلى 70%)، والفقر، وتزايد هجرة العقول العلمية إلى الخارج، والفساد الإداري والمالي، وركود معدلات النمو، وتدني استخدام طاقات المرأة التي هي الأدنى في العالم، وارتفاع نسبة الأمية (42% إلى 60%) ورغبة الشباب في الهجرة إلى الخارج (51%) وعدم استخدام عوائد النفط بشكل منتج، وغياب الحرية ونقص المعرفة، واستبداد الأنظمة بمختلف مسمياتها، وانتشار الخرافة والشعوذة في زمن الهندسة الوراثية والبيولوجيا الحيوية.
هذه كارثة حضارية لها أسبابها الجذرية.
أعطى أمثلة:
المثال الأول: فساد أنظمة الحكم فهي لا تخرج عن حكم العائلة أو القبيلة أو العشيرة والتي غالبا ما تتمثل في فرد واحد، ملكًا أو رئيسًا أو حاكما مطلق الصلاحية، ومن ثم تحولها إلى نظام حكم وراثي لا يؤمن بحق للآخر إلا في الطاعة العمياء للمؤسسة الحاكمة: وهى مؤسسة تسيطر عليها القبيلة أو العائلة، وإن انطوت تحت مظلة أي من المسميات السياسية للعصر الحديث. وهذه أولى الأزمات وأخطرها، وهى أيضًا أقدمها، فمنذ أن استولت العائلة الأموية على السلطة لم تشهد الأمة العربية والإسلامية غير سلطة العائلة المعززة بقبيلتها وبجهاز أمنها ومخابراتها.
تحويل الرسالة الدينية إلى مدونة قانونية وضعت تحت تصرف الدولة وحسب حاجاتها السياسية، وتحويل السلطة الدينية والروحية إلى اختصاص علمي يتجسد في فئة علماء الدين والفقهاء كما يقول برهان غليون.
المثال الثاني: التخلف الاقتصادي، واعتماد الوطن العربي على اقتصاديات الغرب، وعجزه حتى عن توفير ما اشتهر به وهو الغذاء من الحبوب لمواطنيه، جعل منه تابعًا وخاضعًا لشروط السوق الخارجية، وهى شروط تلامس في كثير من الأحيان سيادته الوطنية وسياساته.
المثال الثالث: غياب الوعى بتطور جدلية التاريخ أدى إلى تراكم وعى تاريخي واحد ذي سكونية عاجزة عن فهم التطور التصاعدي الطبيعي للمجتمع، من الطور الأدنى إلى الطور الأعلى عبر تطور أشكال النشاط الإنتاجي كما يرى ابن خلدون.
المثال الرابع: غياب الديموقراطية غيابًا يكاد يكون مطلقًا، أدى إلى جمود في الفكر وفي التعبير وفى المبادرة، يؤكد هذا تمركز السلطة بين يدى رجل واحد وعدم تداولها عبر اختيار حرّ مباشر، على أن ما يثير السخرية هنا، هو أن المثقفين العرب كلما اجتمعوا في مؤتمر أو ملتقى لا يترددون في تضمين بيانهم الختامي وتوصياتهم نداءً يوجهونه إلى الحاكم يطالبونه فيه بتوفير الحريات عملاً ومعتقدًا، وغاب عنهم أن هذه الحريات لا تمنحها الأنظمة الحاكمة لأنها بطبيعتها التي أشرنا إليها.
المثال الخامس: إقصاء الجغرافيا والتاريخ من أي جدلية تبحث في الذات الغائبة أو المغيبة، فمواقع البلدان، وسطية أو طرفية أو مركزية، تساهم مع عوامل أخرى في تشكيل كيان الأمة، وتحدد بالتالي تأثيرها وتأثرها بمَن جاورها، أما التاريخ فهو امتداد في جذور الزمن الموغلة في القدم، إلا أنه ليس زمنًا مفرّغًا من أدواته، إذ إن السؤال المهم هو .. ماذا أنجز هذا التاريخ لهذه الأمة؟ لكن المفارقة العجيبة هي أن هناك أممًا مسلوبة من تاريخها ومع ذلك استطاعت أن تخلق ذاتها المتفردة والمتميزة إلى حد إقصاء الآخر. ولعل أمريكا خير مثال على ذلك، إذ إن منشأها في الزمن لا يتجاوز الأربعة قرون.
المثال السادس: الفكر الطائفي: أفرز مواقف ورؤية شوفينية تجسدت في كثير من أدبيات بعض المفكرين العرب ممن انشغلوا بسؤال البحث عن الذات، والمثال على ذلك: (لبنان ومصر والعراق وموريتانيا رغم التباين بينها) وهذا مرده أن الدساتير العربية تنص صراحة على أن دين الدولة هو الإسلام رغم تعدد الإثنيات في هذه الدول، الأمر الذى أفرز بدوره دعوة مضادة تقول بعلمنة الدولة، وعدم النص على إسلاميتها، ويكاد يكون من شبه اليقين أنها لن تنتهى إلا بفرز نهائي بين الاثنين، فالإمبراطورية الأمريكية الزاحفة لامتلاك كل شبر على الكرة الأرضية، ومنظمة التجارة العالمية، والعولمة، والتطور المذهل الذى تشهده العلوم الطبيعية، والثورة الحاصلة في الهندسة الوراثية، كل هذا لن يكون ببعيد عن التأثير في الصراع بين النقيضين، وفى رأيي أنه لن يكون هناك احتمال لوجود وسطية توفيقية بينهما وإن طال الزمن.
من كل ما سبق يكاد يكون من شبه المؤكد أن البحث في الهوية وعن خصائصها سيبقى مجرد ثرثرة حتى يتحرر العقل من عبوديته، فالحرية أولاً والحرية أخيرًا .. فمن هنا نبدأ.
___________________________
مجلة عراجين | الهوية الضائعة في عالم متغير، يوسف الشريف، العدد: 1، 01 يناير 2004م، ص: 61-67.